
عاطف بشاى
«سينما العشوائيات» والتحليل النفسى للشخصية المصرية
صحيح أن آفة حارتنا النسيان، لكن الصحيح أيضًا أن الذاكرة المجهدة والضمير المثقل بعذابات السنين تستقر وتقيم فيهما أحزان لا تمحى وجروح لا تندمل وأوجاع لا تطويها الأيام ولا تغيرها الأحوال ولا تذروها الرياح، فكيف لتلك الذاكرة الواهنة أن تنسى صور الذين تفحموا فى قطار الصعيد؟.. والذين أكلتهم الأسماك المتوحشة فى حادثة غرق العبَّارة؟.. والذين وقعت فوق رءوسهم هضبة المقطم وتناثرت أشلاء صغارهم تحت الأنقاض؟.
ويأتى أصحاب القلوب الأسمنتية والعيون الزجاجية والمسئولون من أصحاب الياقات المنشاة داخل سياراتهم الفارهة.. تسبقهم البرفانات الفواحة.. ويُقذف رئيس الوزراء ونجلا المخلوع بطوب البؤساء الذين تولوا بأنفسهم مهمة انتشال جثث ضحاياهم ودفنها.. واستعدوا لالتحاف السماء وافتراش الأرض فى العراء.. بينما عاد السلاطين أدراجهم وهم يعجبون أشد العجب فكيف يهين الأوباش شرف استقبالهم ويرفضون باقات مواساتهم؟!.
إنهم فقراء العشوائيات الذين لا يستحقون الحياة ويطلب منهم كل يوم الاعتذار فيه عن وجودهم فى دنيا المترفين!.
لكن هؤلاء الأوباش كانوا طليعة من صنعت صرخات معاناتهم إرهاصات ثورة تطالب بالحرية والكرامة وقبلهما العدالة الاجتماعية فى دولة تجهز تمامًا على الفقراء وتدحر بقايا الطبقة المتوسطة، وتواصل تدليل الأغنياء، بل تدليل قططهم وكلابهم.
ولكن.. ولأن مجتمع العشوائيات شئنا أم أبينا هو جزء أصيل فى تكوين وتركيبة الشخصيات المصرية منذ بداية انتشارها وحتى الآن، فإن مشكلة المهمشين ومشكلة قاطنى العشوائيات من المشكلات الخطيرة التى حظيت بعرضها الأفلام المصرية المعاصرة عرضًا دراميًا اهتم فيها بدراسة أحوالهم الاجتماعية وأنماط شخصياتهم وأبعادهم النفسية.. وانعكاس معاناتهم وتأثيراتها المختلفة على المجتمع..موقفهم من السلطة التى تتمخض عن أحداث عنف وتطرف دينى.. عواطفهم المجهضة.. أحلامهم الضائعة.. قصص حبهم الفاشلة.. جوعهم الجنسى المدمر.
ولا يمكننا بالطبع أن نبرئ تلك الأفلام من عيوب وثغرات كثيرة سواء فى الشكل أو المضمون فالكثير منهم - كما فى أفلام المخرج «خالد يوسف» مثلاً - يركز فى رسم الشخصيات الدرامية على أنماط المنحرفين سلوكيًا وأخلاقيًا.. فهم عدوانيون.. مدمنون.. متحرشون.. أميون.. بائعون جائلون.. لصوص وقتلة.. لا قيم ولا مبادئ ولا وازع من ضمير.. أشرار بالسليقة.. عاهرات بالضرورة.. وقوادون بالتبعية.. شحاذون ونصابون ودجالون.. ذلك لأن كاتب السيناريو بسبب فهمه الخاطئ للمستوى الاقتصادى لتلك الشريحة الاجتماعية المتباينة الدخل التى تمثل نوعًا من «اللخبطة الطبقية»، والاختلاط المتداخل وغير المحدد، وبالتالى لا يمكن حصرهم فى نماذج أغلبهم من معتادى الإجرام والخارجين على القانون والحقيقة أن كثيرًا من الشرفاء الذين يمتهنون مهن الطب والهندسة والتدريس والمحاماة، يقطنون تلك المناطق لقلة دخلهم وعدم قدرتهم المادية على إيجاد مسكن مناسب فى أحياء ملائمة خارج مجتمع العشوائيات.
