الجمعة 2 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

استشراف اليوم التالى السيناريوهات المحتملة لمستقبل قطاع غزة

يطرح التصعيد «الإسرائيلى - الفلسطينى» الراهن فى قطاع غزة إثر هجوم حركة «حماس» فى السابع من أكتوبر الماضى، ضرورة التفكير فى مقاربة جديدة للتعامل مع مستقبل القطاع، ضمن إطار أشمل يتعلق بحل القضية الفلسطينية على أسس السلام العادل والشامل ومقررات الشرعية الدولية. فإذا كان وقف إطلاق النار هو الأولوية التى تشغل التحركات الدبلوماسية الراهنة، لأغراض مساعدة المدنيين ووقف نزيف دمائهم، والخشية من سيناريو الانفلات الإقليمى للحرب؛ فإن سؤال «اليوم التالى» المتعلق بمصير قطاع غزة يؤرق الدوائر السياسية والفكرية فى العالم، لأن الإجابة عليه ستُحدد ما إذا كان الصراع الإسرائيلى - الفلسطينى سينفجر ثانية على غرار مرات سابقة، أم ستكون المواجهة الراهنة فرصة لوضع أسس جديدة يمكن عبرها ضمان سلام مستدام؟



وسارعت العديد من مراكز الفكر الغربية والشخصيات المهتمة بالصراع الفلسطينى - الإسرائيلى إلى تقديم مقاربات وتصورات مختلفة لـ«اليوم التالى»  بعد توقف إطلاق النار فى غزة، مفترضة أن «فراغًا محتومًا» سينشأ فى قطاع غزة يقتضى التعامل معه إذا حققت إسرائيل هدفها المعلن فى القضاء على حركة 

«حماس»، وهو ما قد يخلق أوضاعًا جديدة، ويُنهى ما كان قائمًا فى القطاع قبل السابع من أكتوبر.

وبغضّ النظر عما إذا كانت تلك الفرضية واقعية، أم لا تزال قيد الديناميات العسكرية المشتعلة حاليًا فى قطاع غزة، بخلاف أنها تعكس انحيازًا غربيًا جليًا للرؤية الإسرائيلية؛ فإن المقاربات الغربية المطروحة حول مستقبل القطاع تستدعى فحصًا لمدى واقعيتها وقابليتها للتنفيذ فى الواقع الفلسطينى وفى الوقت نفسه، يطرح مجموعة من الخبراء والمتخصصين فى المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيچية مقاربة تفكير مغايرة؛ تستند إلى رؤية أشمل للحقوق الفلسطينية العادلة فى مرحلة ما بعد الحرب، وعلى أساس أن حل «معضلة غزة» هو مسئولية فلسطينية أولًا وأخيرًا.

تصورات غربية «منحازة»

تنوعت التصورات الفكرية الغربية حول مستقبل غزة، وملامح الأوضاع المتوقعة فيما بعد العملية العسكرية التى تقوم بها قوات الاحتلال الإسرائيلى وتأسست تلك التصورات -فى مجملها- على ثلاثة افتراضات؛ الأول، أن إسرائيل ستنجح فى تحقيق هدفها فى القضاء على حماس. الثانى، إعفاء إسرائيل من المسئولية عن القطاع بعد وقف إطلاق النار. الثالث، أن ثمة إدارة لمرحلة انتقالية لملء الفراغ فى غزة بعد الحرب قبل تولِّى السلطة الفلسطينية فيما بعد مسئولية القطاع.

وتباينت تلك التصورات فى الأفكار المطروحة بشأن الإدارة المقترحة خلال العملية الانتقالية، ومن أبرزها:

 

- تولِّى شخصيات تكنوقراط  -غير سياسية- إدارة قطاع غزة.

- تولِّى الأمم المتحدة إدارة قطاع غزة مع تواجد قوات أممية.

- تولِّى قوات متعددة الجنسيات مسئولية الحفاظ على الأمن فى غزة.

- تولِّى مجموعة من الدول العربية مهمة الحفاظ على الأمن فى غزة.

إلا أن تقييم تلك التصورات الغربية يكشف عن إشكاليات ومعضلات عديدة من أبرزها:

أولًا: تتجاهل معظم التصورات المطروحة مسألة ضرورة وقف إطلاق النار، أو وضع سيناريوهات حول المدى الزمنى الذى يمكن أن يحدث فيه ذلك، خاصة أن هذه هى الخطوة الضرورية التى من دونها لا يمكن لتلك التصورات أن تكون قابلة للتنفيذ.

 

ثانيًا: تشير تصورات اليوم التالى لغزة إلى انحياز واضح، ينسجم مع الانحياز السياسى الرسمى الغربى للجانب الإسرائيلى فمعظم تلك التصورات تصب -حال تحقيقها- فى اتجاه إعفاء إسرائيل من مسئوليتها كقوة احتلال، وتسعى لتحميل أطراف أخرى دولية وإقليمية تبعات كثيرة ومركبة لتخفيف العبء على إسرائيل.

