الجمعة 25 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
.. إنهم يقتلون «شكسبير» العالم الإسلامى

.. إنهم يقتلون «شكسبير» العالم الإسلامى


أتى الصوفى الكبير «جلال الدين الرومى» سلطان القلوب من تكيته فى بغداد ممتطياً جواده الأبيض كالحليب مرتدياً قفطاناً أنيقاً كهرمانى اللون مزركشاً بأوراق شجر ذهبية ومرصعاً باللآلئ.. منتصب القامة ذا كبرياء.. حكيماً ونبيلاً ورقيقاً.. ومن خلفه حشد من المعجبين.. يبدو حاكماً أكثر مما يبدو عالماً بل سلطاناً للريح والنار والماء والأرض.. جواده كان شامخاً ثابت الجنان كأنه يدرك أهمية الرجل الذى يمتطى صهوته.. ترجل من فوق جواده ودخل المسجد المحتشد عن آخره بالناس حتى بات التنفس مستحيلاً ولم يكن ثمة موطئ لقدم.. استقبله كالمعتاد «شمس الدين التبريزى» تلميذه الأثير الدرويش الرحالة الذى آمن به إيماناً عميقاً والتصق به وقد أدرك أنه المعلم الأكبر.. وأصبح مسئولاً عن تحوله من رجل دين محلى إلى شاعر صوفى طبقت شهرته الآفاق.. وسعياً إلى بناء عالم جديد تسوده المحبة وروح التفانى وقبول الآخر .. لقد كان «التبريزى» يدرك أن ثمة مرشدين مزيفين ومعلمين دجالين فى هذا العالم فلم يخلط بين الناس الذين تدفعهم السلطة ويحبون أنفسهم وبين المعلمين الحقيقيين.. فالمعلم الروحى الحقيقى لا يجذب الانتباه إلى نفسه ولا يتوقع طاعة عمياء أو دهشة تامة.. ولكنه يساعد التابعين فى تقدير أنفسهم الباطنة.. والإعجاب بها.. المعلمون الحقيقيون شفافون كالزجاج وهم يتركون نور الله يمر من خلالهم.
وقد أتى «الرومى» و«التبريزى» فى القرن (13) فى عصر التعصب الأعمى والتصادم الدينى وانعدام الأمن.. والخوف من الآخر وسوء الفهم الثقافى وأحسا أنه فى مثل هذه الأوقات تكون الحاجة إلى الحب أكبر من أى وقت مضى.. فالحب هو جوهر الحياة وهدفها يهاجم الجميع بمن فيهم أولئك الذين يتحاشونه.. لذلك فقد ناصرا الروحانيات الكلية وفتح الرومى أبوابه للناس على اختلاف أفكارهم.. وبدلاً من الجهاد الموجه إلى الخارج - الذى يعرف بالحرب على الكفار - وكان ينفذه العديدون فى تلك الأيام تماماً كما هو الحال فى يومنا هذا - فإن «الرومى» مثّل الجهاد الموجه إلى الداخل حيث يتجسد الهدف من الجهاد ضد النفس .
اعتلى المفوه.. «شكسبير» العالم الإسلامى.. المنبر.. وتحدث بما يملكه من حدس ربانى وهى تلك المعرفة التى تمنح للأنبياء والقديسين.. قال فى استهلاله إن رقم الأربعين يرمز فى الفكر الصوفى إلى الارتقاء من مرحلة إلى أخرى أعلى منها درجة.. فضلاً عن اليقظة الروحية.. عندما تحزن حداداً فإن الحزن يستمر أربعين يوماً.. وعندما يولد الطفل فإنه بحاجة إلى أربعين يوماً لكى يكون جاهزاً للبدء بالحياة على وجه الأرض «وعندما نحب نحتاج إلى الانتظار أربعين يوماً كى نتأكد من مشاعرنا.. كما استمر طوفان «نوح» أربعين يوماً.. وفى الوقت الذى دمرت فيه المياه الحياة فإنها غسلت كل ذنوبنا وساعدت الجنس البشرى على البدء بداية جديدة.. وفى التصوف الإسلامى ثمة أربعون درجة بين الإنسان والله كذلك ثمة أربع مراحل أساسية من الوعى وفى كل مرحلة عشر درجات فيصبح المجموع أربعين.. وخرج «يسوع» إلى البرية وظل فيها أربعون نهاراً وليلة.. أما «محمد» فقد بلغ الأربعين عندما جاءه الوحى ليصبح نبياً.. واستغرق «بوذا» فى تأملاته من تحت شجرة زيزفون أربعين يوماً.
