
د. مني حلمي
لنتكلم كلاما «ثوريًا»
ما أجمل أن تكون «الكلمات» قَدَرى.. وطرقات اللغة بيتى.. ما ألذ أن أقضى العُمر، فى اصطياد «الكلمات»، لا العرسان.. وأن أجلس بالساعات أمام الصفحات البيضاء، لأكحلها بالحبر الأسود.. لا أمام المرآة، أتجمل، وأتعطر وأتزوق، وأزيل الشَعر الزائد، لإرضاء «رجل»، أو إسعاد «زوج».
ما أحلى أن أقوم بتفصيل «الكلمات» على مقاسى، وذوقى، ومواسم عواطفى، وفصول أمزجتى، وأنا أشرب القهوة المحوجة، فى صومعتى، «غرفة الكتابة».
ما أمتع اللحظات، التى تلهمنى «كلمات»، تعرى الكذب، تكشف الأوصياء أبد الدهر، على الأوطان، وعلى النساء.
وما أروع سكون الليل، مع «كلمات» تفضح لا تستر.. عملاً بالمقولة الصوفية: «اللهم أدعوك لتفضحنا، لا أن تسترنا، حتى يتبين الطيب، من الخبيث». أليس طالب «الستر»، هو «المفضوح»؟ وطالب الفضيحة ليس لديه ما يفضحه؟
«الكلمة»، بدايتى، ومصيرى، ومثواى الأخير. حينما كنت أبكى، وأنا طفلة، وأضرب عن الطعام، وأظل «أحرك وأفرك»، حتى تحضر لى أمى، ما يجفف دموعى.. «القلم والأوراق». كنت «أشخبط»، وأملأ كل الأوراق، بحروف، وصور، غير مفهومة.
تلك «الشخبطة»، لم تكن تعنى إلا أننى، سأصبح كاتبة، وشاعرة، وحرة.
لا يعترف بها، كهنة الكتابة، وكهنة الشعر، وكهنة الحرية.
«الكلمة»، اختارتنى، لأن أكتبها، وأمجدها وأشتهيها. لست أتقن من متع ولذات الدنيا الفانية، مثلما أتقن «خلط»، مكونات اللغة، لأصنع أشهى فطائر، الحوار، والجدل، والدهشة.
«الكلمة»، أليست هى كل شيء؟ الحياة، نفسها، ليست إلا «كلمة».
والكلمات مثل البشر، مثلما هناك «كلمة» تنير الدروب.. متوهجة بالتجديد، مولعة بالتغير، صادقة من القلب، مهمومة بالتنوير، مؤرقة بالعدل، باحثة عن الحرية.. شجاعة.. تحفظ كرامتها.. تصنع تفردها، غايتها الجوهر وليس الشكل.
ممتلئة بالإرادة، محرضة على الثورة . هناك النساء، والرجال، والمجتمعات، التى تتسم بهذه الصفات نفسها. والعكس صحيح.
مثلما توجد «كلمة» معتمة، تظلم الطرق، أطفأها النظر إلى الماضى.. منبعها الفم لا القلب.. تشتغل على التعتيم.. تغازل الظلم.. جامدة.. عنصرية.. تشتم الحرية.. رعديدة.. تقتل كرامتها.. تدوس على كبريائها.. مستهلكة.. رخوة.. هشة.. عنيفة الإيحاءات.. إرهابية الحروف.. ذكورية. هناك أيضاً، نساء، ورجال، ومجتمعات، لها الملامح نفسها.
بعض الناس يرون أن كارثة المجتمعات العربية، تكمن فى أنها «تتكلم»، طول الوقت، «تتكلم» أكثر مما «تفعل». وأن «الكلام»، وصوت «أم كلثوم»، هما الأمران اللذان يوحدان العرب.. وأن «الكلام» صناعة، عربية خالصة.
هذا الرأى ينطوى على «خديعتين». الأولى أن كارثة بلادنا، هى «الكلام»، وليس «الفعل». بينما أرى أن الكارثة، هى أننا «نتكلم». ولكن ليس «الكلام» الحقيقى، المتناغم، الصادق. بعد ثورتين شعبيتين كبيرتين، هل نتكلم، كلاما «ثوريا»؟
الخديعة الثانية، هى أن «الفعل»، أهم، وأرقى، من «الكلمات».
لكن الحقيقة أن «الكلمة» هى المحرك الأول، الأساسى، لأى «فعل».
«الكلمة»، هى «ربة» الفعل، وملهمته، ومنارته، وعاطفته المتأججة. ومن دون عاطفة لا شىء يفيد.
فى زمن «الكلام» الحقيقى، سوف نكتشف أن حتى «الصمت»، سيكون «فعلا»، له بلاغته، ورسالته، وتأثيره، قال سقراط 469 ق . م - 399 ق. م، لأحد تلاميذه: «تكلم حتى أراك». وهذا من أجمل التعبيرات، التى قيلت فى حق «الكلمة». فمرآة الإنسان، هى ما يقوله من كلمات، التى هى من نتاج قناعاته الفكرية، وحصيلة مشاعره، وأفاق أحلامه.
«كلمة» واحدة، تبنى حضارة.
«كلمة» واحدة، تهدم حضارة.
من واحة أشعارى:
أحيانا أريد أن أحرق جواز سفرى
أشطب البيانات فى البطاقة الشخصية
أحيانا لا أريد إلا الحرية
والهروب من معتقلات الأختام
وسجون الهوية.