
عاطف بشاى
سينما الهلس والعبط
أما وقد سيطر شباب السينمائيين من كتاب السيناريو والمخرجين والمصورين ومهندسي الديكور ؛ على المساحة الأكبر من خريطة الإنتاج، فذلك ليس بالغريب أو المدهش.. بل العكس هو الصحيح.. فالبديهى والصحى والمنطقى أن الحياة فى صيرورة.. والأجيال تتوالد.. لكن يظل السؤال الذى يفرض نفسه هو: هل هناك ثمة تواصل يربط بين تلك الأجيال؟!.. أو بمعنى أكثر وضوحاً.. هل يعتبر جيل الشباب من المبدعين امتداداً للأجيال السابقة.. يستفيد منها ويضيف إليها.. يتتلمذ على أيديها ثم يخرج من شرنقتها أو معطفها ليحقق رؤيته الخاصة وتصوراته المختلفة وطموحاته التى تتلاءم ومتغيرات الواقع من حوله.. وتعبر عن أفكاره وأحلامه فى عندٍ مختلف؟!.. دعنا نرجئ الإجابة عن هذا السؤال بعد استعراضنا لمجموعة من الأفلام المعروضة فى دور العرض حالياً..
جدو نحنوح
ينتمى فيلم «جدو نحنوح» إذا شئنا التصنيف إلى أفلام المقاولات التى كانت منتشرة فى الثمانينيات، والتى تتخذ من الكوميديا إطارًا لها، وهى فى الحقيقة بعيدة كل البعد عن هذا الفن الجميل.. بل تتمحك به لتقدم هراء تافهًا.. اعتمادًا على تلك العبارات الممجوجة التى تنتشر فى «مانشيتات» الصفحات الفنية بالجرائد والمجلات فى المواسم السابقة والحالية، سواء بقلم صحفيين أو كتاب أعمدة أو نقاد متخصصين أو مشهلاتية.. مثل: «الأفلام الكوميدية تهزم الأفلام الدرامية والاجتماعية بالضربة القاضية»، «الأفلام الكوميدية تحقق أعلى الإيرادات»، «تراجع الأفلام التى تندرج تحت المسمى «الشعبى» وتحتل القمة الأفلام الكوميدية الخفيفة التى لا ينافسها سوى أفلام التشويق والإثارة».
وفيلم «جدو نحنوح» من تلك الأفلام التى تسوق نفسها من خلال تلك العبارات السابقة.. وهو من بطولة «مصطفى أبو سريع» و«محمد ثروت» و«مدحت تيخا» و«إيمان السيد»، تأليف «جوزيف فوزى» وإخراج «سيف يوسف»..
وما يثير الحنق هنا؛ هو تلك التصنيفات الساذجة أو التقسيمات السطحية للأفلام ما بين كوميدى ودرامى واجتماعى ورومانسى.. ذلك إنهم يعتبرون مثلاً أن الفيلم الكوميدى يخاصم الدراما، ومعنى ذلك أن يفتقر إلى بناء الأحداث والمواقف.. وتصعيدها إلى ذروة درامية.. وإنشاء الصراع.. ورسم الشخصيات بأبعادها الاجتماعية والنفسية.. وهم لا يدركون أنه بذلك لا يمكن أن يكون فيلمًا من الأساس.
ثانياً: الربط المجحف بين الكوميديا وسينما «الهلس» و«العبط» و«الإسكتشات الفكاهية».. ذلك لأن «الكوميديا» تقوم فى الأساس على استخدام العقل فى طرح قضايا اجتماعية.. وإنسانية وسياسية تعنى بمناقشة مشكلات الواقع ونقد وكشف سلبيات المجتمع وفضح عوراته ومثالب البشر.. وإحداث صدمة فى وعى المتفرج، تدعوه إلى إصلاح عيوب مجتمعه وأحياناً الثورة عليه لتغييره..
تدور أحداث فيلم «جدو نحنوح» حول ثلاثة أحفاد لجد ثرى هو «نحنوح».. الأحفاد يدركون بعد وفاته بوجود كنز تركه لهم مدفوناً داخل مستشفى للأمراض العقلية.. فيحتالون بطرق مختلفة لدخول ذلك المستشفى للبحث عن الكنز.
