عن نسخ القرآن الكريم!

محمد نوار
الكثير منا سمع بموضوع الناسخ والمنسوخ فى آيات القرآن الكريم، ولم يفهم البعض معنى النسخ، وتقبله البعض لما عرف أنه من علوم القرآن، وخاف البعض من إثارة الموضوع حتى لا يتهم بالكفر لأنه يجادل فى كتاب الله الذى لا يُسأل عما يفعل، ولكن يبقى السؤال والشك عند البعض: هل غير الله تعالى كلامه ونسخ أحكامه فى القرآن الكريم؟، معاذ الله فنحن نؤمن بقوله تعالى: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) ق 29، ولذلك نسأل: ما هى حقيقة موضوع الناسخ والمنسوخ؟.
والقائلون بالنسخ يعتبرونه من موضوعات علوم القرآن الكريم الهامة والتى يترتب على معرفتها الفهم الصحيح لكلام الله، وقد بلغ عدد الآيات التى يقولون بنسخها 293 آية، من أشهرها الآية التى وصفوها بآية السيف: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) التوبة 5، وقالوا إنها بمفردها ناسخة لأكثر من 114 آية منها: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا..) الأنفال .61
لقد دخلت مسألة الناسخ والمنسوخ إلى الفكر الإسلامى بعد وفاة النبى عليه الصلاة والسلام، ولكنها مع الزمن بدأت تأخذ إطارا مقدسا لدى القائلين بها، ولأن النبى عليه الصلاة والسلام لم يحدد لنا مسألة الناسخ والمنسوخ، فإننا نجد عند دراسة خلافات المفسرين والفقهاء حول تحديد الآيات الناسخة من المنسوخة أن الآية المنسوخة عند أحدهم ناسخة عند الآخر، وليست ناسخة ولا منسوخة عند الثالث.
والنسخ معناه باختصار استبدال حكم أمر به تعالى بحكم آخر بدلاً منه، وتم تقسيم الناسخ والمنسوخ إلى 3 أنواع، النوع الأول: «ما نسخ حكمه وخطه» فقالوا إنه نزلت سورة بحجم سورة التوبة ثم نسخت بمعنى أنها لم تعد موجودة فى القرآن لا بكتابتها ولا بحكمها.
والنوع الثانى: «ما نسخ خطه وبقى حكمه» مثل أنه أنزلت آية الرجم ثم نسخ خطها وبقى حكمها بمعنى أنها لم تعد موجودة فى القرآن ككتابة ولكن استمر العمل يحكمها، كما جاء فى موطأ مالك: «والذى نفسى بيده لولا أن يقولَ الناسُ زاد عُمَرُ بن الخطّابِ فى كتابِ اللهِ تعالى لكتبتها، الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجموهما البتّة، فإنّا قد قرأناها»، وما جاء فى الرجم لا يمكن أن يكون آية قرآنية فلو كانت من كتاب الله تعالى لما تردد الخليفة عمر فى كتابتها.
مع ملاحظة أن كلمة شيخ فى القرآن تعنى المتقدم فى العمر: (هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً..) غافر 67، والذى يتم عقابه فى الزنا يكون عن طريق الجلد ولم يتم تحديد عمره: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ..) النور .2
والنوع الثالث: «ما نسخ حكمه وبقى خطه» والذى يمثل آيات كثيرة فى القرآن تم فهمها فهماً متناقضاً مع آيات أخرى فقالوا بنسخها، والادعاء بالنوعين الأول والثانى وهما «ما نسخ خطه وحكمه» و«ما نسخ خطه وبقى حكمه» ينتج عنهما أن القرآن حين نزل كان أكبر حجماً من القرآن الكريم الموجودِ الآن، وأيضاً الادعاء بالنوع الثالث وهو ما نسخ حكمه وبقى خطه ينتج عنه تعارضاً بين دلالات الألفاظ والأحكام وهذا يناقض قوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) النساء .82
وينتج أيضا عن ادعاء النسخ أن بعض آيات القرآن الكريم هى لمجرد التلاوة وأنها مفرغة من صلاحية استمرار حكمها وهذا يناقض قوله تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) الأعراف 3، فالله تعالى يأمرنا باتباع دلالات وأحكام كل آية.
فكل حكم فى القرآن الكريم يتكامل مع الأحكام الأخرى، قال تعالى: (..أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ..) البقرة 85، فالقول بنسخ بعض آيات القرآن الكريم هو دعوة إلى عدم اتباع هذه الأحكام.
وقد جاءت كلمة نسخ ومشتقاتها فى القرآن الكريم بمعنى الكتابة والإثبات: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا..) البقرة 106، ومعنى (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ) هو الإثبات وليس الحذف، وأن (آيَةٍ) تعنى الحكم، والحكم المنسوخ فى هذه الآية هو حكم سابق لنزول القرآن يؤكد ذلك: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ..) البقرة 105، فالذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين لا يعنيهم أمر نسخ حكم قرآنى لحكم قرآنى آخر لأنهم لا يؤمنون بالقرآن الكريم، وما يعنيهم هو نسخ أحكام القرآن الكريم لأحكامهم، وإذا كان النسخ معناه نسخ آية قرآنية لأخرى فلم يكن هناك داع لقوله تعالى (أَوْ مِثْلِهَا).
وفى قوله تعالى: (.. فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِى الشّيْطَانُ..) الحج 52، يخبرنا تعالى أن الشيطان يحاول التدخل ليفسد الوحى الذى ينزل على كل رسول أو نبى، فغير المؤمن ينخدع بتحريف وافتراء الشيطان على دين الله تعالى ويتمسك به، أما المؤمن فيتمسك بكتاب الله ويعلم أن القرآن حق حين أخبر عن كيد الشيطان.
