
هناء فتحى
حكى شعراً
تلك الحالة الرائعة والفريدة.. بل والنادرة التى بدا عليها القاص الكبير سعيد الكفراوى متحدثاً عن رفيق دربه وابن أيامه الجميلة الروائى الكبير الراحل إبراهيم أصلان على قناة النيل الثقافية الأسبوع الماضى فتحت فى الجراح القديمة طريقاً جديداً للدم المتوقف كى يسيل من جديد.. طريقا اعتقدنا - لزمان ما - أن قشرة بنية رقيقة قد طمست وجلطت مجرى الدماء القديم.
تسألنى عن اسم البرنامج.. وعن اسم المذيعة التى أخطأت فى قراءة عنوان الرواية الأشهر للروائى الأشهر «حيدر حيدر» «وليمة لأعشاب البحر» ونطقتها هكذا «وليمة أعشاب البحر» تلك الرواية التى بسببها استقال إبراهيم أصلان عام 2000 من رئاسة تحرير سلسلة (آفاق عربية) التابعة لوزارة الثقافة آنذاك.. تلك الحادثة التى أظن يقيناً أن ما عرف بثورات الربيع العربى إياه قد بدأ من عندها.
استولى على إحساس رقيق أجبرنى على البكاء مرات عدة من زخم الذكريات المشحونة بالشجن والعرفان التى أغدقها «الكفراوى» علينا وهو يتحدث عن «إبراهيم أصلان» إنسانا وكاتبا.. كونك لن تجد فى مثل هذه الأيام صديقا ينتمى لمعانى الصداقة العذبة.. فما بالك لو تحدث الصديق الحى عن أصدقائه الموتى بكل ذاك الجلال والفخر والأسى مدافعاً عن موقع «إبراهيم أصلان» على خارطة الرواية العربية.. ومفتخرا كان بمكانة روايته الأشهر (مالك الحزين) كواحدة من أفضل 100 رواية عربية.. مؤكداً أن أصلان كان أحد مجددى فن الرواية.. بل هو الذى كسر المألوف والمعروف فى فن السرد القديم.. ألم يفعل ذلك كتاب أمريكا اللاتينية؟ هكذا تساءل سعيد الكفراوى متحدثاً للمذيعة التى أعرف اسمها والتى أخطأت ولخبطت فى عنوان (رواية وليمة لأعشاب البحر) .
لكن المذهل والمباغت فى تلك الحلقة كان شيئين: أولهما أن القاص الكبير سعيد الكفراوى لم يتحدث عن نفسه بتاتا.. لم يذكر أنه هو الآخر أحد أهم كتاب القصة القصيرة ولم يكتب الرواية أبداً، لكننى أجزم أن الرجل قد باغتنا وكتب الرواية فى حجم ومساحة القصة محدودة الكلمات لكن فى فضاء متسع مداه.. زمانه ومكانه.. ألم تكن كل قصصه القصيرة مدينة الموت الجميل وسدرة المنتهى ومجرى العيون وياقلب مين يشتريك، ومجمل مجموعاته الـ 12 فى وجهها الآخر رواية غرائبية السرد تخلخل الثابت والمستقر فى شكل الكتابة؟
أما المذهل الآخر فى حوار الكفراوى لقناة النيل الثقافية فهو أنه أعاد تذكيرنا بالمعركة الشهيرة التى خاضها إبراهيم أصلان بشجاعة مع الأزهر ومع ميليشيات الأزهر ومع جريدة الشعب وقتها حينما أدان مجمع البحوث الإسلامية رواية وليمة لأعشاب البحر - ضمن سلسلة آفاق الكتابة التى كان يرأس تحريرها إبراهيم أصلان - واعتبر المجمع والأزهر والميليشيات وجريدة الشعب أنها رواية تدعو إلى الإلحاد.. رواية ضد الدين.. ولأننا مازلنا لا نعرف إجابة سؤال : ما هو علاقة الدين والأزهر بفن الرواية؟ لكننا ندرك الآن إجابة سؤال آخر ينبئنا به إبراهيم أصلان بعد موته بـ4 سنوات أن تفكيك العالم العربى بثورات الربيع العربى وركوب الإخوان على كراسى الحكم لم يبدأ فى 2011 بمصر وتونس وليبيا وسوريا، لكنه بدأ عام 2000 حينما استجابت الدولة وخافت من شوية عيال خرجوا من الأزهر فى مظاهرة تكفر المجتمع بسبب رواية بديعة - حتى ولو بدت خارج المألوف الأخلاقى والديني- فهى رواية وخيال مجنون.
نفهم الآن أن استقالة إبراهيم أصلان وقتها كانت أول أجراس إنذار لكل خراب الربيع العربى الذى نعانى حتى الآن من رحيقه السام.■