الجمعة 25 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رُسُل الفقراء

رُسُل الفقراء


خرج ثلاثتهم من ترع النيل ومصارفها.. ومن رائحة الأرض وغيطان زهر القطن.. سنابل الرجاء فى وطن جديد.. يسوده العدل والرحمة والمساواة.. وبناء نهضة حقيقية لشعب عانى طويلا من فساد حكم الملك وسيطرة الإقطاع والرأسمالية المستغلة.. الذين أجاعوه وأفقروه.
وكان ثلاثتهم فى رحلة عطائهم الطويلة والمثمرة سفراء هؤلاء الفقراء ومندوبيهم ولسان حالهم.... وغاب «الفاجومى» عنهم حيث واراه التراب فى (3 ديسمبر 2013) بعد أن صافحهم مودعًا فردًا فردًا فى الأزقة والحوارى والمقاهى وبيوت الزلزال وحوش آدم.. وعشوئيات «عزبة القرود» و«أرض اللواء» ... وتقاسم معهم اللقمة..

شاركهم العناء والغناء وشظف العيش والزنازين.. فوضعوه فى حدقات العيون.. وأشعلوا بأشعاره الملتهبة الميادين والشوارع والجامعات... وأثاروا الرعب فى قلوب الجلادين.. وهزأوا معه وبه من «النخبة» والأفنديات ذوى الياقات المنشاه.. والألسنة المتحذلقة.. وسخروا معه من ازدواجيتهم.. وفصامهم.. ورددوا معه: «يعيش المثقف على مقهى ريش.. محفلط مزفلت كثير الكلام عديم الفعل».. ولخص «نجم» قبل أن يرحل وجود الفقراء الأليم فى الزمن الضنين بكلمات بليغة موجعة يقول:
«يا أهل مصر المحمية بالحرامية.. الفول كتير والطعمية.. والبر عمار».. إنه ينعى إليهم العدالة الاجتماعية الضائعة التى تصدرت شعارات ثورتين.. وعاصرت نظمًا متعاقبة.. ولم يتحقق منها القدر الضئيل.. بل صارت كـ«جودو» الذى لا يأتى أبدًا.
كان نجم مدعوًا لاستلام الجائزة الكبرى من مؤسسة «الأمير كلاوس الثقافية».. وحضور العشاء الملكى بأمستردام مع الملوك والرؤساء.. تقديرًا لتأثيره الكبير فى عدة أجيال مصرية وعربية من خلال أشعاره التى ألهمت ثلاثة أجيال.. حيث تميزت بحس نقدى ساخر يؤكد على معانى الحرية والعدالة الاجتماعية.. وكان مقررًا أن يسافر فجر الأربعاء (11) ديسمبر.. لكنه أحس أنه سوف يخون أصدقاء الفقر من البسطاء الذين عاش بهم ومعهم.. وهو يرتدى فى الحفل «الاسموكن» ويدخن البايب.. ويأكل بملعقة من ذهب..أحس أنه سيكون غريبا فى المجتمع المخملى.. وربما نسى مثل «شابلن» فى فيلم «العصر الحديث» أن يرتدى البنطلون فأثار الضحكات.. رفض نجم أن يسافر.. مات.
