الجمعة 25 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
فى عصر الرومانسية

فى عصر الرومانسية


كنت أراجع لابنتى منهج الأدب.. ولما وصلت إلى الباب الخاص بالنثر أوضحت لها أن الرسالة فيما مضى كانت تعتبر أدبًا راقيًا كالشعر ومختلف فنون النثر من خطابة وحكم وأمثال ومواعظ وأقوال منثورة.. واستشهدت بالرسائل المتبادلة بين «مى زيادة» وأدباء عصرها فى «مصر» و«لبنان» وأدباء المهجر فى أمريكا.. ونذكر من هؤلاء الكبار «جبران خليل جبران» و«أمين الريحانى» وفى مصر «عباس محمود العقاد» و«لطفى السيد» و«أنطون الجميل» و«مصطفى صادق الرافعى» وهذه الرسائل تمثل شكلاً أدبيًا جديرا بأن يدرس «لكن الذين يعدون مناهج التعليم عندنا من مفتشى وزارة التربية والتعليم.. لا يعرفون «مى زيادة» وربما يخلطون بينها وبين «مى عز الدين» كما لا يعرفون «جبران» ولا «سلامة موسى» ولا الشيخ «محمد عبده».. ولا «إحسان عبدالقدوس».. و«أمل دنقل» و«نزار قبانى وكنت ومازلت كلما جاء إلى وزارة التربية والتعليم وزير جديد.. أناشده أن يضع مناهج اللغة العربية للسنوات الدراسية المختلفة.. الأدباء  والشعراء والمفكرون والنقاد دون جدوى.. ولهذا حديث آخر.. المهم أنى قصصت على ابنتى قصة الحب الرومانسى الغريب التى ربطت «مصطفى صادق الرافعى» بـ«مى زيادة» من طرف واحد نفسه العاطفية الواهمة.. والتى لا علاقة لها هى به من قريب أو بعيد.. ومن ثم فقد كانت رسائله- كما يرى «محمد سعيد العريان»- يخاطب نفسه.. وهو يزعم أنها رسائل صديق بعث بها إليه.. فتراه يوجه الخطاب فيها إلى ذلك الصديق المجهول.. يستعينه على السلوان بالبث والشكوى.. ثم يصطنع على لسان ذلك الصديق بعضًا من الرسائل يدير عليها أسلوبًا من الحديث فى رسائلها هو.. وما هناك صديق ولا رسائل إلا الرافعى ورسائله.. يتحدث بها إلى نفسه عن حكاية حبه وآماله ومصار إليه.. أو فلنقل أن «الرافعى» فى هذه الرسائل جعل شيئًا مكان شيء فأنشأ هذه الرسائل لصاحبته.. ثم نشرها كتابًا نقرأه وهو «رسائل الأحزان» لتعلم من حاله ما لم تكن تعلمه أو ما يظن هو أنها لم تكن تعلمه فهى رسائله إليها على أسلوب من كبرياء الحب تشفى ذات نفسه ولا تنال من كبريائه.. يقول فى واحدة من تلك الرسائل المهمة المنشورة فى كتابه «رسائل الأحزان»:
«رأيتها مرة فى مرآتها.. وقد كانت قد وقفت إليها تسوى خصلة من شعرها الأسود الفاحم المتدلى عناقيد.. ولم يكن بها ذلك كما علمت بعد.. وإنما أرادت أن تظيل نظرها فىّ.. من حيث لا أستطيع أن أقول أنها هى التى تنظر.. بأن ذلك الذى ينظر كان خيالها.. فلما انتصبت إلى المرآة خيل إلى أنى أرى ملكًا من الملائكة قد تمثل فى هيئتها وأقبل يمشى فى سحابه قائمة من الضوء وأن يد الله فى لمح النظرة.. قد رسمت هذا الجمال على تلك الصحيفة يتموج فى ألوانه الزاهية أو هى التى أرادت أن تبعث إلى بكتاب يحتويها كلها ولا يكون فى يدى منه شيء فأرتنى مرآتها.. ألا فأعلم أن هذه التى فى المرآة وهذه التى أمام المرآة وهذه التى هى قلبى- ثلاثة فى واحدة لو هممت لتختبئ فى قلبى فكأنما كنت أعشق مخلوقة من مخلوقات الأحلام لا تدرك بجميع أجزائها.. وإذا أدركت بقيت وهما لا تناله يد.. وهى كالملائكة قادرة على التشكل.. إلا أنها تتشكل فى الذهن.. فبينما تراها شخصًا جميلاً.. إذا هى فكرة جميلة تتعطف عليها حواشى النفس.. وبذلك تستطيع أن تشعرنى أنها فى وإن كان بيننا من الهجر بعد المشرقين.. وأن تنزل بالسلام على قلبى.. وإن كانت هى نفسها الحرب.. وأن تجعلنى أحبها وإن كان بغضها يأكل من جوانحى».
المثير أن حالة «الوله» التى وضعها فى رسالته الثالثة التى سطرها على هيئة قصيدة بعنوان «حيلة مرآتها» ليست سوى تهاويم محلقة فى خيالات تشبه الضلالات البصرية الخادعة التى طافت بعقل توهم أنها هامت به حبًا و«رنت بنظراتها إليه تطيلها ورنا بنظراته لها فأطالها» بينما الحقيقة أن ما تصوره لا وجود له فى الواقع.. فلم يتعلق قل «مى» سوى «بجبران خليل جبران».
قلت لابنتى: إن الرسائل المتبادلة بين «جبران خليل جبران» و«مى زيادة» بما تحتوى عليه من مساجلات ومناقشات فكرية تعتبر ثروة أدبية وتراثًا نفسيًا.. وأن «مي» و«جبران» قد تعارفا عبر الرسائل وتحابا.. سعدا بحبهما وشقيا.. وكانت المسافة الفاصلة بين القاهرة حيث تقيم.. و«نيويورك» حيث يقيم هو.. هى التى جعلت ذلك الحب أقرب إلى الحب العذرى.. الذى لا يتحقق إلى فى الروح.. المهم أنهما أثرا المكتبة العربية بصفحات رائدة من «فن المراسلة».. والقليل الذى لدينا من هذه الرسائل يعتبر نموذجًا متميزًا من هذا الفن الجميل.. وبالتالى فإن آثارهما الأدبية ظلت خالدة.. وذكراها ظلت حية فى الضمائر جيلاً بعد جيل لما قدمه للنهضة والفكر من كتابات كانت عصارة فكرين.. وتوقد روحين..  وذوب قلبين..
وقد مات «جبران».. وفى قلبه الصامت حبها وماتت هى بعده بعشر سنوات وقلبها غير ممتلئ بأحد غيره.. وكانت علاقتهما من خلال الرسائل قد استمرت عشرين عامًا دون أن يلتقيا ولو مرة واحدة.