الجمعة 25 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
«لويس جريس».. رحيق الحكمة

«لويس جريس».. رحيق الحكمة


قررت أن أشن حربًا ضد د.«مصطفى محمود» وأنا لم أزل بعد مراهقًا فى العشرين من عمرى.. ذلك أنه هاجم المدرسة السيريالية فى الفن التشكيلى بمقال له فى مجلة صباح الخير هجومًا عنيفًا.. ووصفها بأنها مجرد شخابيط لفنانين مأفونين أو أفاقين يضحكون على المتلقين.. فقررت أن أكتب مقالًا ناريًا أتهمه فيه بالجهل الفنى.. وأستنكر أن مفكرًا كبيرًا مثله يتصدى بالكتابة فيما لا يعلم.. ومدى خطورة تأثير ذلك على القراء الذين يثقون فى علمه ويؤمنون بأفكاره..

اتجهت بالمقال إلى الأستاذ «لويس جريس» رئيس تحرير مجلة «صباح الخير» فى ذلك الوقت.. دخلت حجرة مكتبه المفتوحة على مصراعيها بلا استئذان.. فهو بلا سكرتارية وهو يقبع خلف مكتبه محاطًا بعشرات الصحفيين والمحررين والكتاب والزائرين.. يعمل ويتحدث ويناقش ويقترح ويؤشر على مقالات بالموافقة.. ويطلب المطبعة ويصدر تعليماته برفق وود.. ويلاطف ويداعب البعض.. ويحنو على آخرين.. ويساند الجميع دون تحفظات.. ويحتوى المشاكل المعقدة قبل تفاقمها.. ويعامل الجميع باعتباره أولاده.. ويفتح لهم الطريق.. فأياديه البيضاء تمتد لمحررين وصحفيين مبتدئين يشجعهم ويحتفى بطموحهم ويحلم معهم بمستقبل مبشر.. إنه صاحب فضل عميم على أجيال كاملة تعلمت ونمت وكبرت ولمعت وتألقت برعايته وتشجيعه..
المهم أنه استقبلنى بأدبه المعهود بود وتواضع جم.. وأكد لى أن حق الاختلاف مكفول للجميع فى مجلة القلوب المتحررة والعقول المتفتحة.. وأشعرنى أنى مفكر كبير.. وفيلسوف قدير لا أقل قيمة أو مكانة عن «ديكارت» رهن وجوده ومن ثم فلسفته على الشك وشعاره: «أنا أشك إذا أنا موجود..بينما أنا لا أشك فى تردى «مصطفى محمود» فى خطأ فادح.. بل أنى متأكد من ذلك قال لى:
حسنًا.. أنت فيلسوف شعاره: «أنا متأكد.. إذًا أنا موجود»..
ووعدنى بالنشر فورًا فى العدد القادم.. وصدق وأوفى بوعده فطرت من الفرح.. أما والدى – رحمه الله – فقد قرر بروزة المقال وتعليقه على جدار فى حجرة الضيوف.. لكن والدتى رفضت رفضًا قاطعًا حيث إنها كانت تؤمن بالحسد..
منذ  ذلك التاريخ فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى.. وأنا أواصل رحلة الحياة والإبداع قريبًا من قلب وعقل وأعين الأستاذ «الراعى» و«المعلم» أنهل من حنان أبوته وروحه الوثابة المتفائلة.. وأفقه الرحب.. وطهارة مقصده.. وصدق توجهه.. وأستمتع بلقاءاته الحلوة وحواراته الشيقة.. ويقظة حضوره وذاكرته المتوهجة.. وصحبته أينما كان.. فى معارض الفن التشكيلى.. والندوات الثقافية ولقاءات التلفزيون.. وفى رحاب منزله الكريم بصحبة زوجته القديرة «سناء جميل»..

