
حمدي رزق
فقه المواطنة الشعبية
أَشْعُرُ بِالغِبْطَةِ وَالفَرَحِ، بِالسُّرُورِ، بِالْمَسَرَّةِ، والغِبْطة أَن يتمنى المرءُ مِثْلَ ما للمغبوط من النعمة، وإعمالاً لقول الله تبارك وتعالى: «وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أو رُدُّوهَا» (النساء:86)، ولأن المولى بدأ بالأحسن، ثم قال: «أو ردوها» أردها استحسانًا ومحبة وامتنانًا لكل مسيحى من إخوتنا فى الحى العريق «شبرا» الذين آثرونا بجميل التهنئة، وهم يهتفون «بحبك يا مسلم بحبك يا غالي.. بحبك يا مسلم بحبك يا صاحبى أصلك هو أصلى».
الفيديو البديع من الشباب المسيحى الرائع الذى لوّن «فيسبوك» بالبهجة فى أجمل رسالة تهنئة من مسيحيى مصر إلى مسلميها، شفت الجمال فى العبارة المختارة «بحبك يا مسلم.. بحبك يا غالي.. بحبك يا مسلم دايمًا على بالي».
رسالة شبرا تقول إن فطرة الشعب المصرى سليمة وتعبر عن نفسها بمئات الصور الرائعة، ومنها هذه الصورة الراقية، لماذا إذن تتصدر صور الجفوة والرفض والعنف والتفجير والتهديم والتهجير العناوين.. لماذا تهيمن طيور الظلام على الصورة.. لماذا تتصدر وجوه البغضاء المشهد.. لماذا يشوه هؤلاء الزعران المطلوقون من عوالم سلفية سفلية وجه مصر الطيب بسناج صدورهم وما ينفثون غلاً للذين آمنوا بالعيش المشترك؟!
بحبك يا مسلم بحبك يا طيب، المحبة شعور بسيط، يلمس شغاف القلب، القصة ليست تبويس اللحى واللى فى القلب فى القلب، ولكنها نفوس خيرة تسعى بين الناس فى الشارع بالمحبة، وعلى الأرض السلام وفى الناس المسرة.
الفيديو يعبر تمامًا عن مصر الطيبة تعبيرًا شعبيًا رائعًا.على بساطته وعفويته، مبادرة بألف مقال، وبألف خطبة، وبألف مقدمة فضائية زاعقة بالوحدة الوطنية، يرسمون صورة يعجز عن وصفها القلم السيال، المسيحيون المصريون يبدعون إبداعًا راقيًا، ويرسمون لوحات ملونة بحبر القلب، نموذج ومثال، المسيحيون يضربون أروع الأمثلة فى المحبة، ولا يمررون المناسبات العطرة دون لمحات طيبة، طوبى للساعين إلى الخير.
سيقول السفهاء من الناس إنهم يتجملون، دعهم فى غيهم وغلهم يعمهون، قلوبهم قاسية ونفوسهم مظلمة، الطيبون دومًا حاضرون، ويستلزم تكثيف الحضور والظهور.
مقارنة ما يجرى فى بعض «قرى المنيا» من بغضاء بما جرى فى «شبرا» يبرهن على أن ما يجرى هناك فى الصعيد مخطط وممنهج لإشعال فتنة، أيادٍ آثمة تعبث هناك، مسيحيو شبرا مثل كل مسيحيى مصر يعلمون أن لهم فى القلب مكانًا، فاحتلوه بطيب صنيعهم، هذا الذى جرى فى شبرا يجب أن يترجم إلى منهج مصرى متكامل فى السماحة والتعايش بين الأديان.
ومن القلب للقلب رسول، تعليق لافتات تهنئة للمسلمين بمناسبة الأعياد، لافتات المحبة، وفيه أحلى من كده، وبأحسن منها: «بحبك يا مسيحى بحبك يا غالى- بحبك يا مسيحى بحبك يا صاحبى أصلك هو أصلي»، أخويا المسيحى عايز أقولك إنى بحبك، مكتوب إنى أحبك لإنى اتعلمت إنى أحبك، لأنى اخترت إنى أحبك، ووصانا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بأقباطها خيرًا لأننا لنا فيهم ذمة ورحمة.
