من إعادة ترسيم الحدود إلى الصراع حول الموارد الآثار السياسية لتغيُّر المناخ

آلاء شوقى
أعاصير مدمرة.. فيضانات جارفة وموجات حر متتالية وحرائق غابات مستعرة.. طقس متطرف يزداد شراسة يومًا تلو الآخر، حيث كشرت الطبيعة الأم عن أنيابها لجميع دول العالم، مع تواصل تداعيات التغيُّر المناخى، الناجم عن الاحترار العالمى من صنع الإنسان. فى ظل الخسائر البشرية الجسيمة، والمادية التى تقدر بمليارات الدولارات، تتزايد الأزمات الناجمة عن التغير المناخى لتضرب جميع المجالات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، وحتى الأمنية، وغيرها، ما دفع العلماء، والمنظمات الأممية، والوكالات الإنسانية، وعددًا من الدول إلى دق ناقوس الخطر، خوفًا من خروج الأزمة عن نطاق السيطرة، لتجلب معها ما هو غير متوقع، أو يستحيل السيطرة عليه.
إعادة ترسيم الحدود
على مدى آلاف السنين، كانت المعالم الطبيعية، مثل: الجبال، والأنهار، والغابات بمثابة حدود غير رسمية تفصل بين المجتمعات المبكرة. ومع تطور المجتمعات، تزايدت الحاجة إلى الحدود الرسمية لحماية الموارد، والهويات الثقافية والسياسية، وغيرها؛ حتى بلغت الحدود البرية فى العالم 315، كنتيجة لاتفاقيات بين البلدان المتجاورة.
ومع ذلك، فإن الحدود المتجذرة فى الطبيعة تتعرض لضغوط متزايدة فى الآونة الأخيرة، مع ارتفاع درجات الحرارة العالمية، ما أدى لتراجع الأنهار الجليدية، وتحول الأنهار، واحتراق الغابات.
كما برزت أزمة جديدة تلوح فى الأفق، وهى إعادة ترسيم الحدود بسبب تداعيات أزمة المناخ، التى بدأت تتبلور كتحدٍ حقيقى قد يزداد سوءًا خلال السنوات المقبلة، وذلك مع إعلان «سويسرا، وإيطاليا» أنهما اضطرتا فى سبتمبر الماضى إلى تعديل حدودهما على طول جبل «ماترهورن»، بسبب ذوبان الأنهار الجليدية، التى أعادت تشكيل مستجمعات المياه فى جبال الألب.
فكانت أجزاء من الحدود الإيطالية السويسرية محددة -فى الأصل- بخطوط سلسلة الأنهار الجليدية، ولكن مع انكماش هذه الأنهار الجليدية، بسبب الاحتباس الحرارى العالمى، اضطرت الدولتان إلى إعادة ترسيم الحدود الراسخة منذ فترة طويلة، حيث تقع قمة الجبل بين منطقة «زيرمات» فى «سويسرا»، و«وادى أوستا» فى «إيطاليا»؛ إلا أن تراجع الأنهار الجليدية، أدى لتغيير الحدود بين هاتين المنطقتين على طول خط التلال المتقلص.
رغم إدارة الدولتين لتلك الأزمة بهدوء وحكمة شديدة، فإنها صفات قد لا تحظى بها دول أخرى، وهو ما دفع العلماء لتسليط الضوء على تلك الأزمة المختلقة الجديدة، الناجمة عن التغير المناخى.
وفى هذا الصدد، بدأت التقارير العلمية تشير إلى تداعيات التغيُّر المناخى على أزمة الحدود، وتحديدًا بالنسبة للجزر والدول الساحلية الصغيرة، التى من المرجح أن تُغمر بالمياه مع ارتفاع مستوى سطح البحر، ما قد يؤدى إلى نزاعات حول الحقوق البحرية، والمناطق الاقتصادية الخالصة، فى ظل وجود يقدر أن نحو 900 مليون شخص يعيشون بالقرب من البحر، وفقًا لبيانات الأمم المتحدة.