لاحظ فى إحدى المرات اكتئابى فانزعج انزعاج الأب لحالة ابنه.. وسألنى عن سبب قنوطى وحزنى فأبلغته بتفاصيل إساءة لحقت بى من مسئول كبير فى أحد قطاعات الإنتاج التلفزيونى تسببت فى إيذائى.. فربت عليّ بحنو دافق.. وأراد أن يطيب خاطرى بطريقته الآسرة والتى كان ينفرد بها.. وهى الحكى عن تجربة مماثلة مرت به.. واستخلاص العبرة من خلالها.. فأخبرنى بواقعة قديمة حيث فوجئ فى إحدى زيارات رئيس الجمهورية  الرسمية  لموقع من المواقع بصحبة رئيس الوزراء والوزراء.. ورؤساء تحرير الجرائد والمجلات - وكان هو واحداً منهم – أن التفت رئيس الوزراء خلفه فى مسيرته إلى جوار الرئيس.. وما إن رآه حتى صاح فيه ببساطة وحسم: على فكرة أنا رفدتك.. ماتروحش مكتبك من بكره «وكان ذلك بسبب حملة صحفية قادها «لويس» بصفته رئيسًا لمجلس إدارة «روز اليوسف» ضد سياسات رئيس الوزراء هذا»..
كانت المفاجأة صاعقة.. وأول ما فكر فيه أن يهرع إلى المؤسسة الصحفية لقبض راتبه الشهرى.. فاكتشف أنه تم وقفه.. ووجد نفسه يهيم على وجهه فى الشوارع ذاهلًا مفلسًا منهارًا لا يدرى ماذا يفعل.
هنا دقت «سناء جميل» على صدرها.. وصاحت فى جزع كما لو أن تلك الواقعة حدثت الآن..
يا حبيبى «يالويس».. أنت لم تحك لى شيئا من هذا
فقال بود طاغ:
ماحبتش أزعجك..
ثم استطرد مكملًا:
لم أنم فى تلك الليلة.. وظللت أحدق فى سقف حجرة النوم حتى الصباح.. وما إن نظرت فى مانشيتات الصفحات الأولى من الجرائد حتى فوجئت بنبأ وفاة رئيس الوزراء بأزمة قلبية مفاجئة.
وعلل حكايته لتلك الواقعة بحكمة أن الحياة فى صيرورة دائمة وتغييرات متلاحقة.. تقلب الأوضاع رأسًا على عقب.. ومن نقيض إلى نقيض لم نكن ندريه أو نتوقعه.. فالأقدار تحمل فى طياتها تقلبات الزمن وتحولاته العجيبة ومفاجآتها المثيرة.. فلا تحزن ولا تغتم.. فأنت لا تعلم  ما تخفيه لك المقادير فهذا هو أحد أسرار الوجود.
موقف آخر مر بى منذ أكثر من خمسة عشر عاما حينما تعرضت لسطو سافر على مسلسل شهير كتبته.. وعرض محققًا نجاحًا كبيرًا حيث انقض كاتب على الفكرة الرئيسية وتفاصيل شخصية البطل والأحداث الدرامية المتصلة به ونسج منها مسلسلًا متشابهًا فذهبت إلى الأستاذ.. أشكو إليه وأنا أتميز غضبًا وجسدى كله ينتفض بالسخط والانفعال.. وسألته النصيحة.. هل أقاضيه ؟! هل أشهر بفعلته النكراء على صحفات الجرائد والمجلات؟!.. هل.. هل؟!..
قاطعنى بهدوء وحكمة: لا تفعل هذا أو ذاك.. أنا شخصيًا أصابنى أكثر من مرة ما أصابك ولم أفعل شيئًا..
صرخت بدهشة واستنكار: كيف يستولى على عصير إبداعى وثمرة جهدى وجوهر فكرى وينسبه لنفسه.. وأبقى متفرجًا وكأننى أهنئه على جريمته ؟!..
قال الأستاذ بنفس الهدوء والتؤدة:
- سأروى لك قصة جاءت على لسان شاعر الهند العظيم «طاغور» كتب يقول: حدث ذات يوم أن تم القبض على لص فى دارنا.. فحملنى الفضول وأنا طفل صغير على أن أسرع إلى مكان الحادث.. فإذا بى أجد أمامى إنسانًا بائسًا يجذبه البواب ويضربه فى عنف وقسوة.. فشعرت برأفة تمس أعماق قلبى وتمنيت فى تلك اللحظة أن أكتب قصيدة من الشعر.. وبدأت أضع كلمة إلى جوار كلمة أخرى حتى انتهت هذه القصيدة البدائية.. التى عرفت من خلالها قدرتى على كتابة الشعر.. اكتشفت أنى شاعر.. وقد نبعت شاعريتى الأولى من الشعور القوى بالرأفة تجاه  إنسان مسكين ساقته ظروفه الصعبة إلى أن يصبح لصًا.. وكان حظه سيئًا فأمسك به البواب وعامله بقسوة حركت مشاعرى وأنا طفل فاكتشفت إنى شاعر..
قلت له: ولكنى  لست كاتبًا مبتدئًا أكتشف نفسى  من خلال سرقة الآخرين لى.
قال الأستاذ: هذه القصة تعطينا المفتاح الرئيسى لشاعرية «طاغور» وهذا المفتاح هو الرأفة فشعره كله ينبع من الشعور العميق بالرأفة تجاه الإنسان والحياة.. فليس فى شعر «طاغور» اتهام لأحد أو إدانة لأحد بل فيه عطف وحنان ومواساة حتى للمخطئين والعصاة ومع ذلك فشعور «طاغور» مضيء وعميق.. إن سرقة موضوع من إبداعك بواسطة هذا القرصان لن ينتقص من قيمتك أو قدرك.. وفى الوقت نفسه لن يغنيه لأنه لن ينبغ أو يتفوق عن طريق هذا الأسلوب وسوف يكشفه الجميع كما اكتشفته أنت.. فالموهبة هى طريق النجاح.. ثم أنه لو لم تكن قصتك عميقة ومؤثرة وجذابة ما سرقها.. أما أنت فسوف يستمر نهر عطائك لأنك تستمده من وهج موهبتك وكنز معرفتك.. وجمال تجربتك.. وذوب قلبك وعقلك..

