الإفتاء تحيى تراث الإمام الليث بن سعد: «الفقه المصرى» يواجه خطاب الكراهية

صبحى مجاهد
أعلنت دار الإفتاء المصرية عن إطلاق مركز الإمام الليث بن سعد لفتاوَى التعايش؛ حيث تمَّ عرض فيلم تسجيلى تعريفى بالمركز، تناول رؤيته وأهدافه ومجالات عمله، مسلطًا الضوء على دَوره فى تعزيز قيم التعايش والوسطية، ويهدُف المركز إلى إحياء تراث الإمام الليث بن سعد عبر نشر أعماله وتنظيم ندوات تناقش أفكاره ومنهجه، إلى جانب تعزيز الفقه الوسطى المصرى وترسيخ مبادئ التعايش والسلام.
كما يركز المركز على مكافحة خطاب الكراهية من خلال برامج تدريبية ودراسات متخصصة، وتشجيع البحث العلمى حول فقه التعايش عبر مسابقات للشباب، بالإضافة إلى تنظيم ندوة سنوية تحمل اسم الإمام الليث لمناقشة قضايا الفكر الإسلامى المعاصر.
ويتضمن برنامج المركز للعام المقبل إطلاق مكتبة رقمية تتيح تراث الإمام الليث للعالم، وتنظيم دورات تدريبية للشباب والمفتين حول مفاهيم التعايش ومكافحة الكراهية. كما سيعمل المركز على إطلاق منصات رقمية تقدم محتوًى علميًّا يعزز منهج الوسطية، بجانب نشر دراسات وأبحاث متخصصة.
ويشرف على المركز مجلس استشارى يترأسه مفتى الديار المصرية، ويضم نخبة من العلماء والخبراء من داخل مصر وخارجها. كما يضم المركز عدة أقسام إدارية تشمل الأبحاث والنشر، الفعاليات والإصدارات، والتدريب والتطوير. ويهدُف إلى بناء شراكات مع الجامعات والمؤسّسات العالمية، وتطوير منصات رقمية لنشر الدراسات والدورات التدريبية على نطاق عالمى.
ويُعد مركز الإمام الليث بن سعد خطوة نوعية تهدُف إلى مواجهة خطاب الكراهية وتعزيز القيم الوسطية؛ ليكون منارة علمية تسهم فى نشر قيم التسامح والتعايش فى العالم.
ميثاق عالمى
فى سياق متصل؛ كشفت دار الافتاء المصرية عن الميثاق العالمى لدور الفتوَى لتحقيق الأمن الفكرى، وقال الشيخ الدكتور مصطفى سيرتش، المفتى السابق للبوسنة والهرسك، إن «ميثاق دُور الفتوى فى تحقيق الأمن الفكرى» يمثل إنجازًا نوعيًّا وإضافةً مهمةً لمسيرة الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء فى العالم.
وأكَّد أن الأمة الإسلامية تعيش فى وقتٍ يشهد تغيرات متسارعة وغير مسبوقة، مما يضع على عاتق العلماء مسئولية كبيرة فى بيان صحيح الدين وهداية الناس إلى الأمن والسلام، بعيدًا عن الشكوى من صعوبات العصر. وأوضح أن الأزهر الشريف علَّم العلماء ضرورة مواجهة التحديات بروح الإيمان الصادق والعقل السليم، والسعى لتحقيق الأمن والسلام المستديمين.
وتناول فضيلته أهميةَ «ميثاق دُور الفتوى فى تحقيق الأمن الفكرى»، والذى يُعدُّ الثامن ضمن مواثيق الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء فى العالم منذ إعلان القاهرة عام 2015م. وأشار إلى أن أهمية هذا الميثاق تنبع من طبيعة المرحلة الراهنة المليئة بالصراعات الفكرية والاجتماعية، مما يتطلب من العلماء والمفتين أداء دَورهم فى تحقيق الاستقرار الفكرى والاجتماعى.
وأوضح الدكتور سيرتش أن بنود الميثاق صِيغت بعناية فائقة، مستندةً إلى قيم ومبادئ إسلامية وإنسانية؛ حيث ركزت على ضرورة تحقيق التوازن بين النصوص الشرعية ومتغيرات الواقع. وأشار إلى أن هذا التوازن يمثل خطوةً أساسية لضمان قيام الفتوى بدَورها الفعَّال فى معالجة القضايا الراهنة وتوجيه المجتمع نحو الاستقرار الفكرى.
كما استعرض أبرز التحديات الفكرية التى تناولها الميثاق، ومنها: الإلحاد، والسيولة الأخلاقية، والتطرف الفكرى، والفوضى فى إصدار الفتاوَى. وبيَّن أن الميثاق يسعى إلى تقديم خطاب شرعى مستنير يتَّسم بالعقلانية والوسطية، مع تعزيز الوحدة الوطنية والقيم المشتركة بين أفراد المجتمع، بما يسهم فى التنمية الشاملة.