والفيلم لا يتخذ من هذا الاستهلال «المكرر» موضوعاً ليناقش قضية أو يحتوى على مضمون.. أو يعالج مشكلة تهم الناس.. بل ليس هناك قصة لها بداية ووسط ونهاية.. والكارثة تبدأ من رسم الشخصيات التى لا أبعاد لها على الإطلاق.. هى مجرد نماذج كرتونية معلقة فى الهواء.. مسطحة تماماً.. تتبادل الأفيهات السخيفة المرتجلة على غرار بعض المسارح التجارية، والتى يخاطب فيها الممثل المتفرج مثل «ابعت لنا عمرو دياب.. وأهو نصالحه على «شيرين»..؟!
باختصار،،، ليس هناك سيناريو، إنما مجموعة من المشاهد المتلاحقة التى تغازل رغبات المراهقين من المتفرجين بحيل وإسكتشات ومشاهد لتقليد «شوبير» و«وائل الإبراشى»، وفى النهاية يسمون هذا الهراء كوميديا.. وهذه الفظاظة إضحاكاً..
رغدة متوحشة
أما فيلم «رغدة متوحشة» الذى يلعب بطولته نجم المقالب السادية «رامز جلال»، و«بيومى فؤاد» و«ريهام حجاج».. سيناريو وحوار «لؤى السيد».. فيعتمد على تقمص «رامز» لدور فتاة تمثل مجموعة إعلانات فى إطار حملة إعلانية ضد التحرش.. حتى يصبح نجمًا على «يوتيوب» وصفحات التواصل الاجتماعى.. ومن خلال الأحداث يقع المتنكر فى حب «رانيا»، التى تقوم بتنفيذ الحملة مع «بيومى فؤاد» والتى تكتشف أمره فى النهاية.. وتعود إليه..
الفكرة مقتبسة من فيلم «السيدة داوتفاير» بطولة الراحل الرائع «روبين وليامز».. وفيه ينفصل عن زوجته التى تنتزع حضانة أطفالهما.. فيطلب من أخيه الخبير فى التجميل أن يساعده فى التنكر فى شخصية مدبرة منزل ليتمكن من العمل عند زوجته، وبالتالى يتسنى له رؤية أطفاله.
وبصرف النظر عن مدى التشابه بين الفكرتين؛ فكرة فيلم «السيدة داوتفاير» وفيلم «رغدة متوحشة»، فإن تقمص شخصية امرأة يبدو مغزاه فى الفيلم الأجنبى أكثر عمقاً.. وتأثيراً وأهمية من الفيلم المصرى.. الأول يسعى من خلال البناء الدرامى (الذى يحتوى على المقدمة المنطقية ورسم الشخصيات وتسلسل الأحداث)، إلى رغبة البطل الإنسانية والعاطفية المشاعر لتحقيق تواصل وجدانى تدعمه لهفة الاشتياق والحب لأولاده.. والتى حرم منها بعد الانفصال عن زوجته.. بينما فى فيلم «رغدة متوحشة» يفقد دور المتقمص لأهميته لأنه لا يعدو أن يكون هدفه التواصل مع حبيبته، والذى يمكن أن يتم بوسائل أخرى.. أى أنه يفتقر إلى (الحتمية الاجتماعية)، ومن ثم يأتى تعاطف المتلقى مع البطل أضعف شأناً وأقل تأثيراً..
جدير بالذكر أن البعد الإنسانى الذى نبحث عنه فى السياق الدرامى.. والمرتبط برسم الشخصيات ومنطق الأحداث، كان من الأوفق له أن يقترب من دائرة قضية اجتماعية هامة.. تثير جدلاً كبيراً فى مجتمعنا المعاصر.. والمتصلة بما يسمى بـ «حق الرؤية» التى تعددت فيها وجهات النظر، وتشابكت وتعقدت ومازالت تبحث عن علاج واضح.. ودون الدخول فى تفاصيل ليس موضوع المقال مجالها.. فكان يمكن أن يسعى البطل إلى رؤية ابنه بعد تطليقه للأم.. ويعانى من لجوئها إلى التحايل المستمر - كيداً فى الزوج، إلى عدم تمكينه من هذه الرؤية وإبراز مدى معاناته ومعاناة الطفل من جراء هذا الكيد.. فيقوم هو الآخر بالتحايل عن طريق التنكر لرؤية طفله وقد تقمص دور «مدبرة منزل».. ذلك بدلاً من محاولة استدرار الضحكات السطحية.. نتيجة مفارقات لأحداث لا مغزى لها ولا عمق..
