وَهْمُ «المهنية» فى الإعلام الدولى.. BBC نموذجًا
قبلَ أن نلوم أو نُحاسِب أو نُقاطِع الـ«BBC» أو حتى نتهمها بالإرهاب أو خِلافِه من اتهامات بَلَغَتْ قدرًا كبيرًا من السذاجة، علينا أن نسأل أنفسنا: ما الذى يجعل وسائل الإعلام الأجنبية سواء القنوات الفضائية مثل «BBC» و«CNN» و«DW» و«العربية» و«الجزيرة» و«سكاى نيوز عربية» أو الصحف، مثل «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«الشرق الأوسط» و«الحياة» من أهم وسائل الإعلام حول العالم؟ ومن الذى مَنَحَها هذه الهالة من القداسة والقدرة الهائلة على التأثير، خصوصًا فى الدول العربية، ومنها مصر؟
قبل أن أجيب، دعنى أُخبِرْك أنى قد عملت مراسلا صحافيًّا «أجنبيًّا» فى مصر لأكثر من 15 عاماً، منهم عشر سنوات مديرًا لمكتب القاهرة لكبيرة وسائل الإعلام الدولية «العربية» المطبوعة، صحيفة «الشرق الأوسط» واقتربتُ من معظم وسائل الإعلام الأجنبية الأخرى، وعايشتُ صُنَّاعها فى القاهرة ولندن، واطلعتُ على مطابخ العمل فى كثير منها، وعرفتُ من الأسرار الكثيرَ والكثيرَ، الذى يجعل شهادتى عن عِلم بعكس آراء وتحليلات انتشرت مؤخرًا، تحمل قدرًا من الجهل.
أولًا وأخيرًا.. يجب أن نعرف أن مهنية وسائل الإعلام الدولية «أو العالمية» تتأرجح بحسب الدعم المالى والمعنوى الذى توفِّره لها الأنظمة التى تقف وراءها، ووفقًا للدور المرسوم لها مسبقًا، بالطبع لستَ بحاجة لأن أُخبِرَك بحقائق يعلمها معظم أبناء صاحبة الجلالة، كل وسائل الإعلام فى العالم تقف وراءها أنظمة أو أجهزة، سواء بشكل مُعلَن وظاهر أو خفيٍّ عبرَ وسطاء وواجهات من رجال المال والأعمال، وهذه المهنية «المزعومة» أو سَمِّها الموضوعية أو الشفافية أو الحيادية، هى كلمات اخترعها صُنَّاع هذه الوسائل، لدغدغة مشاعر الجماهير وخداعهم، وإيهامهم بأن ما يقولونه هو الحقيقة المطلقة.
ويتضخَّم دور وسائل الإعلام الأجنبية فى الأنظمة الأوتوقراطية «القامعة للحريات»، التى تحجب المعلومات عن شعوبها، لهذا تعاظَمَ تأثير الإذاعات الأجنبية فى سنوات الستينيات فى مصر «مثلاً»، ولهذا أيضًا تراجَعَ تأثير هذه الوسائل فى سنوات الربيع العربى «2011 - 2013» بفعل الفوضى التى خَلَّفَتْها الموجات الثورية فى مفاصل الدول التى اجتاحتها.
وأدرك «وقتها» معظم العاملين فى الإعلام العربى «المصرى»، وهم مهنية مؤسسات الإعلام الدولى، التى سقطت أمام قدرات الشباب الذى هَبَّ يجدد دماء إعلامه المحليِّ، مستثمرًا انفتاحَ المناخ العام، وتراخيَ قبضة الدولة ومؤسستها الأمنية.
وفى هذه المرحلةِ شاهدتُ شخصيًّا وعايشت تسللًا إخوانيًّا غير مسبوق فى وسائل الإعلام الأجنبى وفى مقدمتها الـ«BBC» وهذا ليس كلامًا مرسلا؛ فلَدَيَّ قصص مثيرة فى هذا الملفّ، عايشتُ تجارِبَها عن قُرب، فقد كان الإعلام إحدى أهمِّ نقاط الضعف الإخوانية، وفى عامِ وصول مرسى وجماعته للحُكْمِ فى مصر، اتضح أن هناك خطةً لتدريب كوادر الجماعة وتأهيلِهِمْ وصناعة تاريخ مهنيٍّ لهم، فى هذه المؤسسات الدولية، التى كانت تجاهد لتنافِسَ وسائل الإعلام المحلِّية التى تفوقَتْ عليها.
ومع انحسارِ موجات الربيع العربى وتراجُعِ هيمنَتِها وتأثيرها، ومحاولةِ الحكوماتِ والدول التى زارَها الربيعُ استعادةَ سيطرتها «ومنها الدولة المصرية» على مجال الإعلام، من خلال آلياتٍ تنَظِّم عملَهُ وإعادةِ هيكلةِ مؤسساته ونقل ملكيات، وصفقات استحواذ، أدَّت فى مجملها إلى تراجع واضح فى دور الإعلام المحلى خلال العامين الأخيرين، فانخفضت المتابعة التليفزيونية وتقَلَّصَتْ مبيعات الصحف للحد الذى يهدد بزوالها، وأصبح المشهد مربكًا، لا سيما مع عودة نفوذ وسائل الإعلام الدولية من جديد.
وقصة «زبيدة» وأمها التى بثتها «BBC» وأثارت جدلًا وصخبًا كبيرًا، تؤكد ما ذكرتُه، فلقد عَجَّل القلق من تنامى مشاهدةِ هذه الفضائية البريطانية ونُسختِها الناطقة بالعربية، من صِدامِها مع الدولة، وكان الأولى برد الفعل المصرى مع هذه القصة أن ينصب على فضح مطابخ أيٍّ من وسائل الإعلام الأجنبية فى مصر، التى تقتاتُ على المواد الإعلامية المصرية، وتنتج محتواها بطُرُق ملتوية، يعلمها جيدًا مَن عملوا فى مطابخ هذه القنوات أو الصحف، كما أنه من الضرورى أن نمنح إعلامنا قدرًا من الحرية، كى يستطيع أن يكون جاذبًا ومنافسًا ومؤثرًا بشكلٍ حقيقى لا لبسَ فيهِ ولا خداع، كى لا تهزنا «زبيدة» جديدة تخرج من خيال إعلام يكذب لكى يتجمل.. ويخدم أهدافه.