كتبت أعلاه تثمينا وترحيبا برسالة محبة مسيحية خالصة برزت فى الأعياد الدينية والمناسبات الوطنية، أخويا المسلم: عايز أقولك إنى بحبك.. أخوك المسيحي. تحت هذا العنوان توزع حركة شبابية تطلق على نفسها «حركة عايز أقولك إنى بحبك» ملصقات ومنشورات فى شوارع القاهرة، للتأكيد على أن الأقباط يحبون المسلمين.
صفحة الحركة على فيس بوك تسجل إعجابات لافتة، وتشرح للمتابعين أهدافها، وكما تقول: التحرك يأتى فى محاولة للتأكيد على أنه لا توجد خلافات بين المسلمين والأقباط، عقب عمليات التهديد والترويع ضد الأقباط فى مصر واتهامهم بالكفر.. مشيرة إلى أن الإخوان أمام قصر الاتحادية كانوا يلقون القبض على المواطنين ويسألونهم عن ديانتهم.. إضافة إلى وجود تحريض يومى ضد الأقباط من بعض رجال الدين، وهو ما نخشى معه أن يؤدى إلى حالة من الكراهية ضد الأقباط فى مصر.
تقول الملصقات التى اجتذبت الأنظار دهشة واستغرابا فى الرأى العام: كل مسلم هو أخي.. كل مسلمة هى أختي.. كل أم مسلمة هى أمي.. كل أب مسلم هو أبي.
وتضيف المنشورات: أحبك رُغْمَ اختلافنا فى الدين والعقيدة فلا معنى للعقيدة إذا كنا نحب فقط المتشابهين معنا. أحبك ومستعد أن أموت من أجلك فهكذا علمنى السيد المسيح (ما من حب أعظم من هذا: أن يضحى الإنسان بنفسه فى سبيل أحبائه) إنجيل يوحنا 15: 13.
رسائل المحبة المسيحية تنطق بها محركات البحث الإلكترونية، فالأقباط حريصون دوما على إيصال رسائل المحبة، وتتلقاها المراصد الإخوانية بالتشكيك، وتستقبلها المراصد الوطنية بالترحاب، وتقف على حروفها المؤسسات الوطنية باعتبارها نبتة صالحة فى تربة مالحة، المسيحيون الصالحون مصرون على استزراع التربة الوطنية وتلقيحها فى ربيع الوطن تنبت زهورا تعبق الأجواء، وتخفف من الاحتقان، وتبرد السطح الساخن، وتعبد طريقا نحو العيش الكريم بين أحباء الوطن.
لمست صورا طيبة ورصدت رسائل رائعة فى تدليل على أن هناك تجليات شعبية تقفز فوق التعقيدات البيروقراطية التى تترعرع فى جسدها الطائفية والفتاوى المتعصبة دينيا، وتسمو فوق الجراح كما يقولون، بل تذهب إلى تأسيس فقه المواطنة الشعبية تأسيسا على تراث مصرى أصيل متأصل فى البيئة الشعبية المصرية، وقد شاهدت طرفا من هذا فى الحضور المسلم العادى فى جنازات إخوتنا الأقباط، بل وتطوع من يملك ناصية الخطاب بموعظة إسلامية فى سرادق مسيحى، وسط امتنان مسيحى مرحب ولافت حبًا وتقديرًا.
وشاهدت طرفا من هذا يوم احتفل كاهن كنيسة الزقازيق «القس بولا» مع إخوته المسلمين بافتتاح مسجد «الخير» فى الزقازيق، هذه الصورة الرائعة تتالت صورا، منها حضور القمص روفائيل، كاهن كنيسة دكرنس بمحافظة الدقهلية، صلاة العصر، بمسجد «الصالحين» بعزبة «الباشا» التابعة لقرية «ميت فارس» مركز «بنى عبيد» عقب افتتاح الدكتور أحمد الشعراوى، محافظ الدقهلية للمسجد. وأصر كاهن الكنيسة، الذى شارك بافتتاح المسجد على التواجد والوقوف بالصف الأول، بجانب محافظ الدقهلية أثناء أداء صلاة العصر ابتهاجا بافتتاح المسجد.
وشارك القمص يعقوب لبيب، راعى كنيسة الشهيد العظيم «مار جرجس» ببنى بخيت بمحافظة بنى سويف، الدكتور مختار جمعة، وزير الأوقاف، والمهندس شريف حبيب، محافظ بنى سويف افتتاح مسجد قرية بنى بخيت.