لذلك فإن هذه الأفلام - وهى سلبية أخرى - تجنح كثيرًا إلى الميلودراما الفجة، حيث الأحداث الملفقة التى تعتمد على الصدفة والمفاجأة وانعدام المنطق، ففى فيلم «حين ميسرة» مثلاً تتلخص قصته فى الآتى: «عادل» شاب يعول أسرة.. يعمل ميكانيكيًا يخلص فتاة هاربة من أسرتها من براثن آخر يحاول اغتصابها.. يتهم بإغراق سيارة المغتصب.. يدخل السجن.. يخرج.. يتصل جنسيًا بالفتاة.. تلد منه ابنًا غير شرعى لأنه يرفض الزواج بها.. تهرب إلى الإسكندرية.. وتترك وليدها بالقطار.. السائق يعطيه لزوجين غنيين غير منجبين مقابل مبلغ مالى .. «عادل» يعمل بالمخدرات والبلطجة.. يصبح مرشدًا للشرطة.. الضباط يغضبون عليه.. يلفقون له قضية مخدرات.. يدخل السجن مرة أخرى.. بينما زوجته الهاربة تمتهن الدعارة.. وهكذا.
وسط كل هذا الركام من الأحداث السطحية المفتعلة غير النابعة من قوة إرادة الشخصية..تعجز (الحبكة الدرامية) عن الوصول إلى مضمون قوى يدين مجتمعًا متوحشًا يقهر شخصيات هشة ومدانة أصلاً غير قادرة على تجاوز مصيرها الفاجع أو توجيه رسالة موجهة دالة لهذا المجتمع الظالم.. بل على العكس إن تلك الشخصيات المجرمة والملوثة - بصرف النظر عن النيات الحسنة - تصبح رسالتها بموجب رسم الشخصيات على هذا المنوال والأحداث على تلك الميلودرامية - هى رسالة سلبية مؤداها أن المدان يستحق مصيره ..ومهدرة فرصته فى أن تقوم الدراما - كما تخبرنا به تعريفات الفن - بالوظيفة التحريضية على تغيير الأوضاع غير الملائمة والمرفوضة داخل المجتمع.. يتفق مع هذا الرأى «د.طلعت حكيم» مؤلف كتاب التحليل النفسى للشخصية المصرية الذى صدر حديثًا، ويظهر هذا الاتفاق فى شرحه للنقاط الأساسية فى تحليل فيلم «عبده موتة» بطولة «محمد رمضان»، فيؤكد أن صورة قاطنى العشوائيات كما يعرضها الفيلم تتسم فى مجملها بالسلبية، حيث تتميز بأنها «نرجسية» و«مضطهدة» و«اكتئابية» و«عدوانية» و«قلقة» و«جنسية» و«معيبة» (تقترب ملامح شخصيته كثيرًا من ملامح شخصية البطل فى «حين ميسرة».. كما أنه ضد النظام الرمزى للمجتمع.. أما التفاعلات بين الشخصيات فإن نمط العلاقات بين أفراد الجماعة (المجرمة أو الشريرة) لم يظهر قائدًا محددًا فسواء كان هو «عبده موتة» أو «مختار العوّ».. فكل منهما نموذج انحرافى للقائد المسيطر على جماعة، لكن مؤلف الفيلم يرى أنه يعكس دلالة عميقة باعتباره صورة مصغرة للمجتمع.. ويحمل رسائل عديدة أهمها فشل النظام الرمزى الحالى فى احتواء نماذج المهمشين وقاطنى العشوائيات داخله، مما يجعلهم لا يجدون أى بديل سوى البلطجة لتحقيق الرزق أو العنف لتحقيق الشعور بالأمن.
لكــن «د.طلعت حكيم» فى نهــاية تحليله النفسى يتفق معنا فى أن الخطاب السينمائى ركز على عرض صورة قاطنى العشوائيات فى شكلها السلبى الفج ولم يشر إلى غيرهما من أفراد المجتمع.
أى أن الفيلم - وكذلك معظم أفلام العشوائيات - يقدم تلك العشوائيات كماكينة لإنتاج جميع نواحى الانحراف الاجتماعى وهى صوة متحيزة إلى حد بعيد ولا تصف الأمور بموضوعية.. ومن ثم يفقد الفيلم تأثيره القوى فى نفوس المتلقين.>