الخميس 24 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
مشكلة المتفرج

مشكلة المتفرج


مما لا شك فيه أن الأحوال الاجتماعية والاقتصادية تلعب دوراً خطيراً فى تطور أشكال الفنون وأساليبها، من حيث أنها تستطيع أن تهيئ للفن موضوعاته وتحدد اتجاهاته العامة، وتطلق العنان لقوى الخلق والإبداع وتدفعها عبر التاريخ، تلهمها وتغذيها، أو تحط منها وتقضى عليها.. لكم من الغريب حقاً أنه بالرغم من وجود مثل هذا الترابط الوثيق بين الأحوال الاجتماعية وتطور الفنون نجد أنه كلما صاحب تطور المجتمعات وتغيرها عبر التاريخ تطوراً وتغيراً فى أشكال الفنون واتجاهاتها، اتسعت الهوة بين المتلقى والفن.
 فبينما اتجه الفن الحديث نحو الغرابة والصعوبة والتعقيد كنتيجة مباشرة لتعقد وتشابك أساليب الحياة والثقافة، بقى الناس عند تصوراتهم ومقاييسهم القديمة للفن والفنانين، مولين ظهورهم لفنون المعاصرة، ناعتين أصحابها بالجنون والتخريف أو- فى أحسن الظروف- بالجدب وتواضع الموهبة.. ولعل هذا الموقف المتعسف من قبل المتلقى يرجع فى المرتبة الأولى إلى طبيعة تكوينه العقلى والنفسى التى تختلف بالضرورة عن طبيعة الفنان النفسية والعقلية.. فالإنسان العادى كما يرى «برجسون» يبقى فى دائرة التعامل النفعى مع الواقع.. لا يرى فى هذا الواقع إلا ما يجعله دائماً على استعداد للمواجهة أو للاستجابة لما يتعرض له من مواقف حياتية محاولاً بأسلوب برجماتى أن يحقق بطريقة شعورية أو لا شعورية إشباعاً فى حياته العملية.. ومن هنا فهو يصنف الأشياء من حوله تبعاً لفائدتها ومنفعتها فقط.. غير مدرك لأشكالها وألوانها.. بينما يبقى الفنان فى الطرف المقابل أقل التصاقاً بالواقع النفعى، أقدر على فهمه وتصوره ومن ثم تجاوزه.. أى أنه يستوعب العالم المفروض علينا ويحيله إلى عالم آخر يقيمه هو باستخدام أدواته الفنية..
وهكذا تبدو أزمة المتلقى فى عدم قدرته على تذوق الفن الأشد تعقيداً لأنه يضع أمامه صعوبات ومشاكل عديدة لا يمكن حلها الا بالبعد عن دائرة النفعية حيث لا يتضمن الفن الحديث المباشرة والمحاكاة واستثارة الحواس ومغازلة العواطف بقدر ما يهدف إلى التلاعب بالحقيقة والزمن.. والبعد عن التشخيص والتجسيد والتخلص من العقدة والحبكة والسرد المنطقى.
لذلك فإن نجاح العمل الفنى عند الجماهير العريضة- كما يرى «هاوزر»- منفصل تماماً عن المعايير المتعلقة بالمستوى.. فالجماهير لا تستجيب لما هو جيد أو ردىء فنياً بقدر ما تستجيب للانطباعات «السفلي» التى تشعرها بالانزعاج أو الاطمئنان فى مجال حياتها الخاص، وفى أفضل الحالات لا تستجيب لقيمه الفنية على شرط أن يقدم الموضوع فى إطار الجاذبية والإثارة والمتعة.. أى أن طبيعة الفن عند المتلقى مترتبة على إدخال السرور دون ألم أو إثارة دون إرهاق.. بينما تظل طبيعة الفن عند الفنان المبدع بمثابة الحركة التمردية التى يقوم بها الإنسان حينما يعمد إلى مواجهة الواقع من أجل خلق العالم الجديد.. منشدًا ما يحلم به من وحدة وتماسك واتساق. حتى أن مطلب التمرد فى حد ذاته يبدو عند «كامي» مطلبًا جماليًا.
وتأكيداً لما سبق أن قلناه، فى تحقيق استخبارى أجرى على مجموعة متباينة من سكان «تورنتو» بكندا تحت إشراف المجلس الأعلى العالمى للمتاحف، وبمساعدة «اليونسكو» عرضت عليهم مجموعة كبيرة من اللوحات الفنية المختلفة فى اتجاهاتها وفى الفترات الزمنية التى تنتمى إليها.. فبرزت نتائج مهمة مؤداها أن اللغة اللفظية قد عودت الناس على القضايا التقريرية المصاغة بوضوح.. ومن ثم فإنهم ينتظرون من الفن شيئًا على هذا النمط.. وهم لا يتوقعون من لوحة ما أن تقوم بوظيفة قصصية أو تربوية ولكنها حين لا تقدم لهم صورة من الممكن إدراكها أو على الأقل يستطيعون الإحساس بها.. فإنهم يرفضونها، فثمة شعور معاد للألوان غير الطبيعية كما هو الحال فى لوحة «المسيح الأصفر» لـ«جوجان».. ومن التعليقات التى أدلى بها الأشخاص المستجوبون استنتج أن الأفضليات تتركز بالتحديد على النزعة الواقعية وعلى المنظور.. وعلى الخطوط المحددة والألوان الهادئة.. على حين أن من يغالى فى السخرية أو التجريد يستبعد العداء الشديد لأعمال «موندريان» مثلا..
ولكن الفن الحديث لم يعد يطالب المتلقى بمجرد الفهم والاستيعاب لأن المعنى كامن فى بطن الشيء.. والشكل والمضمون يتلاحمان فى نسيج كلى لا يشير من قريب أو بعيد إلى دلالة خاصة أو رمز معين.. حيث يصبح الشكل خالصًا.. واللون بلا معنى.. فالشاعر الحديث يتلاعب باللفظ من أجل جرس الكلمة ومدى توافقها أو تنافرها مع كلمة أخرى والمصور الحديث ينبذ كل تشخيص وكل إشارة صريحة إلى الطبيعة أو الإنسان داعيًا المتلقى إلى تحسس قماش اللوحة وتتبع مسار اللون وإرهاف السمع إلى صوت اشتباكات الخطوط مشاركاً إياه نزواته المفاجئة وحالاته النفسية المتغيرة واضطرابه المفاجئ.. وهكذا..
والمشكلة إذن حلها يكمن فى مدى قدرتنا على توسيع أفق الجماهير العريضة من أجل التذوق الأصيل للفن الحقيقى.. ولن يتأتى ذلك إلا عن طريق التعليم.. أى تدريب القدرة على الحكم الجمالى، وليس استجداء المتلقى، عن طريق التبسيط المخل.. أو استثارة حواسه ومغازلة غرائزه، وقد يبدو هذا صعباً ولكننا لا يمكننا بالطبع أن نقف مكتوفى الأيدى فى انتظار حكم الزمن واحتمالات المستقبل فى أن ينمو فائض الطاقة لدى الفرد فلا تستنفد الطاقات بأكملها فى تلبية المطالب المادية.. وينشغل الذهن عندئذ فى التأمل والتذوق الجمالى الخالص لذلك فإن الوعى بالتاريخ منذ فنون ما قبل التاريخ . 