وشارك القس تواضروس فوزى، كاهن كنيسة السيدة العذراء ومارجرجس فى منطقة بولاق الدكرور، فى افتتاح المسجد «الكبير» بالمنطقة. وقال الكاهن فى تصريحات نقلتها قناة «الحدث اليوم»: «هى دى مصر، وهو ده الطبع اللى اتربينا عليه نسيج واحد وبلد واحد، ولا نقول وحدة وطنية ولكن محبة وطنية». «دى فرحة كبيرة لينا كلنا علشان هيطلع شباب يعرف يعنى إيه الوسطية، وألف ألف مبروك».
الصورة استلفتت قلبى فحرك قلمى محبة فكتبت بعنوان «الأنبا بولا فى مسجد الخير!».
يقينًا القس بولا احتل مكانًا طيبًا فى قلوب المسلمين، كانت جد مفاجأة سارة أعدها مسيحيو الشرقية لإخوتهم، الرسالة حُرّرت فى الزقازيق، رسالة بعلم الوصول.. رسالة حب.
المسيحيون فرحون بافتتاح مسجد، ويصطفون بعد صلاة الجمعة ليباركوا افتتاح بيت من بيوت الله يذكر فيه اسمه سبحانه من بذر المحبة فى القلوب، نفسى ومنى عينى يصطف المسلمون يوم افتتاح كنيسة يباركون ويهنئون إخوتهم، وينثرون الورود على الرؤوس، قريبًا إن شاء الله.
افتتاح مسجد مثل افتتاح كنيسة، بيوت الله، الفطرة الطبيعية للشعب المصرى سليمة وتعبر عن نفسها بمئات الصور الرائعة، ومنها الصورة فى باحة مسجد الخير.
الطيبون دومًا حاضرون، ويستلزم تكثيف الحضور والظهور، مقارنة ما جرى فى «كوم اللوفي» بالمنيا بما جرى بقسم الحكماء فى الزقازيق يبرهن على أن ما يجرى هناك فى الصعيد مخطط وممنهج لإشعال فتنة، أياد آثمة تعبث هناك، وما يجرى فى الحكماء من وجوه الحكمة، وجوه طيبة تسعى فى الخير فى باحة مسجد الخير، ليت إخوتنا الطيبين فى كوم اللوفى يستوعبون درس الحكماء فى محافظة الخير (الشرقية).
مسيحيو الحكماء مثل كل مسيحيى مصر يعلمون أن لهم فى القلب مكانًا، فاحتلوه بطيب صنيعهم، ومسلمو الحكماء فتحوا قلوبهم قبل بيوتهم ليسكن فيها المسيحيون، هذا الذى جرى فى الحكماء يجب أن يترجم إلى منهج مصرى متكامل فى السماحة والتعايش بين الأديان.
أحب للناس ما تحبه لنفسك، ابن لأخيك مكانًا للصلاة كما تحب أن تصلى، لا تمنعه من صلاة، الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام أفسح فى مسجده الشريف مكانًا لصلاة نصارى نجران، صلّ ودع أخاك يصلى، لا تضيق عليه فى الطرقات، الوطن يسع الجميع، والأرض تسع لألف مسجد وألف كنيسة، الدين لله والوطن للجميع.
وتتواصل الرسائل الطيبة بمبادرات فردية من قسس وكهنة وأساقفة حادبين على الوحدة الوطنية، وكتبت إلى المصريين: هل أتاكم نبأ أبونا بطرس؟!
وَضرب مثلاً.. القمص بطرس بطرس، وكيل عام مطرانية دمياط والدقهلية وكفر الشيخ، يشارك فى حملة «صكوك الأضاحي» التى أعلنت عنها مديرية الأوقاف بكفر الشيخ، بشراء «صكين»، بادرة تفيض بالمودة الخالصة، والأخوة الصادقة، والسماحة التى ترطب قيظ الأيام.
جد مفاجأة سارة أعدها القمص لإخوته المسلمين، رسالة بعلم الوصول، رسالة محبة حُرّرت فى كفر الشيخ ووصلت عموم مصر المحروسة، المسيحيون يتابعون المراسلات على عنوانهم الأثير مصر، يذكرونها فى صلواتهم مباركة، مبارك شعبى مصر.