طلق صناعى
وفى إطار الاقتباس أيضاً تدور أحداث فيلم «طلق صناعى» فى أول تجربة إخراج للسيناريست «خالد دياب».. الذى يغامر باعتماد البناء الدرامى للفيلم على وحدتى المكان والزمان.. المكان هو مبنى السفارة الأمريكية.. والزمان مدته يوم واحد.. والمقدمة المنطقية أو الاستهلال هو قرار «حسين» (ماجد الكدواني)، أن تلد زوجته «هبة» (حورية فرغلي) طفليهما التوءم داخل السفارة الأمريكية.. كى يحصل الطفلان على الجنسية الأمريكية».. وذلك بعد رفض موظفة السفارة طلب الزوج للحصول على تأشيرة السفر.. تتصاعد الأحداث بقيام «حسين» باحتجاز مجموعة من الرهائن داخل مبنى السفارة ريثما تلد زوجته ضماناً لحصول الطفلين على الجنسية الأمريكية..
ويبدو الاقتباس بجلاء ووضوح؛ من خلال الفكرة الرئيسية باضطرار بطل الفيلم إلى احتجاز رهائن لتنفيذ رغبتهما.. كما جاء تمامًا فى فيلم «الإرهاب والكباب»، تأليف «وحيد حامد» وإخراج «شريف عرفة»، وبطولة «عادل إمام» فى بداية مرحلة توهجه الرائعة بمجموعة أفلام مهمة للثلاثى «عادل ووحيد وشريف»، ترصد قضايا هامة وملحة تعكس الكثير من مشاكل الواقع المعاش.. لكن المثير للدهشة والجدل أن الاقتباس هنا، مثلما تم فى فيلم «رغدة متوحشة» لم يتحرك من خلال الفكرة الجوهرية التى احتوت عليها المقدمة المنطقية أو نقطة انطلاق الأحداث لترسيخ بعد اجتماعى أو سياسى أو فكرى، يطرح موضوعاً يصلح لتقديم فيلم يحمل محتوى يناقش هموم شريحة اجتماعية يضطر طرف فيها إلى حمل سلاح واحتجاز رهائن.. لو كان الأمر كذلك فربما تسامحنا فى السطو على أفكار الآخرين.. لكن السطو.. بالإضافة إلى التسطيح هو أمر مبتذل بالفعل.. ولا يعنى سوى جدب وإفلاس وعقم فى الإبداع والخيال والموهبة..
إن هدف البطل، بالمقارنة بدوافع شخصيات فيلم «الإرهاب والكباب» - للتمرد، فى انحصار رغبته فى الحصول على الجنسية الأمريكية لطفليه، يحمل قدراً من الأنانية الفردية والنفعية والذاتية لا تدفعنا إلى التعاطف معه، بينما فى فيلم «الإرهاب والكباب» تنطلق الأحداث من الخاص إلى العام، لتشمل مشكلات مجتمع بأسره تعانى فيه الأغلبية من البسطاء والفقراء من شظف العيش.. وتردى الأوضاع الاقتصادية.. وانعدام العدالة الاجتماعية.. وحقوق المواطنين وكرامتهم المهدرة فى مجتمع طبقى تنعم فيه الأقلية برغد العيش والتميز الطبقى تحت وطأة تفشى الفساد.. وتراجع الديمقراطية..
كل هذه العوامل التى يجسدها فيلم «الإرهاب والكباب» كانت بحق تمثل إرهاصات قوية لقيام ثورتى (25) يناير و(30) يونيو..
والآن عزيزى القارئ، يمكنك، دون مزيد من الاستطرادات.. أن تجيب بنفسك عن السؤال الذى طرحته فى بداية المقال: هل يعتبر جيل الشباب من المبدعين امتداداً للأجيال السابقة؟!.. وهل استطاع أن يتجاوزهم إلى آفاق أكثر رحابة وشمولاً..؟! أو على الأقل تمكن من رفع الراية من بعدهم..؟!
إن لم تستطع الإجابة فأرجو أن تعيد قراءة المقال.