الجمعة 25 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
وثيقة ديمقراطية ناصر فى «ميرامار»

وثيقة ديمقراطية ناصر فى «ميرامار»


منذ عشرين عامًا كان فتى يافعًا.. متين البنيان متدفق الحيوية يطوف بأرجاء الحى فى رشاقة النحلة.. يمسح الأحذية.. ويروى النوادر.. ها هو قد جف عوده وتغضن وجهه وأدركته شيخوخة مبكرة.. رحب بالبك الأنيق وهو يمسح له حذاءه فى المقهى القديم الذى انقطع عنه منذ عشرين عامًا حيث كانا يكافحان عدوًا مشتركًا هو الفقر على اختلاف موقعهما منه.
- كنت فقيرًا حقا.. ولكن الدنيا كانت رحيمة ويسيرة..
هكذا كانت.. ترى هل يخطر بباله أنه يملك عمارة أو فيلا.. وسيارة؟!.. هل يتصور أنه يخاطب لصًا أريبًا فى ثوب موظف كبير؟!
- الحياة أصبحت شاقة
- جدًا جدًا.. جدًا يا بك
- ولكنك مؤمن والإيمان كنز لا يقدر بمال
- الحمد لله
- قديمًا كان العيش يتيسر لك ببضعة قروش حقًا.. ولكن كان يتسلط على البلد إقطاعيون يبذرون الملايين على ملاذهم
- انتهى أمرهم يا بك.. ولكن حالى ازداد سوءًا
- بسبب عملك فقط.. أما ملايين الفلاحين والعمال فقد تحسنت أحوالهم
- إنى لا ألقى إلا شاكيًا مثلى.. هل علينا أن ننتظر عشرين سنة أخري؟!
- لا أدرى.. قد يضحى بجيل فى سبيل الأجيال القادمة
هكذا يدور الحوار بين البك وماسح الأحذية فى قصة «أهلاً» من مجموعة «الجريمة» لنجيب محفوظ والتى ينتقد فيها الثورة (52) نقدًا لاذعًا ومباشرًا.. ويركز حول معنى أن مفهوم العدالة الاجتماعية لم يتحقق بالشكل الأمثل الذى بشرت به الثورة وأن الفوارق الطبقية بين الناس مازالت متسعة:
- ألم نكن نضحك من أعماق قلوبنا.. تذكر لقد رقصت يوم قامت الثورة
- ولقد تحققت الآمال ولولا سوء الحظ ولولا الأعداء.. ماذا كنت تتوقع؟!
- زوال الظلم والفقر.. لقمة متوفرة.. مستقبل للأولاد
- حصل ذلك كله
واضح أنك تشكو كثرة العيال.. المدارس مفتوحة لاستقبال الجميع
- دخلوها وخرجوا كما دخلوا ولم ينجح أحد
- وما ذنب الثورة؟
- لا ذنب لها ولكننا نسكن جميعًا فى حجرة واحدة وفى المدرسة لا يفهمون شيئًا..
- إنكم تنشدون معجزة لا ثورة
- إنه حال أبناء الفقراء جميعًا
فى هذا الإطار التهكمى ومنذ بداية الستينيات ظهرت الأعمال الأدبية وخاصة «لنجيب محفوظ» (السمان والخريف (62) - الطريق (64) - الشحاذ (65) - ثرثرة فوق النيل (66) - ميرامار (67) - أولاد حارتنا (67) التى تهاجم الثورة وتدين حكم الفرد والسلطة الديكتاتورية والدولة الشمولية.. وعبد الناصر وتسخر من نموذج المستبد العادل وتكرس لأزمة الديمقراطية والأساليب القمعية.. وتتضمن نقدًا إما صريحًا ومباشرًا وإما مغلفًا للتجربة الناصرية سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وحضاريًا.. وأن الرقابة كانت تحاصر الفكر وحده.. لا الفن ولا الأدب.. والمقصود بذلك الفكر السياسى والاجتماعى لا الثقافى ولا الفنى.. والدليل على ذلك هو ازدهار الفنون والمكاسب الثقافية فى عهد «عبدالناصر» وهو ما يفسر الثراء الثقافى فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى.. ولولا ذلك ما ظهرت للوجود روايات نجيب محفوظ تلك ولا تم تحويلها إلى أفلام سينمائية.. بل ما كانت هذه المرحلة هى أهم مراحل السينما المصرية والمسرح المصرى ولما أبدع بالإضافة إلى نجيب محفوظ يوسف إدريس- ونعمان عاشور - وسعد الدين وهبة- وألفريد فرج وفى السينما صلاح أبو سيف- ويوسف شاهين- وحسين كمال- وسعيد مرزوق- وبركات.