وبدأ الحديث يدور -بالفعل- حول جزر «المالديف»، وجزر «كوكوس»، و«توفالو»، التى تعد من أكثر الدول عرضة للاختفاء، بسبب ارتفاع مستوى البحر، وهو ما لا يعنى فقط فقدان الأراضى، بل -أيضًا- فقدان المناطق الاقتصادية الخالصة المحيطة بها، والتى تشكل أهمية بالغة لحقوق الصيد؛ وهو ما أكده خبير قانون المناخ من جامعة «ريدينج»، «بينوا ماير»، حيث أوضح أن ارتفاع مستوى سطح البحر قد يؤدى إلى خسارة الدول لأجزاء كبيرة من حقوقها البحرية، وهو ما يؤثر على الاقتصادات المحلية، والعلاقات الدولية.
وعليه، سيكون من الضرورى على تلك الجزر، وغيرها المعرضة للغرق، إعادة ترسيم حدودها البحرية، والتأكيد على حقوقها فى المياه الإقليمية، فى حالة اختفاء أجزاء من هذه الجزر، خاصة فى ظل توقعات بأن تتفاقم القضايا القانونية حول من يملك المناطق البحرية المحيطة بتلك الجزر بعد غرقها، مما قد يؤدى إلى صراعات جديدة أو محاولات لإعادة ترسيم الحدود.
التحولات الجيوسياسية
إن إعادة ترسيم الحدود ليست التحدى المرجح الوحيد، فإن أحد السيناريوهات التى يتوقعها المحللون السياسيون، هى أن تغير المناخ قد يقلب التوازنات العالمية فى العقود المقبلة، عبر إعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية؛ أى أن بعض الدول قد تصبح أكثر عرضة للتأثيرات السلبية، بينما قد تستفيد دول أخرى من تغييرات المناخ.
فعلى سبيل المثال، قد تزداد الأهمية الاستراتيجية للقطب الشمالى، بسبب الذوبان المتسارع للثلوج، رغم المخاطر الكبيرة التى قد تنجم عن هذا الذوبان، فإنه سيفتح طرقًا بحرية جديدة، مما قد يعزز إمكانية الوصول إلى مناطق غنية بالموارد الطبيعية، مثل النفط، والغاز، والمعادن، ما يزيد -بالتبعية- من التنافس بين الدول الكبرى مثل «روسيا»، و«الولايات المتحدة»؛ الأولى التى قد تكون فى وضع قوى لاستغلال هذه الموارد، حيث قامت بإنشاء قاعدة عسكرية فى المنطقة لتأمين مناطقها الاقتصادية؛ والثانية التى قد تسعى للضغط على «روسيا»، للحد من نفوذها فى المنطقة، خاصة فى سياق تصاعد التوترات الجيوسياسية بين الدولتين.
ذلك بالإضافة إلى احتمالية تزايد التنافس بين الدول التى تمتلك حقوقًا فى هذه المنطقة أيضًا، مثل «كندا، والنرويج».
الهجرة وتغيير التركيبة السكانية
كانت إحدى التداعيات السلبية الخطيرة، التى برزت خلال السنوات القليلة الماضية الهجرة وموجات النزوح بسبب الكوارث المناخية المتفاقمة، إلا أن الخطر الحقيقى -وفقًا للخبراء- يكمن فى قلق بعض الدول من تغير الخرائط السكانية فى مناطق معينة، خاصة فى الدول ذات الاقتصادات الضعيفة، أو التى تقع فى مناطق عرضة للتغيرات المناخية، مثل الجفاف المتزايد أو الفيضانات الجارفة، ما ينشئ موجات هجرة ضخمة تؤثر على الدول المجاورة للدول المنكوبة، مما يخلق ضغوطًا سياسية وداخلية للدولة المضيفة.