ثالثًا: تعالج التصورات المطروحة للأوضاع المستقبلية فى غزة، فقط فى ضوء ما يحدث منذ السابع من أكتوبر، وهو ما يمثل تماهيًا مع الرؤية الإسرائيلية التى تسعى لفصل غزة عن مجمل القضية، أو مستقبل الدولة الفلسطينية. ومن ثم تقزم تلك التصورات القضية الفلسطينية وتحصرها فى الحديث عن غزة، دون معالجة القضية من المنظور الأشمل المتعلق بالتسوية السياسية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلى فى ضوء مقررات الشرعية الدولية.

رابعًا: تنشغل التصورات المطروحة بالأساس بالقضاء على حماس بأى شكل من الأشكال، وتعتبر أن العملية البرية الإسرائيلية قادرة على تحقيق هذا الهدف، وهو ما لا تعكسه تطورات الأوضاع الميدانية حاليًا فى غزة بعد شهر كامل من العمل العسكرى، فى ضوء ارتفاع التكلفة الإنسانية والبشرية كنتيجة للعملية العسكرية الإسرائيلية، فضلًا عن إغفال احتمالية اتساع النطاق الجغرافى للصراع خارج حدود مسرح العمليات بقطاع غزة، بل وخارج حدود دولة إسرائيل.

على أساس تلك الإشكاليات والمعضلات، يمكن القول إن التصورات الغربية لليوم التالى فى قطاع غزة، تستهدف بالأساس إخراج إسرائيل منتصرة تمامًا فى تلك الحرب. إذ تعكس أغلبها رغبة إسرائيلية فى التخلى عن مسئولياتها كسلطة احتلال، كما تسعى لتحميل أطراف أخرى هذه المسئولية، وتبقى هى بعيدة -بشكل أو بآخر- عن التعامل المباشر مع تشابكات الأوضاع فى غزة، بما يضمن لها تحقيق مكاسب دون تكاليف.

رؤية مصرية شاملة

ترتكز الرؤية المصرية للصراع الفلسطينى - الإسرائيلى على الاعتقاد الجازم فى أنه لا سبيل لحل القضية الفلسطينية سوى من خلال الدولتين، وأن تصورات البعض بشأن جدوى الحل أو الحسم العسكرى لهذا الصراع هى خارج إطار الواقع، ولا يمكن القبول بها. وأن السياسة الإسرائيلية القائمة على إغلاق الأفق السياسى أمام الفلسطينيين ستكون عواقبها وخيمة، ومن ثم فلا بديل عن إحياء المسار السياسى.

ويظلّ إحياء المسار السياسى بندًا رئيسًا على أچندة الدولة المصرية، حتى فى ظلّ اشتعال المواجهات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولم تكن المواجهة الحالية استثناء من ذلك التوجه. فمنذ اليوم الأول للمواجهات ومع محاولات التحذير والعمل على وقف أو خفض التصعيد، طرحت مصر ضرورة الانتباه للمسار السياسى فى هذا الإطار، جاءت دعوتها واستضافتها للمؤتمر الدولى بالقاهرة فى الـ21 أكتوبر 2023 الذى خصصته للمسار السياسى، فكان عنوان المؤتمر «مؤتمر القاهرة للسلام»، للتأكيد على ضرورة المقاربة الشاملة للتصعيد الجارى

فى الوقت نفسه، واجهت مصر المخططات الإسرائيلية لتوظيف هجوم السابع من أكتوبر، إذ أدركت أن الهدف الإسرائيلى من التصعيد هو وضع مخطط «التهجير القسري» للفلسطينيين باتجاه سيناء لتصدير الأزمة لمصر موضع التنفيذ، من خلال أكبر عملية عسكرية من القصف الموسع على القطاع لتحوله إلى «قنبلة بشرية» قابلة للانفجار باتجاه مصر. إزاء ذلك المخطط، أعلنت مصر بشكل واضح أن التهجير القسرى للفلسطينيين مرفوض، وأن محاولات تصفية القضية الفلسطينية مرفوضة، وأن تصدير الأزمة لمصر هو خط أحمر غير قابل للنقاش.

على أساس ذلك، فإن التصور المصرى لليوم التالى للتصعيد الإسرائيلى - الفلسطينى الراهن يقوم بالأساس على ضرورة وقف إطلاق النار، وأن الحديث لا يجب أن يقتصر على اليوم التالى فى قطاع غزة، بل يجب أن يشمل القضية الفلسطينية، باعتبار أن الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة وحدة سياسية واحدة تشكل معًا الدولة الفلسطينية، وأن مصر بذلت الكثير من الجهود من أجل إبقاء عملية السلام أو التسوية السياسية للصراع على قيد الحياة، رغم العقبات التى شهدتها من إسرائيل أولًا، ثم من جانب بعض الفصائل الفلسطينية.