وقد أشار «ثروت عكاشة» - وزير الثقافة فى الستينيات وأحد الضباط الأحرار الذين ساهموا فى قيام الثورة - أن تنبؤ «عبدالناصر» إلى وضع الثقافة فى العهود السابقة على الثورة ودراسته العميقة لأسلوب عملها هى التى شكلت فلسفته الجديدة القائمة على تحويل الإنسان المعاصر إلى إنسان مثقف يتنسم منذ ميلاده أنسام الثقافة فى مجتمعه كله.. ولم تكن الدولة قد منحت الخدمة الثقافية قبل ثورة (يوليو) إلا إدارة صغيرة ملحقة بوزارة التربية والتعليم محصورة فى نطاق ضيق لا تنفذ عبره الجماهير.. وكان الإنتاج الثقافى خليطًا غريبًا من ثقافة عربية عريقة غير ميسرة الفهم ولا التداول وثقافة غربية مغرقة فى البعد عن مفهومنا.. غير مطوعة لمشاكلنا.. لم يكن المجال فسيحًا أمام عملية الاحتكاك الخلاقة.. ولا مفتوحًا أمام المواهب الجديدة.. ويقول د.ثروت عكاشة فى ذلك أن ثورة يوليو فتحت أمام الفن السينمائى عالم التكنولوجيا العلمية الحديثة.. لتسلم أبناء الوطن أداة متطورة يصوغون من خلالها ما يعتمل فى ذوات نفوسهم من ابتكار وتجديد وسط التغيرات اليومية فى المجتمع المندفع إلى الأمام.
كان «عبد الناصر» يؤمن أن استقدام خبراء من العالم لا ينبغى أن يمثل غير مرحلة واحدة من مراحل الطريق الذى يجب أن يمتلئ بمواهبنا الوطنية.. ومن هنا رحب بقيام المعاهد الفنية لتكون حجر الزاوية فى تخريج الفنان المثقف.. فأصدر القرار الجمهورى عام (1959) بإنشاء المعاهد الفنية العليا التى تحولت بعد ذلك إلى أكاديمية الفنون ضمانًا لغرس الثقافة الحقيقية على أسس علمية متطورة.
وقد تحولت أعمال «نجيب محفوظ» الست التى نشرت فى النصف الأول من الستينيات إلى أفلام سينمائية فى ظل هذا المناخ الجديد فى زمن «عبدالناصر»   نفسه.. وكان من باكورة هذه الأعمال فيلم «ميرامار» الذى من ناحية يرد على من يتصورون غياب فكرة حرية التعبير فى عهد «عبدالناصر».. ومن ناحية أخرى يفتح نافذة مهمة فى السينما المصرية، حيث يتيح للفيلم السياسى أن يعلن عن تواجده وبقوة.. ودفعًا لإرادة التصحيح لأوضاعنا الداخلية بصورة أقوى من كل صور الكتابة.. كتابة المقال.. أو القصة المقروءة.
تدور أحداث الفيلم فى بنسيون «ميرامار» الذى يعتبر - كما أراده «نجيب محفوظ» - التجسيد الحى لماض تحكم فيه الاستعمار مع الاحتكار الأجنبى والإقطاع المصرى.. و«ماريانا» صاحبة البنسيون زوجة سابقة لضابط إنجليزى من قوات الاحتلال وعشيقة سابقة لإقطاعى مصرى هو «طلبة مرزوق».. تهرب «زهرة» من قريتها بالبحيرة خشية أن يزوجها والدها من ثرى عجوز.. وتعمل فى بنسيون «ميرامار» حيث تلتقى بخليط غريب ومتنافر من الشخصيات «طلبة مرزوق» وكيل الوزارة السابق.. «عامر وجدي» الصحفى القديم أيام حزب الوفد.. «سرحان البحيري» عضو مجلس إدارة الشركة المنتخب.. وعضو اللجنة السياسية ووكيل حسابات الشركة.. وعضو لجنة العشرين بالاتحاد الاشتراكى.. «منصور باهي» الشيوعى السابق.
هذه النماذج أمثلة على القوى السياسية والاجتماعية التى تتصارع فى الوطن وكل منها يريد أن يستأثر بهذا الوطن الذى تمثله فى الرواية وفى الفيلم «زهرة» وهى الشخصية المحورية التى تدور حولها الشخصيات.. فعامر وجدى رغم وطنيته فقد شاخ ولم يعد يفى بمطالب الوطن.. إنه يمثل الماضى بكل جموده وتقليديته.. أما الإقطاعى القديم فهو ساخط على الثورة ورموزها ومؤسساتها وكل ما تمثله.. وسخريته منها تكشف عن عجزه وحقده.. أما «سرحان البحيري» فهو لص.. انتهازى يخدع الجميع بدعوى أنه منهم وهو فى الحقيقة وريث اللصوص السابقين.. لقد أوهم «زهرة» أنه يحبها حتى خدعت بمعسول كلامه.. ثم تكتشف أخيرًا أنه خطب الفتاة المدرسة مالكة العقارات.. بينما نرى «منصور باهي» الشيوعى السابق يحرض زوجة زميله السجين على طلب الطلاق منه ليتزوجها هو.. حتى إذا ما حصلت على الطلاق تخلى عنها.