أما «الأبنودى» الذى رسم صورة ملحمية للمواطن المصرى البسيط والمهمش.. فقد استطاع أن يحقق جماهيريته العريضة من الشعر بأبياته الصادقة النابضة بالحب الفياض التى تمثل مشروعه وكل رحلته التى كرسها يخاطب الذين يشبهونه.. ويشبهون لون الأرض المصرية الطيبة بكل عطائها الوفير.. وبكل جدبها فى الأوقات الصعبة... ففى قصيدة «الأحزان العادية» التى اكتشفها الشباب المصرى قبل الثورة بوقت قصير.. ووضعوا على هواتفهم مقاطع منها تحكى عن البوليس وتعامله القاسى مع الثوار وأساليب القمع مع من يقع تحت أيديهم من المعتقلين أو المتظاهرين أو المعتصمين والتى كتبت منذ أكثر من ثلاثين عامًا تعكس تجربة شخصية فى إحدى زنازين القلعة فى حالة الحبس الانفرادى.. تماهت مع نفس التجربة فى قصيدة «ضحكة المساجين» فها هو وسط أصدقاء القهر يردد:
بصيت وحاسد نفسى بين خلاني        تعالوا شوفوا الدنيا من مكاني
حاشتنا أغراض الحياة عن النظر    بالرغم من نبل الألم والانتظار
اتعلمنا حاجات أقلها الحذر   
ونمنا سنوات مدهشة   
نحلب ليالى حلمنا المنتظر
جاء الأبنودى ذلك الشاب اليافع الأسمر من طين أرض الجنوب التى يعشقها ويحن إلى العودة إليها بمجرد رحيله عنها فهو يراها جميلة رغم أن بيوتها لون التراب لكنها لا ترتدى الأقنعة ولا تتلون مثل المدينة.
جاء الأبنودى إلى القاهرة إثر نشر «صلاح جاهين» قصيدته العامية «الطريق والأصحاب» فى مجلة «صباح الخير».. فى زاوية بعنوان.. شاعر جديد تعجبنى.. التى كان يشرف عليها.. وكان «عبدالرحمن» قد أرسلها له بالبريد فى أوائل الستينيات وفيها يقارن بين عالم القرية وعالم المدينة ويصف تلك المدينة المتوحشة «بتاكل فى طريقها     كل حاجة
بياعين..كل ناسها بياعين
بصة الناس بتمن   
بصمة الحب بتمن.
وما هى إلا سنوات قليلة حتى صار شاعرًا كبيرا يملأ الدنيا أشعارًا وأغنيات عذبة وفريدة.. وحينما حلت الهزيمة أظلمت الدنيا فى وجه صلاح جاهين الذى تغنى ومعه «عبدالحليم حافظ» بأفلام ثورة عظيمة فى عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية وانتصارات قومية واشتراكية عميمة ورخاء شامل وفنون راقية «أوبرا وتماثيل رخام على الترعة».. ونهش الفنان الكبير ذاته بقسوة.. وحمل نفسه مسئولية ضياع الأرض «سرقة الوطن.. وخداع الجماهير.. فتقوقع فى غياهب الاكتئاب.. يعانى من ألم ومرارة وضياع الأمل... لكن «عبدالحليم» قرر أن يتجاوز الاكتئاب ويغنى لأمل بعيد المنال.. عسير التحقق.. وأحس أن الأبنودى يحمل إصرار فأس يضرب أرضًا مريضة على استرداد عافيتها وعودة إخضرارها.. قرر أن يتعانق مع ذلك الأمل المستحيل.. ويغنى له.
وفى تحد عظيم انطلق قلم الأبنودى.. وكتب «وعدى النهار» ورأى فيها أنه رغم أن الليالى خالية من القمر لأن العدو الكريه أراد لنا أن «نتوه فى السكة» إلا أن العتمة لن تنسينا الصباح «أبو شمس بتنشر الحنين فبلدنا للنهار».
ويأتى «سيد حجاب» أيقونة الفقراء المولود عام 1940 - ونحتفل بذكرى رحيله هذه الأيام.. متأثرًا بغناء الصيادين حيث نشأته بالقرب من شاطئ بحيرة المنزلة بالدقهلية.. يشاركهم معاناتهم.. ويلتقط مفرداتهم اللغوية العذبة المغموسة فى قهر الزمان.. وعذاب الدهر.. وظلم السلاطين.. ويحولها إلى صيحات أسى مقيم بلسان حكيم... وروح ثائر.. وضمير فيلسوف حائر بين اليأس والرجاء.. بين ماض تعس يقدم فيه البسطاء اعتذارًا عن وجودهم... وغد يشى بأحلام محلقة بوعود أمل ومصالحة «من اختمار الحلم يجيء النهار يعود غريب الدار لأهل وسكن».
