
عاطف بشاى
كوميديا سيد قطب
للكوميديا أنواع.. منها كوميديا الفكرة.. وكوميديا الموضوع.. وكوميديا الشخصية أو الأنماط.. والفارس.. وكوميديا «التراجيكوميدي» أو الكوميديا السوداء..
فهل يمكن أن نضيف إليهم نوعاً جديداً نسميه كوميديا «سيد قطب»؟!
ممكن.. طالما أن عناصر الضحك الأساسية فى الكوميديا متوافرة لديه مثل المفارقة.. وسوء التفاهم.
كما يمكن أن نطلق عليه صفات وألقابا مثل «صانع البهجة» و«تاجر السعادة».. وناظر مدرسة البشاشة والحبور.. و«مؤسس أصول الفرح الإنساني» بدلاً من أمام التكفيريين ورئيس كتائب الكراهية.. والازدراء والعنف والإرهاب.. وعميد أكاديمية الكآبة والتجهم والفظاظة والشذر.. فمن يصدق أن كاتب مقال «مباهج الحياة» عنصر أصيل فى الإصلاح الاجتماعى الذى نشر فى مجلة الشئون الإجتماعية عام (1940) وكان ضمن مجموعة مقالات جمعت فى كتاب بعنوان «المجتمع المصرى.. جذوره وآفاقه» هو الرائد الأول والمؤسس لأفكار الجاهلية والتكفير فى مصر.. والتى كما يقول الأستاذ «حلمى النمنم» فى كتابه «سيد قطب وثورة يوليو».. أن مصر كانت بريئة طوال عمر تاريخها الإسلامى من هذه الأفكار.. وعرفت بعض المجتمعات العربية «الخوارج» وغيرها من الفرق الصغيرة التى تكفر ما عداها.. وتذبح خصومها والمختلفين معها.. ولفظت مصر دائماً هذه الفرق.. وكانت نموذجاً لتسامح الإسلام وتحضره.. إلى أن هل علينا «سيد قطب» بأفكار الحاكمية والجاهلية.. وإسقاط طاعة الحاكم ما لم يحكم بالشريعة حيث يصبح كافراً يستوجب الجهاد ضده.
من الذى يصدق أن «سيد قطب» يكتب مقالاً عن «الفرح الإنساني» ناعياً حظنا نحن المصريين من الحياة الحقيقية.. لأن مباهجنا الفردية والاجتماعية شحيحة.. ويؤكد حاجتنا إلى هذا الفرح الذى يعكس سلامة الفطرة وصحة الشعور.. وهما أكبر مقومات الحياة.. فالفرح الإنسانى ظاهرة نفسية وعقلية تقابل فى الحيوان ظاهرة القفز والوثب.. وفى الطير ظاهرة الغناء.. وفى النبات ظاهرة التفتح والازدهار.. وهذه الظواهر جميعاً دليل الحيوية والصحة فى الأحياء.. وهو يفرق بين التهريج والمجون وبين الفرح الإنسانى الراقى بمنهج يقترب من منهج نقاد الأدب والفن فى التفرقة بين الضحك الرخيص الذى يحتوى على ابتذال وسطحية وبذاءة وبين الكوميديا الحقيقية القائمة على الوعى والعقل وسمو الأفكار.
ويستطرد فى حماس وانفعال متسائلاً.. ليسأل كل منا نفسه.. كم مرة نضحك فى اليوم أو الأسبوع أو الشهر ضحكة مشرقة مبعثها الحيوية الجسمية والشعور براحة البدن واكتفائه.. وخلوه من العوائق والمنغصات؟! ثم تعالوا ندخل البيت المصرى فى المدينة فماذا نحن واجدون فيه من مباهج الحياة المنزلية.. ومن مظاهر المرح المشتركة.. بل من مظاهر المشاركة الوجدانية فى أبسط صورها بين أفراد المنزل الواحد.