وأشار الدكتور مصطفى سيرتش إلى حُزمة الإجراءات التى اقترحها الميثاق لضمان تطبيقه العملى، مثل إنشاء منصات رقمية رسمية للفتوى، وتنظيم دورات تدريبية للمفتين، وتعزيز التعاون مع المؤسّسات التعليمية والحكومية، وإطلاق مبادرات دولية لتفعيل دَور الفتوى فى مواجهة الأزمات الفكرية.
قرن الإسلام
الدكتور إبراهيم نجم، الأمين العام لدُور وهيئات الإفتاء فى العالم، طرح عددًا من الرؤى الهامة، أولها أن القرن 21 سيكون هو قرن الإسلام وأن مصر هى الدولة المؤهلة لقيادة مهمة تقديم الإسلام الصحيح،.. وقال د. نجم: هناك اتفاق بين علماء السياسة والتاريخ على أن القرن التاسع عشر هو قرن بريطانيا العظمى، كما كان هناك اتفاق أيضًا بين علماء التاريخ والسياسة على أن القرن العشرين هو قرن الولايات المتحدة، أمّا القرن الحادى والعشرون فهناك عدة مدارس تصنِّفه؛ حيث ترى مدرسة منها أن هذا القرن سيكون لأمريكا أيضًا، بينما هناك مدرسة أخرى تقول إنه للتنين الصينى، فيما ترى مدارس أخرى أن القرن الحادى والعشرين هو قرن الإسلام.
ولفت إلى موسوعة مهمة صدرت فى أوائل هذا القرن، وهى موسوعة عن الإسلام والعالم الإسلامى، وبها ما يقرب من 500 مقال عن الإسلام والمسلمين؛ حيث أشار إلى الفقرة الأولى من هذه الموسوعة الضخمة التى تقول إن هناك عددًا متزايدًا من العلماء والمفكرين أعلنوا أن القرن الحادى والعشرين سيكون عصر الإسلام.. موضحًا أن هذا المعنى قد يكون إيجابيًّا وقد يحمل فى طياته ظلالًا سلبية.
وتابع: هذا المعنى الأخير هو ما أشارت إليه هذه الموسوعة، واصطفاها الكاتب المحرر لها مما يقرب من 500 كاتب.. موضحًا أن هذه الفقرة تشير إلى كيف يرانا الآخر، قائلًا: إن الآخر يرانا مصدر قلق، فهم قلقون من الإسلام، كما يرى الآخر أنه لا يوجد إسلام واحد، بل هناك عدَّة نسخ من الإسلام، وهذا ما أكده الكاتب فى مقدمة الموسوعة حول وجود العديد من التفسيرات للإسلام، مثل: الإسلام الوهابى والإسلام الشيعى والإسلام الحداثى.
كما لفت الدكتور إبراهيم نجم النظر إلى أنَّ كاتب الموسوعة أكَّد أيضًا أنَّ القرن هو قرن الإسلام؛ نظرًا لما يمثله الإسلام من مصدر قلق للعالم.. مشيرًا إلى أن عكس القلق هو الأمن، ومن ثَمَّ على عاتقنا جميعًا - خصوصًا العلماء والمفتين- أن نصدِّر الإسلام الصحيح الذى هو مَصدر أمن واستقرار للإنسانية جمعاء.
وأكد الدكتور نجم أنَّ الإسلام علَّمنا التفاؤل فى أحلك الظروف، وأن هناك نقطة ضوء، قائلًا: «وهنا لا أتكلم كلامًا وعظيًّا، ولكن أتكلم عن مشروع فكرى يمثِّل نقطة ضوء للعالم، حتى نصدِّر للعالم أن الإسلام مصدر أمن واستقرار، ونقطة الضوء هنا هى «مصر الأزهر» إذا أردنا أن نصدِّر إسلامًا صحيحًا، ونحن نعلم أنه لا توجد نسخ أو إصدارات أخرى من الإسلام الصحيح، وهذا ما تعلَّمناه ودرسناه فى الأزهر الشريف.
وأكد أن العالم كله محتاج إلى هذه البارقة، ومن ثَمَّ علينا أن نصدر هذه النسخة من الإسلام الصحيح؛ النسخة التى تجمع بين الفهم الدقيق للنصوص الشرعية؛ وفهم الواقع وإيجاد علوم الآلة لتنزيل النص الشرعى على الواقع المتغير.. مشددًا على أن هذه صناعة لا نجدها إلاّ فى الأزهر الشريف.
واستعرض الدكتور نجم بعض إنجازات الأمانة العامة خلال السنوات الماضية، وعلى رأسها جمعها العلماء والمفتين على طاولة واحدة، باعتبارها المنصة الوحيدة التى جمعت المفتين فى كيان واحد فى بلد الأزهر الشريف «مصر».. مشيرًا إلى أنَّ مصر هى البلد المؤهل لقيادة هذه القاطرة فى هذا الوقت العصيب من تاريخ الأمة الإسلامية.