ومن بين أبرز الأمثلة التى تم الإشارة إليها فى هذا الصدد، كانت «بنجلاديش»، التى تعتبر واحدة من أكثر البلدان عرضة للفيضانات، وارتفاع مستويات البحار، إذ رجح العلماء أن قد تشهد البلاد مع مرور السنوات هجرة ضخمة إلى «الهند» أو الدول المجاورة الأخرى، ما يؤدى إلى صراعات داخلية فى هذه الدول حول كيفية التعامل مع اللاجئين.
وهنا، بدأت التساؤلات تزيد حول مصير دول عديدة حول العالم قد تواجه مثل تلك الأزمة الناشئة!!
الصراع على الموارد المائية والزراعية
إن الصراع على الموارد الأساسية من مياه وغذاء إحدى أخطر القضايا، التى تؤرق العلماء، والمحللين السياسيين، وصناع السياسة على حد سواء، لما قد تسفر عنه من صراعات وخيمة محتملة بين عدة دول حول العالم.
فعلى سبيل المثال، أعرب المحللون السياسيون عن قلقهم من انخفاض مستوى المياه، وزيادة الطلب على الموارد المائية من جميع دول حوض «ميكونج»، الحيوى، الذى يقع فى دول جنوب شرق «آسيا»، وتحديدًا دول «الصين، ولاوس، وكامبوديا، وتايلاند، و فيتنام»، وهو مصدر رئيسى للمياه العذبة والزراعة، إلا أن تغير المناخ، بالإضافة إلى بناء السدود فى «الصين، ولاوس»، يؤثر بشكل كبير على تدفق المياه فى هذه الدول.
وعليه، رجح المحللون السياسيون أنه قد تنشأ توترات حول تقاسم المياه، مما قد يؤدى إلى صراعات حول الحدود المائية بين هذه الدول، أو قد يخلق تحديات دبلوماسية قد تستدعى التعديلات فى بعض الاتفاقيات الحدودية.
الأمر ذاته يدور حول نهر «الأمازون» فى «أمريكا الجنوبية»، الذى يمر عبر دول «البرازيل، وبيرو، كولومبيا»، إذ صار النهر يعانى -بالفعل- من التغيرات فى الأنماط المناخية التى تؤثر على تدفق المياه.
وإذا استمر تأثير تغيُّر المناخ على الأمازون، توقع المحللون السياسيون أنه قد تزداد النزاعات حول إدارة الموارد المائية فى المنطقة بين الدول المتشاطئة للنهر، قد تصل بعضها لحد النزاعات.
أما فيما يخص النزاع على الأراضى الزراعية، فأعرب عدد من المحللين السياسيين عن قلقهم من نشوب توترات بين عدد من الدول حول العالم، ومن بينها «إثيوبيا، وإريتريا»، خاصة وأن الدولتين خاضتا حربًا فى أواخر التسعينيات على الحدود والأراضى الزراعية المتنازع عليها فى مناطق مثل «بادمه».
وتوقع المحللون السياسيون أنه مع التهديدات الناجمة عن تغير المناخ على الإنتاج الزراعى، قد تحاول كلتا الدولتين إعادة تحديد المناطق الحدودية الزراعية التى تشهد تحديات أكبر فى الإنتاج، مما قد يؤدى إلى احتمالية تجدد النزاع حول الأرض.
فى النهاية، يمكن القول أن تغير المناخ يمكن أن يعمق التوترات الحدودية بين الدول عبر تأثيراته على الموارد المائية، والأراضى الزراعية، وغيرها، ما قد يسفر عن نزاعات إقليمية قد تستدعى إعادة ترسيم الحدود، أو تعديل الاتفاقيات المتعلقة بالموارد الطبيعية، أو فى أسوأ السيناريوهات تتصاعد الأحداث -فى ظل أجواء دولية متوترة- إلى صراعات عنيفة.
باختصار.. توضح الأزمات الناجمة عن التغير المناخى، أن الموضوع ليس مجرد قضية بيئية، بل هو قضية ذات آثار سياسية، واجتماعية، واقتصادية عميقة فى جميع أنحاء العالم.