إننا نقضى أعيادنا على المقاهى نتطلع فى شبه ذهول للرائحات والغاديات.. والعيد القومى الوحيد الذى نحاول أن نبتهج به هو عيد الربيع وشم النسيم.. تهبط فيه إلى الاستهتار الماجن.. أننا لم نعرف بعد كيف نفرح فرح الآدميين.
ويعزى «تاجر السعادة» وعاشق البهجة أسباب حالة الكآبة العامة التى تغشى مجتمعنا المصرى إلى كثير من الأمور منها أنه ليس لدينا قطعة موسيقية واحدة.. ولا أغنية مصرية واحدة تحمل طابع الصحة وترتفع عند نداء الجنس المريض.. وأكثر من ذلك أنه ليس لدينا حنجرة واحدة مستعدة لإخراج نبرة الفرح أو نبرة النشاط والصحة إذا عزت علينا بنبرة السمو والتحليق ولم يتبق عندنا من المغنين من يصلح لترديد نغمة واحدة من نغمات الإحساس السليم.
وطالما شكونا التأليف والتلحين ولكننا لم نلتفت إلى ظاهرة عجيبة فى أصوات مطربينا ومطرباتنا.. وهى أن حناجرهم وحناجرهن لم تعد صالحة إلا لإخراج النبرة الكئيبة والصوت الحزين.
المدهش فى الأمر أن هذا الإمام المصلح البشوش الذى يحمل راية الدعوة إلى المرح والبهجة لا يكفر فقط غناء وموسيقى الأربعينيات .. لكنه فى تناقض غريب .. وذوق سقيم ومزاج نفسى معتل وتعصب مقيت يوضح توجهاته ودخيلة نفسه الكئيبة ويفتى ويحرض ويشجب ويدعو باستياء وحدة فى مقالاته بعد ثورة يوليو (1952) فى «الرسالة» إلى منع إذاعة أغنيات «محمد عبدالوهاب» و«فريد الأطرش» و«محمد فوزي» و«ليلى مراد» و آخرين وأخريات.. وهى دعوة - كما يرى «حلمى النمنم» - فى جوهرها وأساسها إلى تحريم الفن.. حتى لو لم تصدر تلك الدعوة مكشوفة وصريحة.. بل جاءت مبطنة بادعاءات الثورة والحفاظ على نجاح الثورة واستمرارها.. وتمتد الدعوة من الفن إلى الكتاب والشعراء.. وإذا «بسيد قطب» يطلب أيضاً من الثوار أعضاء مجلس قيادة الثور منع عدد من الكتاب والشعراء من الإنشاد للعهد الجديد وهى دعوة لاضطهاد الكتاب والحجر عليهم والتفتيش فى نفوسهم وضمائرهم.
ويقارن «سيد قطب» بين أحوال المصريين فيما يتصل بالبهجة وبين الأجانب مؤكداً أن الإفرنج يفرحون كثيراً لأنهم يعملون كثيراً وينتجون كثيراً ويشعرون بقيمة الحياة .. فيتطلعون إلى مثل عليا تملأ فراغها وترفع مستواها ..ويحققون كثيراً من هذه المثل فيفرحون .. أما نحن فلا نفرح لإننا لا نعمل فبغير حمية ولا إقبال.
وينصح «سيد قطب» فى نهاية مقاله أن تقوم وزارة الشئون الاجتماعية بدور مهم للإكثار من المباهج الاجتماعية.. والتجديد فيها والابتكار فى كل مناسبة من مناسبات العام.. حيث يتاح الاشتراك فيها لأكبر عدد ممكن من الشعب المحروم.
هذا هو «سيد قطب» الأربعينيات الذى تحول فى الخمسينيات والستينيات إلى زعيم التكفير والإرهاب والجهامة وكراهية وازدراء المجتمع.. والعنف وإشاعة الكآبة.. وتحريم البهجة
ولله فى خلقه شئون..