سلّمت نفسى
قبل أن أدخل إلى قاعة المسرح بمركز الإبداع الفنى بدار الأوبرا المصرية، التى لا تستوعب أكثر من 75 متفرجًا (بعضُهُم وقوفًا)، حرصتُ على الحضور بين الجمهور، وكان أغلبُهُم شبابًا لم تتجاوز أعمارهم الثلاثين عامًا، منهم من حَضَر العرضَ مرةً أو مراتٍ سابقةً، ومنهم من وقف فخورًا لأنه أخيرًا ظفَر بالدعوة المجانية لمشاهدة العرض، لأوَّل مرة، رغم حضوره عشر مرات سابقة لم يُفلِح فيها بأن يحظى بهذه الفرصة.
دارت نقاشات حماسية، تلصَّصْتُ على بعضها، وشاركتُ فى أحدها، وعَكَسَتْ كلُّها شغفًا واضحًا وحماسًا كبيرًا للعرض المسرحى «سلِّم نفسك»، عرْضِ مادة الارتجال والتمثيل المسرحى للدفعة الثالثة (قسم التمثيل) باستوديو مسرح مركز الإبداع الفنى بصندوق التنمية الثقافية.
قضيتُ أكثر من ساعتين داخل قاعة العرض «مسلِّم نفسي»، وكانت التجربةُ مدهشةً ومثيرةً، يحقُّ أولاً أن نَصِفَ العرضَ بأنه عمل إبداعى «مكتمل الأركان» لدرجة التميز، تضافَرَتْ جهودُ كلِّ العاملين فيه (وحولَهُ) بقيادة المايسترو المسرحى الفنان المخضرم خالد جلال، الذى يستحقُّ مقالاتٍ عن قدراتِهِ كقياديٍّ متفرِّد تفوَّق على الجميع وحقَّق المعادلة المستحيلة، وهى أن تقدم «فنًا وطنيًا» تصل فيه إلى أقصى مدى (مسموح) من النقد السياسى (الساخر) الهادف والداعم لتماسُك الوطن، وتوظِّف فى هذا الفن الوطنى قدراتٍ شبابيةً (مهدرة)، وتفجِّر بداخلها إبداعًا (متفردًا)، ثم «تلضم» أحلام وطموحات هؤلاء الشباب وتخلق منها «عُقَدَ» للبهجة، تجعل هؤلاء الشباب يعزفون سيمفونية راقية من العمل الجماعى (نادر الوجود فى مجتمعنا)، تتكامل فيه جهودهم وتتراصّ متجاورةً لترسمَ لوحة فنية مبهرة، وأخيرا تنجح وأنت تقدم فنًا راقيًا (نخبويًا)، أن تحقق نجاحًا جماهيريًا كبيرًا مشهودًا.
هذه هى «خلطة» خالد جلال، ومشروعه المميز، الذى يقدم «سلِّم نفسك»، لتنضم إلى سابق تجاربه المسرحية مع الشباب ومنها «قهوة سادة» و«بعد الليل»، التى يحدث عرضُها دويًا وجدلاً ثقافيًا كبيرًا، يؤكد فى كل مرة قدرة الشباب المصرى ومكنون طاقتهم وعبقريَّتِهم، التى تنتظر من يُوظِّفُها ويُخرِج أجمل وأبدع ما فيها.
جدُّ واجتهادُ شبابِ هذه الدفعة من المركز الذى استمرَّ عامين، وتفانيهم فى التدريباتِ المتنوعةِ على الفنون التى تُصقِل موهبتهم فى الإلقاء، والاستعراض، والتمثيل، والغناء، والارتجال، وآداب السلوك و«الإتيكيت»، والفوتوغرافيا، وتصميم الأزياء، وتنفيذ الديكور والإخراج المسرحى، التى فجرت قدراتهم فى «ارتجال» عرض مسرحى هادف، ينطلق من اللحظة المظلمة التى نعيشها، ويدلف بنا إلى سرداب أكثر إظلامًا وقذارةً بفعل سنوات الانحطاط التى أوصلَتْ الشخصية المصرية إلى «الدرك الأسفل» من الحياة، وفى لحظة فقدان الأمل نجد الملفَّ المدفون فى أعماق هذه الشخصية، الذى يمثل نقطة النور وبداية الحل، وهو ملف «الوطنية» الذى يتجلَّى فى أبهى صورِهِ بوجود الجندى المصرى على المسرح، الذى يظهر فى مشهد مقتبَس من فيلم «العمر لحظة»، ليذكِّرَنا بنصر أكتوبر العظيم، أبهى لحظات الوطنية فى الوجدان المصرى، تُخرِجُنا من هذا «الجُبّ» الفنى المصنوع ببراعة ووعى، على وصلة تصفيق حماسية من جمهور الحضور لكل صُنَّاع هذا الفن الجميل.
كنتُ غاضبًا قبل العرض من فوضى توزيع التذاكر، وتزاحُمِ الشباب لخطفِ مكانٍ داخل المسرح، وهو ما صرَّحْتُ به للمخرج خالد جلال وهو يستقبلنى على باب القاعة قبل بدء العرض، لكن ابتسامته «البشوشة» وحفاوة استقباله أضاعتا الغضب وجعلتانى لا أنتبه إلى أن ما حَدَث كان جزءًا من الإعداد النفسى للمتفرِّج قبل أن يستسلم لجلسة العلاج بالفن داخل «استوديو مركز الإبداع»، التى أتمناها لكل مصرى.. وأدعوه بصدق أن «يسلِّم نفسه» للفن كى ننقذ الوطن.. ربما ينجح الفن فيما فشلت فيه السياسة.>