هنيئًا للقمص الطيب حُسن صنيعه، كلنا غبطة وسرور، القمص يمارس ما جُبِل عليه فى الكنيسة من محبة، الله محبة، الخير محبة، النور محبة، عطفة القمص بشراء صكوك الأضحية نموذج ومثال، القصة ليست تبويس اللحى ولكنها نفوس خيّرة تسعى بين الناس بالمحبة، وعلى الأرض السلام وفى الناس المسرة، والمسرة لكل الناس.
المسيحيون المصريون يبدعون إبداعا راقيًا، ويرسمون لوحات ملونة بحبر القلب، القضية ليست صك أضحية بمبلغ من مال، بل صك محبة لا يُقدر بمال، صك قبول، مصر لم تعرف «صكوك الغفران» قبلاً، مصر تعرف «صكوك المحبة» دومًا، صكوك مصر مسكوكة بماء المحبة، وترد عنا غائلة المتطرفين وتمنع أذاهم، وتجسد ما ينكره المرجفون من محبة هى عنوان عريض لمصر المحروسة بعناية الله وحوله وقوته.
يقينًا القمص بطرس وأعرفه جيدًا، كما أعرف صنوه الطيب الشيخ سعد الفقى، وكيل وزارة الأوقاف بكفر الشيخ، احتلا مكانًا طيبًا فى قلوب الطيبين، دومًا فى القلب.
سيقول السفهاء من الناس إن القمص يتجمّل، فليكن، فليتجمّل أكثر، فيه أجمل من كده، والشيخ يتودد وليكن، فليتودد أكثر، وليصل القمص إخوته، ويفرح لفرحهم، ويغتبط لعيدهم، وليوزع لحوم الأضاحى على الفقراء والمساكين، ولا ننتظر منهم فتوى بحلال اللحم الطيب، وسيبرّه الشيخ سعد فى طعامه، لحم حلال طيب.
دعهم فى غيّهم وغلّهم يعمهون، قلوبهم قاسية ونفوسهم مظلمة، القمص يرد بصنيعه الطيب على غلاظ القلوب الذين يُحرّمون تهنئة الأقباط بأعيادهم، ويزرعون الكراهية فى النفوس، ويقفون من إخوة الوطن موقفًا لا يقرّه شرع ولا دين ولا كان من خلق صاحب الخلق العظيم، عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم، كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ.
ولعل أهم الرسائل التى تلقيتها «رسالة الشهيدين.. أحمد وكيرلس!»، ولهذه قصة سجلتها فى سطور.. منشورة.
طالت المهمة، والمشوار صعيب، والديابة ساكنة الجبل، ديابة واعرة فى جبل واعر، شهداء معركة التحرير الثانى لسيناء صعدوا إلى السماء فداء، وكما ارتوى التراب الطاهر فى معركة التحرير الأولى (أكتوبر 73) بالدم المصرى جميعا، مسلمين وأقباطا فى آية من آيات الوطن، تتعانق أرواح الشهداء فى معركة التحرير الثانية (ما بعد 30 يونيو).
لله در شبابنا فى موتهم قد سابقونا للجنان وشمروا، أمام الشهادة لا فارق بين مسلم ومسيحى، ما لم تفرقه الحياة لا يفرقه الموت فى سبيل الوطن، نزف إلى السماء محتسبين العميد أحمد كمال محمود، وجندى مجند كرولس وهيب فهمي.
تفجير «المدرعة» لم يفرق بين الأحباب، وجيش مصر مؤلف من كل المصريين، كلنا جنود، وضريبة الوطن يدفعها عن طيب خاطر المصريون جميعا، المشهد فى تجليه آية، والشهيد عميد وجندى مجند، لا العميد تخفى وراء الجندى، ولا الجندى فارق العميد، كلاهما فى مقدمة الرهط، فى سيناء الكل فى واحد، ولولا هذه الروح النابضة بالوطنية، المخلصة للقضية، الجوادة بالنفس كريمة، لكان للمعركة شكل آخر.
دماء الشهداء تحرر الأرض التى تمكن منها الإرهابيون فى عام الإخوان الكئيب، ولولا هذه التضحيات لكانت ضاعت الحدود الشرقية من بين أيدينا ونحن عنها غافلون، المخطط الإخوانى كان خطيرا، وسلخ سلخة من أرض سيناء لإقامة إمارة «داعشية» كان قاب قوسين أو أدنى، وعلى عين من الإخوان وبتمويل منهم، استقدموا فى عام واحد آلاف الإرهابيين، واستوطنوهم، جعلوا من سيناء مرفأ لكل الدواعش الهائمين على وجوههم فى الأرض، وكأنه الوطن الموعود، وعد مرسى كما كان وعد بلفور!