جاء «سيد حجاب» من ثنايا دفتر الحياة والموت ليلمس كبد الحقيقة... يضع يده على مأساتنا الوجودية.. يفزعنا على مصيرنا.. مصير الزمن الملعون... والدهر المأفون... والأرض الجدباء.. والدنيا الضنينة.. والحلم المخنوق.. والأمل الضائع.. والحياة العبثية.. والموت المجهول «يا أمان الغربة ليلك بيحاصرنا     وفى صدمة المر طاوينا وعاصرنا     بس طول ما الحب بيرفرف علينا     الجدور حنمدها ونصنع مصيرنا.
ورغم أنه يتساءل فى استنكار وغضب واستنفار للبشر الذين يحبهم ويكتب لهم أشعاره وأغانيه التى تنعى زمن الحلم والبراءة «مين إللى قال مكتوب علينا الهوان    لا الدنيا سيرك ولا الزمان بهلوان» طالبا منا أن نلملم جروحنا ونسير خطوة إلى الأمام.. ونحلم بعيون يقظة.. ولا ننام إلا بعد أن نقطف زهر أحلامنا «فكل ضيقة وبعدها وسعة/  وهى دى الحقيقة.. بس منسية/ وكلنا أولاد تسعة وبنسعي/ ودى مش وسية/ الناس سواسية».
إلا أنه يعود ليمزج بعبقرية كلمات الأمل المحفزة بعدم الجدوى الملغزة.. الحياة بتحدياتها ومعاركها المستعرة.. بأسى حقيقة الموت والفناء رغم محاولات الفرار من عبثيتها «لو مت على السرير/ ابقوا أحرقوا الجسد/ وانطروا رمادى على البيوت/ شوية لبيوت البلد/ وشوية حطوهم فى إيد ولد/ ولد أكون بوسته/ ولا أعرفوش/ ولو أموت قتيل/ وأنا من فتحة الهويس بفوت ابقوا اعملوا من الدم حنا/ وحنوا بيها كفوف عريس/ وهلال على مدنة/ ونقرشوا بدمي/ على حيطان بيت نوبى تحت النيل.. اسمى».
جاء «سيد حجاب» سفير البسطاء يبادلهم سخرية بسخرية..  وهو يعرف تمام المعرفة أن السخرية والتنكيت والتأليس والتلسين هم حزب الأغلبية المقهورة فى مواجهة القهر.. متنفسهم الحقيقى فى احتمال واقعهم المرير.. إنهم يسعون بالسخرية إلى التعبير عن الظلم الاجتماعى.. وعن إحباطاتهم وعذاباتهم.. وتنتقل سخرياتهم إلى الأوضاع السياسية التى يعاصرونها.. فقال قبل ثورة يناير ما يعبر عن نبوءة  بها معارضة لقصيدة «شوقى» «سلو قلبى»:
«سلوا قلبى وقولوا لى جوابا/ لماذا حالنا أصبح هبابا/ لقد ساد الفساد فينا/ فلم ينفع بوليس أو نيابة/ وشاع الجهل حتى إن بعضنا/ من العلماء لم يفتح كتابا/ وكنا خير خلق الله فصرنا/ فى ذيل القائمة وفى غاية الخيابة/ قفلنا الباب.. أحبطنا الشباب/ فأدمن أو تطرف أو تغابي/ أرى أحلامنا طارت سرابا/ أرى حياتنا أضحت خرابا/ وصرنا نعبد الدولار حتي/ نقول له أنت ماما وأنت بابا/ وملياراتنا هربت سويسرا/ ونشحت من الخواجات الديابة/ ونهدى مصر حبا بالأغاني/ فتملأنا أغانينا اغترابا/ وسيما الهلس تشبعنا عذابا/ وتشبعنا جرائدنا اكتئابا/ زمان يطحن الناس الغلابة/ ويحيى الحرام مهابا/ فكن لصا إذًا أو حمارا/ وكُلْ  مشًّا إذًا أو كُلْ كبابا».