الإثنين 13 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

أسوان و النوبة.. وجهان لعملة التسامح

أسوان و النوبة.. وجهان لعملة التسامح
أسوان و النوبة.. وجهان لعملة التسامح


 
أول خطأ يقع فيه أى تناول إعلامى لمحافظة أسوان هو اختزال هذه المحافظة بأكملها فى النوبة، وهذا لا يقلل من شأن أهلنا فى النوبة، والتضحيات الكبيرة التى قدموها من أجل استقرار الوطن بأكمله، فهم من هُجروا من منازلهم من أجل ترويض هذا النهر العظيم وكبح جماحه لحماية المصريين من الفيضان الذى يعقبه مجاعة.وهذا الخطأ الذى أتحدث عنه ليس عنصرية منى أو لعدائى مع النوبيين، بل فى رأيى أن أسوان والنوبة وجهان لعملة واحدة، عملة أصلها حضارة سبعة آلاف عام يمكن أن تجدها فى تلك الوجوه السمراء، والأيادى الخشنة من العمل الشاق، تجدها فى تلك الأجسام مفتولة العضلات وكأنها منحوتة خرجت من أحد المعابد الفرعونية من «أبو سمبل»
 
.ولكن هذا الاختزال كان له دور كبير جداً فى التناول الإعلامى الفاشل للحادثة الأخيرة التى وقعت بين قبيلتى الدابودية وبنى هلال، ونظرًا لعدم معرفة أغلب القاهريين لطبيعة هذه البلاد البعيدة التى يحتاج السفر إليها يومًا كاملاً، كان من الأسهل لهم تصوير الحادثة على أنها اشتباكات قبلية، وتخيل من بالعاصمة أننا على مشارف حرب أهلية، أججها مشهد تلك الأجساد السوداء الغارقة فى دمائها الملقاة على عربات الكارو ليحدث مزيد من التأكيد على الصورة النمطية التى زرعتها الدراما والسينما على صورة الصعايدة أو الجنوبيين بأنهم أفظاظ وغلاظ القلوب، أغبياء، متوحشون لا يعرفون سوى لغة القتل فى التعامل اليومى.
 
الناس فى القاهرة لا يعرفون أن أسوان من أكثر المحافظات سلمية على مستوى جمهورية مصر العربية، اندلعت ثورتان خلال 3 سنوات، وشهدت البلاد فوضى أمنية عارمة، لم تحدث فى أسوان ما شهدته العاصمة من حرق مبانٍ ومؤسسات، اللهم إلا على استحياء واقعة قتل ضباط من أسوان على أيدى الجماعة الإرهابية بعد فض رابعة.
 
ففى بلادى السمراء التسامح والكرم والطيبة من أبرز صفاتهم، القبائل التى تشدقت بها القنوات على أنها تتصارع وتفتك ببعضها البعض كانت هى صمام الأمان على مدار السنوات الماضية، حيث يتدخل كبار القبائل وزعماؤها فى فض أى منازعات أو مشاجرات، ولمن لا يعرف خريطة القبائل فى أسوان تنقسم إلى «العبابدة» ويرجع نسب أهلها إلى عبدالله بن الزبير، و«الجعافرة» ونسبها يرجع إلى جعفر بن صادق، وقبائل الأنصار والأشراف، وكلها قبائل عربية، بينما توجد قبيلتان نوبيتان وهما فرعان «الفاجيكا والكنوز».
 
على عكس تنميط المؤلفين، فى الأعمال الدرامية دائمًا ما يشغل أى صاحب بشرة سمراء خاصة إذا كان نوبيا فى أعمال دونية عندما يأتى إلى عاصمة أم الدنيا، حيث يحتل النوبى أغلب أدوار البواب أو الخادم أو الطباخ فى منازل البهوات.
 
إن أسوان من أكثر المحافظات انفتاحا على الثقافات والحضارات الأخرى، فأغلب أهلها يعمل بمهنة السياحة ويتمتع الأسوانيون أو النوبيون بميراث من اللغات المتعددة، محافظة تتمتع بمرونة فى تقبل الآخر فالمجتمع الأسوانى دفع ببناته للتعليم بل جعلهن يتركن القرى الصغيرة فى مراكز المحافظة ليدرسن فى جامعات القاهرة والمنيا والإسكندرية وغيرها.
 
لا يوجد فى أسوان هذا الفصل العنصرى بين النوبى والهلالى أو العبابدى أو الجعفرى، فالبشرة السمراء تصهر كل هذه الفوارق فى بوتقة، أساسها التنوع فى الوحدة لترسم لوحة تشكيلية متجانسة الأركان عنوانها «مصر» لم يتمكن دافنشى بكل عظمته الفنية أن يعبر عنها كما يعبر عنها مواطن مصرى أصيل، انخرط وسط هذه الحضارة العريقة وتفتحت عيناه على هيبتها وقدمها وتسامح نهرها المجاور للبيوت والأراضى.
 
فالنوبى القادم من خلف السد العظيم أثناء التهجير يتميز بصبره وفنه وإبداعه، فهو ضحى من غير مقابل وتحمل اختلاف الظروف المعيشية بدءا من طبيعة المنزل المفتوح الواسع المبنى على طراز معمارى ذى خصوصية شديدة تحمل ثقافة النوبى، غير مقيد بهذه العقارات الرأسية بجدرانها المغلقة ومساحتها الصغيرة، إلا أنه استطاع أن يتكيف مع الظروف الجديدة فى كوم أمبو وإدفو وكلابشة، متفاعلا مع من حوله من الجيران، منصهرا معهم فى أفراحهم وأحزانهم، لنتعجب اليوم من هذه الدعوات التى تتهم النوبى بعنصريته وأنه لا يقبل العيش مع الهلالى فى نفس المنطقة، فكلها دعوات مغرضة، فالنوبى الأصيل يقبل التعايش المشترك مع الآخرين ولكن بشرط الصدق والسلام فالخيانة والعنف تعد من الكبائر لدى النوبى، ومن يتورط فيهم لا يمكن أن يثق به ولا يتعامل معه.
 
فالنوبيون ليسوا بحاجة إلى كتابة عرائض طويلة لإثبات انتمائهم للوطن والدفاع عن أنفسهم تجاه هذه الهجمات الإعلامية الشرسة التى تتهمهم بأنهم مهووسون بهويتهم النوبية على حساب مصريتهم، وحاول أن تلمح أمام صديق نوبى بأفكار كتلك التى تتداول عن رغبتهم فى الانفصال، لن تجد سوى رد فعل عميق للغاية من ضحكة صارخة ساخرة ولكنها فى ذات الوقت باكية من هذا الاتهام المخزى.
 
لن يتبقى فى النهاية سوى المطالبة بتواجد حقيقى للدولة تنقذ به هذه الطيبة المزروعة فى الأرض والسماء الأسوانية التى تمتد قوتها من تراث تاريخى طويل يجب الانحناء له وعدم تلويثه بغياب القانون ومحاسبة المخربين الذين يشذون عن القاعدة السمحة، إنها أسوان التى يمكن أن تبادر فى ذهنك أول ما ينطق اسمها تلك المراكب البيضاء الشراعية التى تشق نيلها الأزرق فى مودة إنسانية وعندما يشدو محمد منير وأنوشكا بصوتهما الدافىء الحالم:
 
انتِ بلاد طيبة .. وقريبة وحبيبة .. انتِ أمل وحياة