أما «زهرة» فى هذا المناخ العفن الفاسد فهى ريفية مخدوعة.. لكنها حريصة على شرفها.. تكتشف حقيقة هذه الشخصيات واحدًا بعد الآخر حتى تصدم بخطبة «سرحان البحيري» من المدرسة التى كانت تعلمها.. فتجمع أشياءها وتترك البنسيون فلا تجد من يقف معها إلا «محمود أبو العباس» بائع الصحف الذى كان يحبها طوال الوقت فى صمت.
أثناء تصوير الفيلم بدأت الأخبار تنتشر فى الصحف.. وهى تحمل توجسات كثيرة حول مصيره بصفته فيلمًا سياسيًا جريئًا ينتقد الثورة والاتحاد الاشتراكى والحكم الشمولى وتوجهاته القمعية..
وبعد الانتهاء من التصوير حمل «ممدوح الليثي» الذى كتب السيناريو والحوار للفيلم وأخوه «جمال الليثي» والمخرج «كمال الشيخ» نسخة الفيلم متجهين إلى مبنى الرقابة على المصنفات الفنية.. وشاهدته اثنتان من الرقيبات.. وبعد مرور عشر دقائق من المشاهدة.. نطق الفنان الكبير «يوسف وهبي» الذى يقوم بدور الإقطاعى فى الفيلم بعبارة «طظ فى الاتحاد الاشتراكي» فشهقت الرقيبتان وانتفضتا من مكانهما وأضاءتا صالة العرض وأوقفتا عرض الفيلم.. وأسرعتا جريًا إلى رئيستيهما يبلغانها بالكارثة.. تحضر «اعتدال ممتاز» بسرعة مقررة مشاهدة الفيلم بنفسها وعادت أجهزة العرض تدير نسخة الفيلم.. ولا تمر خمس دقائق إلا وتضيء «اعتدال» لمبة الأباجورة التى أمامها لتسجل ملاحظة.. وظلت هكذا.. تضيء وتطفئ الأباجورة وأصبح المعدل كل دقيقتين.. وفى نهاية العرض أعلنت قرارها برفض الفيلم بالكامل.. لجأ ثلاثتهم إلى «حسن عبد المنعم» وكيل أول الوزارة.. وكان الرد الوحيد هو أن هذا الفيلم لا يستطيع أحد التصريح بعرضه غير الرئيس «جمال عبد الناصر».. بعث بنسخة الفيلم لمنزل الرئيس «عبدالناصر» الذى عرضه على لجنة الفكر بالاتحاد الاشتراكى لتقرر ما تراه.. فاعترضوا عليه وقالوا إنه يشوه صورتهم.. فما كان من «عبدالناصر» إلا أن طلب من «أنور السادات» أن يشاهد الفيلم بنفسه ويقدم له تقريرًا عنه.
وصل «السادات» إلى مبنى الرقابة ومن خلفه شعراوى جمعة والدكتورة حكمت أبو زيد وكبار قيادات الاتحاد الاشتراكى.. وبعد نهاية العرض استمع «السادات» إلى الآراء المختلفة.. قال أحدهم يجب إعادة صياغة القديم.. وأن يتم تأليف مشاهد جديدة لشخصية أخرى إيجابية فى الاتحاد الاشتراكى لتحقيق التوازن بينها وبين شخصية «سرحان البحيري» المنحرف أخلاقيًا.. وطالب صاحب رأى آخر بمنع عرض الفيلم خاصة أننا مقدمون على معركة بينما يسأله «السادات» باستنكار ما علاقة المعركة بشخص منحرف.. وطالب ثالث بحذف عبارات «يوسف وهبي» ورابع بحذف كل ما يشير من قريب أو من بعيد إلى «سرحان البحيري» عضو الاتحاد الاشتراكى.. حسم السادات المناقشة فى النهاية قائلاً: أنا مع عرض الفيلم كما هو..
ويقول الكاتب الصحفى الكبير تعليقًا على القرار.. لعل القارئ لا يعلم أهمية هذا القرار الذى اتخذه «السادات».. فالمسألة ليست فيلمًا سينمائيًا يعرض أو لا يعرض.. وفلوس قطاع عام نخسرها أولا نخسرها.. ولكن المسألة هى تباشير عهد الانفتاح فى المناقشة والنقد وتراشق الرأى.. فمرحبًا بذلك.. هذا هو أجرأ فيلم سوف يعرض إذن.. بل سوف يعرض كاملاً.
ثم عرض الفيلم بدور السينما وحقق نجاحًا جماهيريًا ضخمًا.. وأشاد النقاد بجرأته غير المسبوقة.