وادعى القائلون بالنسخ أن الآيات المكية التى أمرت بالصبر حين كان المسلمون ضعافا قد نسختها آيات القتال التى نزلت فى المدينة لما أصبح المسلمون أقوياء، ولكننا نجد أنه لا مجال للإكراه والعنف فى الدعوة للإسلام سواء كان المسلمون ضعافاً أو أقوياء، وفى مكة جاء قوله تعالى: (فَذَكّرْ إِنّمَآ أَنتَ مُذَكّرٌ. لّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ) الغاشية 22-21، ويتكرر المعنى فى المدينة: (لاَ إِكْرَاهَ فِى الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَىّ..) البقرة 256، فلا تعارض ولا نسخ.
ولأن الدعوة للإسلام كان أتباعها قليلين فى البداية وفى مواجهة طغاة فكان لابد أن يعانوا من الاضطهاد، فجاء الأمر بالصبر فى الآيات المكية: (وَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) المزمل 10، وجاء الأمر بالصبر فى الآيات المدنية: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ) آل عمران 200، وحين قامت دولة للمسلمين فى محيط الشرك الذى كان يتآمر عليهم تحتم عليهم الجهاد لحماية أنفسهم ولذلك نزلت آيات الجهاد.
إن العلاقة بين المسلمين وأعدائهم تتراوح بين الضعف والقوة، والقرآن يضع التشريع المناسب لكل حالة فإذا كان المسلمون أقلية مستضعفة مضطهدة فليس مطلوباً منهم أن يقاتلوا وإلا كان ذلك انتحاراً، وإذا كان المسلمون فى حالة قوة فلا يجوز تحمل الاضطهاد والأذى بل عليهم أن يردوا العدوان بمثله، وعلى المسلمين فى كل حالة أن ينفذوا التشريع الملائم لحالهم وذلك لا يعنى إلغاء التشريع الذى لا يتفق مع حالهم، لأن التشريع غير المناسب لحال جماعة معينة تطبقه جماعة مسلمة أخرى إذا كانت فى الحالة المناسبة لتنفيذ ذلك التشريع.
وإذا كان دعاة النسخ يستدلون بأن تشريع الخمر جاء متدرجا يلغى اللاحق منه السابق، فإننا نجد أن تحريم الخمر جاء فى قوله تعالى: (قُلْ إِنّمَا حَرّمَ رَبّىَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقّ) الأعراف 33، فالخمر من ضمن الإثم المحرم وجاء تحريمه على سبيل الإجمال فى مكة ثم جاءت التفصيلات فى المدينة حين سئل النبى عليه الصلاة والسلام عن حكم الخمر فنزل قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نّفْعِهِمَا) البقرة .219
فالخمر لم تكن حلالاً ثم نزل تحريمها، وإنما نزل تحريمها إجمالاً ضمن تحريم الإثم ثم نزل التفصيل يؤكد ما سبق، أما قوله تعالى: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىَ حَتّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) النساء 43، فلا علاقة له بالخمر وسكرة الخمر بل إن كلمة (سَكْرَةُ) و(سُكَارَىَ) لم تأت فى القرآن عن الخمر، إذ جاءت بمعنى الغفلة فى قوله تعالى: (لَعَمْرُكَ إِنّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) الحجر 72، وبمعنى المفاجأة عند قيام الساعة: (وَتَرَى النّاسَ سُكَارَىَ وَمَا هُم بِسُكَارَىَ) الحج 2، وبمعنى الذهول عند الموت: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ) ق 19، وبمعنى عدم الخشوع والانشغال عند أداء الصلاة: (لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىَ حَتّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ) من الآية 43 من سورة النساء، فإذا قام الإنسان للصلاة وعقله وقلبه مشغولان بأمور الدنيا فهو فى حالة غفلة ولن يفقه شيئاً مما يقول فى صلاته.
والمتمسكون بدعوى النسخ واجهوا مشكلة أن القرآن محفوظ: (إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر 9، ولذلك ادعوا أن النسخ فى المعنى وليس فى اللفظ، وفى الحكم وليس فى النص، وبذلك تحول بعض القرآن حسب ظنهم إلى مجرد نصوص مفرغة من الأحكام.
وفى قوله تعالى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا..) البقرة 106،فالنسخ يعنى استبدال الأحكام بين الشرائع، فهناك محرمات حرمتها شريعة النبى موسى عليه السلام ثم جاء النبى عيسى عليه السلام ليحللها: (..وَلأحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِى حُرِّمَ عَلَيْكُمْ..) آل عمران 50،ثم جاء النبى عليه الصلاة والسلام لينسخ برسالته بعضاً مما نزل من أحكام فى رسالة النبى موسى عليه السلام، منها ما يتعلق بالزنى ويستبدلها بأحكام أخرى، ويضيف أحكاماً لم تنزل من قبل منها ما يتعلق بالوصية والميراث.
ويبقى أن الناسخ والمنسوخ قضية خلافية لأنه لا يوجد حديث صحيح للنبى عليه الصلاة والسلام يقول بأن الآية المعينة نسختها الآية الأخرى، أما النسخ الذى يصل بعدد الآيات المنسوخة إلى مئات ويحول الجهاد إلى اعتداء فهو من اجتهادات الفقهاء والمفسرين فى زمن سابق، وبما أن الله تعالى هو وحده صاحب الحق بالنسخ، والنبى عليه الصلاة والسلام هو وحده المسئول عن إبلاغه للناس إن حدث، فإننا لا نجد آية فى القرآن الكريم أو حديثاً صحيحاً فى السنة يؤكدان النسخ.