للبشر مكانة عظيمة بين خلق الله حيث يقول الله «فنفخنا فيه من روحنا» إن كل واحد منا بلا استثناء أعد ليكون مندوباً من الله على هذه الأرض.. اسألوا أنفسكم كم مرة تتصرفون على هذا الأساس.. إن كنتم حقاً تتصرفون.. المسئولية ملقاة على عاتقنا فى اكتشاف الروح المقدسة الكامنة فينا.
وبدلاً من أن يهيم المتعصبون المتدينون فى حب الله ويخوضون حرباً ضد نفوسهم تراهم يحاربون غيرهم من الناس مولدين بذلك موجات من الخوف والرعب.. إنهم شديدو الهوس بالعقاب والثواب.. النار والفاكهة.. الملائكة والشياطين حتى تجدهم فى رغبتهم للوصول إلى مستقبل يبرر هويتهم اليوم وقد نسوا الله.. الجحيم هنا والآن وكذلك السماء.. كف عن التفكير فى جهنم أو الحلم بالسماء لأنهما موجودان فى هذه اللحظة الراهنة.. وفى كل مرة نغرم فيها.. نرتقى إلى السماء وفى كل مرة نكره فيها أو نقاتل أحداً ما نهوى إلى نار جهنم.. لم هذا القلق الشديد من الآخرة والمستقبل المتخيل فى حين أن اللحظة الراهنة هى الوقت الوحيد الذى يمكننا أن نعيش فيه حياة صادقة فى وجود الله وغيابه عن حياتنا.. وهكذا فإن الصوفيين لا تحفزهم مخاوف العقاب فى جهنم ولا الرغبة فى الثواب فى السماء فتراهم يعشقون الله لأنهم بكل بساطة يحبونه حباً صافياً لا تشوبه شائبة ولا يمكن اختراقه.. الحب هو السبب.. الحب هو الهدف.
لا أنا بالمسيحى ولا باليهودى.. ولا بالمسلم ولا بالهندوسى أو البوذى أو الصوفى أو الصينى.. ولا من أى دين أو نظام ثقافى.. لست شرقياً ولا غربياً.. مكانى اللا مكان.. علامة العلامات.. إننى لست بالشرقى ولا بالغربى.. بل أنتمى إلى مملكة الحب.. إلى المحبوب.
ويبدو أن تلك كانت العظة الأخيرة.. فقد أصيب «الرومى» بعدها بحمى شديدة وأوصى من حوله بتقوى الله العظيم وطاعته.. والبعد عن الشرور والآثام واحتمال أذى الناس والصبر عليه.. فخير الناس أنفعهم للناس.. وخير الكلام ما قل ودل.
***
لكن هكسوس العصر.. كتائب التكفير فى القرن (21).. عادوا من جديد.. من كهوف تخلف ودمامة القرن (13).. يحملون خطاب الكراهية الأسود.. كانوا يعلمون أن مولانا «الرومى» لم يمت.. لأن رسالته السامية فى الحب لم تمت فهى جوهر الوجود وسر الحياة .. وكما أنقذت تلك الرسالة العالم من القلق والاضطرابات قبل سبعمائة عام.. مازالت تشبع العقول وتروى القلوب والأرواح فهى نداء دائم .. ودعوة مستمرة إلى السعادة والجمال من الماضى إلى الحاضر.. ومن الحاضر إلى المستقبل.. خافوا.. وتملكهم الرعب فما زال ضريحه مزاراً للمحبين ومازال مكتوباً على بابه بخط واضح لم تمحه الأيام:
هذا المقام بمثابة كعبة للعشاق/ من أتاه ناقصاً رجع كاملاً مكتملاً/ لا تبحث عن قبرنا فى التربة بعد الموت/ بل ابحث عنه فى قلوب المحبين.
اقتحم الظلاميون أعداء الحياة وأنصار الردة الحضارية المسجد فى «الروضة» يبحثون عنه فلم يجدوا إلا أحبابه المصلين ركعًا سُجَّدًا يمثلونه ويحفظونه فى حدقات العيون.. رأوه فى عيونهم الصافية وقلوبهم الخاشعة.. أطلقوا نيرانهم العشوائية عليهم.. أطلقوها على مولانا «جلال الدين الرومى».