الأربعاء 26 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
قلوب تغفر

قلوب تغفر

تهاتفنا عبر أميال تفصل بيننا فى مصر من ناحية والقارة الأوروبية من الناحية الأخرى.. هى تلميذتى وصديقتى وصارت أيضًا معلمتى.. وحيث إننا لم نعد نتقابل منذ سافرت هى لإتمام دراساتها العليا إلى أوروبا، فقد صارت المكالمات بديلًا ليس له بديل.. وكان حديثنا عن الحب والتسامح والغفران فى شهر نوفمبر الذى يحتضن يوم التسامح العالمى الموافق 17 منه.



تتفق نظرتنا للحياة أنا وصديقتى الشابة كثيرًا ولكن تناولنا لأمور الحياة يختلف كثيرًا.. فهى تمتلك قلبًا واسعًا جدًا قابلًا للاتساع أكثر فأكثر.. يستطيع أن يهب حبًا دون مقابل وأن يتراجع باستمرار عن طلب محبة الآخرين فى المقابل.. أى ببساطة تستطيع هى أن تحب ولا تنتظر حبا.. تعطى ولا تأخذ.. ومنذ محادثاتنا القديمة هنا فى مصر كنت أتعجب منها، وأنصحها بقليل من العقلانية التى لا تنقصها أبدًا ولكن قوة قلبها تنتصر على عقلها فى كل مرة ينبض فيها القلب ويفيض حبًا.

فى شهر نوفمبر وسكون طبيعة الخريف العجوزة، وانقضاء العام حتى يقترب من موته الشتوى قبيل انبلاج العام الوليد الجديد، ينعم الوجود بهذا الحب المتسامح الذى يقبل ويستر ويغفر.. قد يكون حب الربيع متفجرًا فى فصل مراهقة العام، ويشتعل حب الصيف فى شباب العام، أما نوفمبر فقد نجحت الأمم المتحدة فى اختياره كموعد مناسب مثل الإنسان الذى يصل للكهولة فيهدأ قلبه ويمتلئ بذلك النوع من الحب الذى – لن أقول يستسلم – بل يستطيع أن يتسامح مع ضعفات المحبوب ويغفر له ويقبله كما هو.

ولكن صديقتى شابة، ولا يفترض أن تمتلك قلبًا كهلًا بعد.. لذا اندهشت فى مكالمتنا لما حكت لى عن قلبها.. القلب الكبير لصديقتى الصغيرة هو مصنع ضخم لمشاعر الحب الفياض على كل المستويات.. فهى تمتلك القدرة على محبة الصديقات والأطفال والمجتمع من حولها حتى فى أوروبا التى تختلف عنها، كما يخفق قلبها أيضًا لحب شاب وسيم تلقاه مصادفة فى محيطها.. تحكى لى وأستمع بتعجب لتلك المشاعر العذراء التى تنتمى لقلب مراهقة صغيرة وليس لشابة قوية تعبر القارات وتدرس الأدب والشعر وتصول وتجول فى أروقة الجامعة بمحاضرات تأسر قلوب الطلاب وتنير عقولهم.

تحكى بلسان الفرح المنسكب فى كلماتها، وصوتها العذب، وضحكاتها من طفولتها وتلقائيتها فى ذلك الحب الوليد الشديد.. ولا تستخدم فى حكايتها أيًا من أبجديتى التى تنتظر أذنى أن تسمعها منها.. فلا تقول مثلًا: فكرت فى كذا، أو أدركت أننى كذا، أو رأيت أننا متفقان أو مختلفان.. بل تستخدم أفعال الشعور التى تصف الحب والقلق والفرح والجذع والشوق والألفة وانتظار اللقاء القادم واستطلاع النظرات ومعانيها.. وأنا أستمع مندهشة مفتونة بتلك القدرة القلبية الرهيبة التى تمتلكها صديقتى..

وأخيرا تحولت إلى أستاذتى حين قصت عليّ آخر حلقات مسلسل حبها.. فقد غلبت الرجل مشكلاته وتعقيدات حياته السابقة لمعرفته بصديقتى.. وقابل حبها الذى أشعله هو فى قلبها فى بداية القصة، بجفاء وابتعاد وتملص وصمت ثقيل فى الحلقة الحالية – لن أقول الحلقة الأخيرة لأنها لم تأت بعد ولأننى أنتظرها بشغف أكثر من شغف صديقتى.. غضبت هى كثيرًا لأن صمته أغاظها، ولم تفهم تباعده المفاجئ.. وتعذب قلبها بسبب هذا الجفاء غير المبرر ولو بكلمة.. ثم – وبسرعة شديدة – التمست له الأعذار، وتسامحت مع تصرفاته العجيبة، وغفرت تباعده دون اعتذار منه، واحتوت فى قلبها هذا الإنسان بكيانه المعذب.. وأنا على الجانب الآخر أستمع وأتعجب حتى ارتفع حاجبى أعلى من رأسى من كثرة الاندهاش.. هى لا ترانى فتكمل القصة: رأيت أننى سأظل أنا المعذبة وسيبقى قلبى معتلًا إذا بقيت على تلك الحال الأولى.. وإذا ظللت أنتظر منه حبًا، أو إذا فقدته ولو كصديق.. وشعرت فى داخلى بأننى أغفر له، وأقدر حاله، وأشعر نحوه بالحب المساند الغافر العطّاء.. هذا يريح قلبى ويفرحنى.. ويكفينى..

لم أقدم نصحًا عقلانيًا.. فنحن فى نوفمبر.. لقد آن الأوان أن أتعلم أنا.. يبدو أن العقل ليس هو الحكم الصحيح فى كل الأحوال، وأن القلب وأحكامه قد تريح الكيان الإنسانى وتهبه من السلام والفرح ما لا يستطيعه العقل.. وهنا أكتب لها، ولكل من يمتلك قلبًا مثل قلبها، لكى أقول له ولها: شكرًا على وجودكم فى هذا العالم.