تطهير سيناء التى سكنها الدواعش يحتاج إلى وقت وصبر وطول بال، وما يجرى هناك على الأرض جراحة دقيقة، الدواعش يتحصنون بالدروع البشرية، ويرهبون القبائل، ويقتلون المشايخ، ويخطفون الأطفال والنساء، ويشنون حرب عصابات خاطفة، يفخخون المدقات، ويفجرون المعسكرات، ويهاجمون الكمائن بأسلحة ثقيلة وفرها الخائن «مرسي» الذى يجب أن يحاكم على تشكيل هذا الجيش ضد جيش الوطن، خيانة مرسى للوطن وتوطينه الإرهابيين فى سيناء أخطر من تسريبه وثائق الدولة المصرية إلى الاستخبارات القطرية، هذه خيانة وتلك خيانة أشد، خونة الأوطان.
أولادنا فى سيناء ليسوا فى نزهة خلوية، وكل منهم يتشهد إذا أقبل المساء وأرخى سدوله، وإذا أصبح الصباح، وما الإصباح منك بأمثل، زادهم وزوادهم الشهادة فى حب الوطن، لا يفترق فى حب الشهادة عميد عن جندى، مسلم أو مسيحى، تفجير المدرعة الأخير يفجر فينا كل ما كنا نسيناه من معنى أن الكل فى واحد.
صندوق كرولس وهيب جنب صندوق أحمد كمال، مواكب الشهداء تؤذن عليها المساجد عاليا وتدق لها أجراس الكنائس، تزفها، صعد أحمد وكرولس إلى السماء معا، كما خدما معا، تقاسما اللقمة، وشربة الماء، ونومة فى الخلاء، وواجبا يؤديانه قربى إلى الوطن، من ذا الذى يفرق بينهما فى الشهادة، وهذا شهيد وهذا قتيل، أتوزعون صكوك الشهادة على الهوية؟!
توقفت لبرهة وأنا أطالع أسماء شهداء المدرعة، وفاض الدمع منى، يا رب كما جمعت المسلمين والأقباط فى هذا الوطن على الحب، جمعت بين أحمد وكرولس فى الموت، ألا يخجل مشعلو الفتنة؟ ألا يستحى المرجفون؟ ألا يتعظ العاملون على شق الصف، مصر لا تقبل القسمة أبدا على اثنين، مسلم ومسيحى، مصر لكل المصريين.
فى مصر التى أعرفها الكنيسة قبالة المسجد، والمئذنة فى عناق مع المنارة، والشيخ فى وصال مع القسيس، وبيوت المصريين عمار بالحب، شهادة كيرلس بين ذراعى الشهيد أحمد، شهادة لمن ألقى السمع وهو شهيد على لحمة هذا الوطن، وما جمعه الله لا يفرقه كهان الفتنة والفرقة، ومهما أطلقوا من فتاوى لا تخترق درعا، ولا تصيب هدفا، خابت سهامهم، طوبى للشهداء.
«أمام الإرهاب كلنا فى الهم سواء، والإرهاب أعمى القلب لا يفرق فى إرهابه على أساس طائفى، ويستهدف الأقباط لذبح قلب المسلمين، وكسر إرادة الدولة، وتعجيز الأمة المصرية عن القيام، ومنذ أن قامت قيامة هذا الشعب فى 30 يونيو والأقباط فى القلب منه واستهداف إخوتنا قائم وعلى أشده، وتوقفت مليا أمام استشهاد أبونا روفائيل موسى تدليلا على أن الشهادة فرض عين علينا جميعا، من ارتدى القلنسوة، ومن ارتدى العمامة أو الخوذة، عرس الشهداء للجميع».
فى عرس أبونا روفائيل موسي: «كُنْ أَمِينًا إلى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ». (يوحنا اللاهوتي)..
حمل صليبه ومشى الهوينا، لم يحمل حقدًا، كان يبش ويهش لمقدمهم، لم يكن عَبوسًا كارهًا، كان يعظهم بالحسنى، لم يحرّض ويجيّش، كان يحتوى البسطاء تحت جناحه، لم يكن نافرًا منهم منفرًا، كان منفتحًا على الجميع، لم يكن منغلقًا متقوقعًا وراء بابه، كان مثل كل المصريين يحب الحب فى أهله.