فى إطار تلك الجهود، عملت مصر على دعم السلطة الوطنية الفلسطينية، وسعت منذ اليوم الأول لسيطرة حماس على السلطة فى قطاع غزة فى يونيو 2007 لإنجاز المصالحة الوطنية الفلسطينية، إدراكًا منها أولًا لخطورة ذلك الانقسام على الموقف الفلسطينى بيد أن مسيرة عقد ونصف من الجهود المصرية قد تعثرت بسبب عدم التزام الفصائل بالاتفاقات الموقعة فى القاهرة، وثانيًا لخطورة استغلال ذلك الانقسام من جانب إسرائيل كمبرر لعدم الاستمرار فى عملية التسوية السياسية، على اعتبار أنه «لا يوجد شريك فلسطيني». ولعل عدم الاستمرار فى التسوية السياسية شكّل البيئة التى فجرت المواجهات الإسرائيلية - الفلسطينية المتعاقبة فى قطاع غزة، وأنهكت بنيته التحتية، وجعلت حياة الفلسطينيين صعبة فى ظل حصار سلطة الاحتلال.

سيناريو الحل الفلسطينى

فى ظل ملابسات التصعيد الإسرائيلى - الفلسطينى الراهن، والتصورات والسيناريوهات الغربية المنحازة لمستقبل قطاع غزة بعد الحرب، فإن طرح تصور أقرب للواقع وللحقوق الفلسطينية فى حل قضيتهم بشكل شامل وعادل ينبنى بالأساس على سيناريو «الحل الفلسطينى» الذى لا يعرض القطاع لتدخلات من أطراف إقليمية ودولية. هذا الحل المقترح له جسر أو مدخل وحيد هو عودة السلطة الوطنية الفلسطينية لإدارة غزة، فى محاولة لاستعادة «الوضع الطبيعي» لما قبل عام 2007، وهو المسار الآمن الوحيد المتاح لعلاج المسببات الحقيقية للانفجار الراهن فى غزة وحل القضية الفلسطينية بشكل واقعى.

 

يقضى هذا السيناريو المطروح بأن تكون السلطة الفلسطينية موجودة وتدير قطاع غزة سياسيًا ومجتمعيًا، بينما تصبح حماس والجهاد فصيلين فلسطينيين مثلهما مثل كل الفصائل الفلسطينية، يجمع بينهم الاتفاق على الحق الفلسطينى فى إقامة دولة فلسطينية، وإن اختلفا سياسيًا فى وسائل تحقيق ذلك. وهنا يكون العمل لاحقًا على انضمام حماس والجهاد لمنظمة التحرير الفلسطينية كفيلًا بإسباغ الشرعية على جميع مكونات الشعب الفلسطينى إلا أن هذا السيناريو يحتاج إلى متطلبات أساسية، من أبرزها:

1 - تهيئة الحاضنة الشعبية للسلطة الوطنية الفلسطينية فى غزة، كى لا يؤدى عودتها إلى نزاع فلسطينى - فلسطينى لا يمكن التحكم فى عواقبه. بعبارة أخرى، فإن اليوم التالى فى غزة كلما كان فلسطينيًا خالصًا وتتولاه كيانات أو شخصيات لا توجد خلافات شعبية أو فصائلية بشأنها، كانت فرصه أكبر فى النجاح.

 

2 - ضرورة أن  تُطرح عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة فى إطار مقاربة شاملة للقضية الفلسطينية، برعاية أو ضمانات أو التزامات عربية ودولية تستهدف بالأساس إعادة مسار العملية السياسية فى إطار حل الدولتين، بما من شأنه فتح الأفق السياسى ونافذة الأمل أمام الشعب الفلسطينى.

يظلّ  أنه  مثلما تكشف اللحظة الراهنة للصراع الإسرائيلى - الفلسطينى فى قطاع غزة عن تصورات وسيناريوهات غربية منحازة لإعفاء إسرائيل من مسئوليتها عما جرى فى قطاع غزة، ومحاولة تصدير الأزمة إلى أطراف إقليمية ودولية أخرى، دون الاهتمام بالحل الشامل للقضية الفلسطينية؛ فإن هذه اللحظة أيضًا قد تكون جديرة بالتفكير فى طرح «أولوية الحل الفلسطينى» إلى الواجهة عبر سيناريو عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة بعد الحرب، بإسناد عربى من الدول السابق انخراطها فى تفاصيل وأعباء تلك القضية، كطريق وحيد يعبر عن الحقوق والاحتياجات الفلسطينية الواقعية، ويجنب غزة ويلات العنف مرة أخرى، ويمهد لحل الدولتين وفقًا لمقررات الشرعية الدولية.

 

ورقة بحثية للمركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيچية