
عاطف بشاى
«مستكة» و «ريحان» فى «أسوان»
فى الدورة الثانية لمهرجان «أسوان» للمرأة .. عرض فيلم «مستكة وريحان» سيناريو وإخراج «دينا عبدالسلام» وحوار وتصوير «أشرف مهدى» وأداء شخصيتين رئيسيتين مسنتين، رجل «على درويش» وامرأة «عزيزة فاضل»، وبعض الأدوار الثانوية القليلة.. كلهم من الهواة الذين يعملون بمسارح الثقافة الجماهيرية بالإسكندرية.
والحقيقة أننى فوجئت بالمستوى الفنى البديع فى جميع عناصر الفيلم من تأليف وإخراج وتصوير.. ومونتاج.. كما أدهشنى ذلك التميز الثقافى للمبدعين الشباب وتحاورت معهم وأنصت لحديثهم عن توجهاتهم ووجهات نظرهم فى الفن والحياة.. وداعبتهم بفرحى بهم لأنهم لا يتحدثون فى الفيلم أو فى الواقع بلغة جيلهم التى عمقت الغربة وأقامت الأسوار العالية بينهم وبيننا كأجيال سابقة فلم أضبط استخدامهم لألفاظ غريبة أو لزمات فجة أو هابطة.. وانعكس ذلك على الفيلم الذى تحمست له وأحببته.. وهو فيلم يعتمد على ما يمكن تسميته بالأشياء الصغيرة التى تمتزج بموقف صغير أيضاً.. فيبنى من خلاله عالماً كاملاً.. ويكمن فى هذا سحر وجمال الفيلم.
«الأشياء الصغيرة» هنا تتمثل فى («سبت» له حبل طويل – ماكينة خياطة – أوانٍ وأطباق – أجهزة تليفون – ساعات حائط – قط صغير - يملكه بطل الفيلم العجوز ويوصى جارته العجوز بأن ترعاه بعد وفاته)..
أما «الموقف الصغير» أو المقدمة المنطقية التى يبدأ بها الفيلم ويمثل قوته الدافعة فيتمثل فى أنه حينما يبلى حبل «السبت» الخاص بتلك الجارة يتم الاتفاق بينهما على استخدام «السبت» الخاص به.. يقوم بواب العمارة بشراء احتياجاتهما.. واستخدام السبت فى توقيت يومى معين فيحصل كل منهما على ما طلبه.. وينشأ بالتالى حوار.. يبدأ سريعاً مقتضباً ويمتد إلى الحديث التليفونى أى أن (السبت – والحبل) هو وسيلة الاتصال الإنساني.. وما يثير الإعجاب ويستحق الدراسة النقدية أن الفكرة البسيطة التى التقطتها المؤلفة والمخرجة من لحظات الحياة العابرة صاغتها بنفس البساطة ودون أن تفرض مساراً معيناً لها لتؤكد بها وجهة نظرها أو رؤيتها الخاصة دون أن تتدخل لتصدر أحكاماً أخلاقية على الشخصيات.. وهو ما يبعث الحرارة والحميمية.. وطرافة السلوك البشرى ومحتواه ذا الدلالات العميقة..
الأمر الثانى المهم أن العلاقة التى تولدت بين البطل والبطلة لم تتوقف عند البعد الاجتماعى المحدود.. بل اتسعت لتشمل أبعاد فلسفية تستحق التأمل.
الأمر الثالث أن السرد المرئى بالغ الطرافة.. يثير الضحكات رغم أنها مبللة بالدموع أو يغطيها الأسي.. إلا أن السخرية اللاذعة والتهكم الفكه يبعثان على البهجة والانشراح.. ورغم اقتراب الموت وسيطرة أمراض الشيخوخة عليهما.. إلا أن الرغبة فى الحياة والاحتفال بها يؤكد أنها تستحق أن تعاش.. وأن طرد وإقصاء الإحساس بالاكتئاب والعزلة يصبح هدفاً يسعيان إليه فى تشبث وإصرار دون وهن أو تراجع.
اعتمد رسم الشخصيات على نموذجين من عامة البسطاء فى مجتمع بقايا الطبقة المتوسطة محدودى الدخل تربطهما الوحدة والعزلة (فالبطل يعيش بمفرده فى شقته القديمة ليس له إلا ابن لا يوده ولا يرعاه مشغول بعمله ومنزله وزوجته وأولاده لا يزوره ولا يتواصل معه سوى عن طريق التليفون.
والبطلة أرملة لها أيضاً ابن وحيد متبلد المشاعر يعانى من مشاكله مع زوجته لا يزور أمه إلا كلما تفاقمت تلك المشاكل ليشكو منها وينعم لدى أمه بوجبات طعام ساخنة.. والنوم لديها لبعض الوقت فى هدوء).. وتواضع احتياجاتهما المعيشية ومن ثم تواضع أو انتفاء أحلامهما المادية أو طمعهما فى مباهج الحياة التى لا يملكان تحقيقها.. وبالتالى فإن المواقف الآنية اليومية تشكل حاضراً ساكناً وزمناً درامياً ميتاً استطاعت المخرجة المؤلفة إضفاء تلك التوليفة الفريدة الساحرة التى تفجر السخرية والألم والضحك والحزن والدهشة والكآبة والدفء الإنسانى وأزمة الوجود.. وعبثية الحياة.
لذلك فإنه حينما نمت وتوطدت وتطورت علاقتهما الشخصية أدى الاعتياد اليومى فى الحوار المشترك إلى التبسيط.. ونسف التحفظات.. وبناء عليه فحين أرسلت له – من خلال السبت – طبقاً من طبيخها لم تستسغه وأصابه بتلبك معوى بادر إلى التعبير عن رأيه بتهكم ونعت إياها بسوء صنيعها فاشتبكت معه غاضبة معنفة لاعنة وأدى ذلك إلى قطيعة بينهما.. لكنها عندما ندمت على عنفها اللفظى تجاهه وأيدت رغبتها فى مصالحته لجأت إلى طريقة بسيطة فقد حاكت باستخدام ماكينة الخياطة كسوة حمراء (مدندشة) للسبت باللون الأحمر القاني.. فعاد التواصل والوئام.
وتأتى نهاية الفيلم مفعمة بالتواصل الإنسانى والوجودى والدفء الوجدانى الحميمي.. حينما مرضت ولم يعد ممكناً لها أن تذهب فى مشوارها الوحيد كل شهر إلى مكتب البريد لقبض معاشها فاقترح عليها أن تبرم له توكيلاً يمكنه من صرف هذا المعاش بالنيابة عنها.. فوافقت وحينما تعافت وأمكنها الحركة.. خرجا سوياً إلى الشارع لأول مرة ليذهبا إلى الشهر العقارى لتحرير توكيل عام له يشمل كل ما يخصها.. والبواب الذى لم يعهد ذلك من قبل يتابعهما بنظراته المندهشة.
إنه فيلم جميل استطاعت به المؤلفة المخرجة الشابة أن تتجاوز فيه الحاحات الواقع الاجتماعى المباشر إلى قضايا أكثر عمقاً واتساعاً ورحابه تتصل بالمصير الإنسانى ومعنى الوجود وجدوى الحياة.
كما استطاعت رغم أنها التجربة الأولى أن تسيطر على أدواتها الفنية والتحكم فى انفعالات وحركة الممثلين وإحداث نوع من الانسجام والهارمونى بين كافة العناصر دون تحذلق أو استعراض شكى.>