أبونا المتنيح القس روفائيل موسى والد لطفلين، أب مصرى طيب وحنون مثل كل الآباء، لم يبتدر أحدهم بالعداء، كان رجل دين مسالمًا ويعيش بين مسالمين، وكان يمشى بين الناس بالمحبة، ويتواصل مع الأحباب، رجل دين يحفظ العهد القديم والجديد، وعهده المتجدد مع أهل العريش، ويغبّر قدميه نحو بيوت إخوانه المسلمين، محبًا مباركًا مهنئًا، مثل كل الآباء طيب يفشى السلام.
لحق بالشهداء إلى السماء، شهداء الكنيسة فى هذه المنطقة الموبوءة بالإرهاب كثر، شهداء الوطن هنا كثر، سبقه إلى السماء الأنبا قزمان، والقس مينا عبود، ماذا فعل أبونا الطيب روفائيل ليغربلوه بالرصاص، هل آذاهم، هل عاداهم، هل قال فيهم قولاً كريهًا؟!
أبونا - نيّح الله روحه - كان يمضى أيامه فى تسبيح، ويحفظ رسالة بولس الرسول عن ظهر قلب: «فَإِنِّى مَحْصُورٌ مِنْ الاثْنَيْنِ: لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ انطلق وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا»، ومضى أيام خدمته فى كنيسته، ودودًا متواضعًا محبًا، يُذكرك بوصفهم فى الآية الكريمة: «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُون»، صدق الله العظيم.
ومنهم قسيسون ورهبان وإنهم لا يستكبرون، أبونا روفائيل كان أقربهم مودة لأهل العريش، وقال الطيبون فى وداعه قولاً طيبًا، كان متواضعًا يمشى بين الناس بِتُؤَدَةٍ وَرِفْقٍ، مطمئنًا لمحبتهم مغتبطًا، لم يُعرف عن الأقباط المصريين كره لإخوة الوطن.
مَن اغتال «أبونا روفائيل» أبدًا ليس من المصريين، يقينًا من الخوارج والشوارد ومصاصى الدماء فى الأنفاق، نيّح الله روحه، قتلوه على الهوية، حكّموا فيه ما لم ينزل به قرآن ولم يستنه الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، الذى تزوج منهم، ورُزق من ستنا «ماريا» بابنه وقرة عينه «إبراهيم» قبل أن يختاره الله إلى جواره، وبكاه المبعوث رحمة للعالمين، وترك لنا ما نعزى به أنفسنا ونحتسب، إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ.
فلنحتسب «أبونا روفائيل»، قتلته الديابة المسعورة بدم بارد، قلوبهم ميتة، ونفوسهم متصحرة مترعة بالحقد والكراهية، وعقول غبية مغيبة مغلقة، يقينًا ليسوا منا، هم مَن أهرقوا دماء جنودنا على الحدود، وسفكوا دماء الآمنين فى قعور البيوت.
اغتيال القس روفائيل موسى جهارًا نهارًا فى العريش نقلة نوعية مجرمة فى سياق إرهابى مخطط، هم يرومون فتنة طائفية لا تُبقى ولا تذر، ولكن هيهات، الدم واحد، والجرح واحد، والحزن واحد، والوطن واحد، والكل فى واحد.
استهداف جديد من جديد لكنيسة الوطن، الكنيسة الوطنية تدفع ضريبة الوطن مجددًا، نزفت الكنيسة فى مشوار الوطن زينة الشباب والشيوخ، وعندما حُرقت الكنائس رفع بابا المصريين شعاره الوطنى الأثير: «وطن بلا كنائس، أفضل من كنائس بلا وطن»، لأن الوطن جامع المصريين، وأرض الوطن طهور تتسع لصلوات المصريين أجمعين.
نعزى أنفسنا، «أبونا كلنا»، والأب هنا رمزية مصرية لرجال الدين الأقباط، يجل المصريون كثيرًا رجال الدين، مَن يحملون كلام الله قريبًا من القلوب، نغبط كنيستنا، مسيرة الشهداء تتجدد بدماء «أبونا روفائيل»، على خطى «ودامون الأرمنتي»، الذى نال إكليل الشهادة الأول على اسم المسيح فى أرض مصر.