وفى حضرة المفوه البديع يصمت الجميع ويقبض المتحدث الذى لا يشق له غبار.. فيأكل الحكواتى المغرد.. والحكيم الأريب  الوقت.. ويستولى على الأفئدة فيصنع البهجة.. وينضح عبير المتعة بحضوره الجميل على الجميع من حوله فقوة تأثيره طاغية وعمق إحساسه الذكى فواح.. ويشكل عالمًا بأسره يضج بالحياة والأمل والدفء.. ولم لا.. وقد عاش عمره المديد يؤسس «لدولة الحب».. ويستعير شعار «أفلاطون»: أعطنى جيشًا من العشاق وأنا أستطيع أن أغزو به  العالم كله.. ويتقمص شخصية الشاعر الصوفى العظيم «جلال الدين الرومى» الذى جابه عصرًا من التشدد المذهبى العاتى والتعصب الأعمى بقصيدة مطلعها: توجه للحب يا حبيبى / فلولا حياة الحب الجميلة لكانت الحياة عبئًا ثقيلًا..
لقد كان «لويس جريس» فى عطائه الثمين لكل من حوله.. وإنكار ذاته وتساميه ونبله يؤمن أن البحث عن الحب يغيرنا.. وفى طريق الحب تنبذ الكراهية.. فما من حكمة بلا حب..
كان يحتوينا جميعًا برسائل حبه وكأنه يضم فى أحضانه البشر.. كل البشر..
برحيلك يا زهرة اللوتس بكل كبريائها وترفعها الأخاذ أفتقد مظلتك الوارفة.. وأخاف من المفارقة المؤلمة التى أعيشها فى هذا الزمان اللعين.. والتى كنت أختبئ منها.. وأتناساها مستدفئًا بحمايتك الفياضة.. إنها المفارقة بين زوال دولة الحب.. وبين سيادة عصر الكراهية والفرقة.. وازدراء الآخر.. وأهفو إلى حنو طلتك المطمئنة من شرفه جنتك.. تتلو عليّ بعضًا من رحيق حكمتك.. فالكلمات لا تموت. 