موسوعة للمراجعات الفكرية للمتطرفين
من جهته أوضح الدكتور عمرو الشال، أمين الفتوَى بدار الإفتاء المصرية، أهمية دور «مركز سلام لدراسات التطرف والإسلاموفوبيا» التابع لدار الإفتاء؛ وبخاصة فى ظل تنامى التطرف بأشكاله المختلفة. وأشار إلى أن التطرف أصبح يشكل تهديدًا حقيقيًّا لأمن المجتمعات واستقرارها، سواء من خلال العنف والتشدد أو من خلال الأفكار التى تروج للإلحاد والطعن فى الدين.
وكشف أن المركز يواصل العمل على إعداد موسوعة علمية خاصة بالمراجعات الفكرية للمتطرفين، ويطلق برامج تدريبية ومبادرات بحثية تسهم فى إعادة توجيه الفكر نحو مفاهيم صحيحة ومتوازنة. كما يعكف المركز على تطوير منصات إلكترونية تسهم فى نشر الثقافة الدينية السليمة وتعليم الجيل الجديد كيفية مواجهة الفكر المتطرف.
وأكد أن دار الإفتاء المصرية، من خلال «مركز سلام»، تسعى إلى تقديم أطر علمية وفكرية تسهم فى مواجهة الفكر المتطرف، وتعزز من تماسُك المجتمع وحمايته من الأفكار الضارة التى تهدد الأمن الفكرى والمجتمعى.
وأوضح الدكتور عمرو الشال أن «مركز سلام» يعمل على تقديم خطاب دينى يعكس التوازن بين الأصالة والمعاصرة؛ بهدف تعزيز قيم الوسطية والاعتدال، كما يركز على بناء وعى فكرى يمكنه تحصين الشباب من الأفكار الهدامة ويعزز الأمن الفكرى من خلال أساليب علمية ودعوية تواكب مستجدات العصر، بما فى ذلك الاستفادة من وسائل التواصل الحديثة وتقنيات الذكاء الاصطناعى لمكافحة الأفكار المتطرفة.
المفتى رئيسًا لدُور الإفتاء
من جهة أخرى؛ انعقد اجتماعُ المجلس التنفيذى للأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء فى العالم، على هامش فعاليات الندوة الدولية الأولى التى نظَّمتها دار الإفتاء المصرية، برئاسة الدكتور نظير عيَّاد- مفتى جمهورية مصر العربية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء فى العالم- وبحضور أعضاء المجلس التنفيذى بنِصابهم القانونى... حيث أقرَّ أعضاء المجلس التنفيذى بالإجماع، وَفْقًا للائحة الأساسية للأمانة العامة، تولِّى الدكتور نظير عياد رئاسة الأمانة، مُعربين عن تهانيهم وتبريكاتهم له، داعين الله سبحانه وتعالى أن يوفِّقه لاستكمال مسيرة النجاح التى بدأت منذ تأسيس الأمانة قبل تسع سنوات.
فيما وجَّه الدكتور نظير عيَّاد- مفتى الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء فى العالم- الشكرَ باسم أعضاء الأمانة إلى فضيلة الأستاذ الدكتور شوقى علام، مفتى الجمهورية السابق، على فترة رئاسته للأمانة، التى شهدت الكثير من الإنجازات الكبيرة.
وفى كلمته، استعرض الأمينُ العام للأمانة، الدكتور إبراهيم نجم، تقريرًا شاملًا عن أداء الأمانة خلال الفترة الماضية، مشيرًا إلى الإنجازات التى تحقَّقت فى دعم التعاون بين دُور وهيئات الإفتاء حول العالم، وتعزيز التواصل الفعَّال بين المؤسسات الإفتائية. كما تضمن التقرير تحليلًا مفصَّلًا للتحديات التى واجهتها الأمانة وسُبُل التغلُّب عليها، وإصدارات الأمانة التى بلغت ما يزيد على ٧٠٠ إصدار.
كما ناقش أعضاءُ المجلس التنفيذى استراتيجيات عمل الأمانة المستقبلية؛ حيث تمَّ التركيز على وضع آليات جديدة لتعزيز التعاون عالميًّا، وتطوير برامج تدريبية متخصِّصة فى مجال الإفتاء، والاستفادة من التكنولوجيا الحديثة فى نشر الفتوَى الرشيدة.
واختُتم الاجتماع بتأكيد الأعضاء على أهمية تعزيز العمل الجماعى واستمرار الجهود لتحقيق رؤية الأمانة فى توحيد الجهود الإفتائية على المستوى العالمى، بما يخدم قضايا المسلمين ويُسهم فى نشر قيم التسامح والاعتدال.