الأربعاء 26 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
طول البقاء

طول البقاء

(محركات الحياة هى الغذاء، والكساء، والاقتناء، وطول البقاء.. فى شأن الغذاء: لكل محصول آفته الخاصة التى تقضى عليه وتفنيه، إذا طالت مدة بقائه مَخزونًا.. وفى شأن الكساء: لكل نسيج آفته التى تضربه وتجعله يتهرأ ويبلى إذا طالت مدة تخزينه.. وفى شأن الاقتناء: لكل مال أوجُه تبديد ولكل معدن صدأه، وإن لم يصدأ؛ فله الطامعون والسارقون.. وأخيرًا وفى شأن طول البقاء: له آفته الخاصة واسمها الشيخوخة بمظاهرها المعروفة التى مَهما قاومها الإنسان تنتهى بالفناء..)..



كان هذا ملخص رسالة وصلتنى بالأمس من الدكتور مدحت، أحد الفلاسفة المعاصرين الذين ينظرون للحياة وأمورها بشكل أعمق، ويتأملون الإنسان بعيدًا عن سطحية وسرعة الحياة اليومية.. ما جعل كلماته ورسالته تستوقفنى؛ إذ بالرغم من أننا نعلم مصيرنا المحتوم، وأن الأجساد تُفنَى لا محالة؛ نسعى كل يوم بلا هوادة نحو الغذاء، والكساء، والاقتناء، وطول البقاء.. 

وتعمل كل شركات التسويق على تجميل مختلف منتجات الغذاء والكساء فنجرى لهثًا للشراء.. وتتحول ضرورات الحياة من بساطة المأكل والمَلبس إلى فانتازيا الطبخ وجنون الموضة.. ساعات من برامج الطبخ، وسباقات محمومة بين المطاعم لجذب الناس بأطباق تلهى الأعين قبل البطون؛ أمّا الملابس والموضة والبراندات والوجاهة الاجتماعية التى صارت ترتبط بنوع الملابس وأسعارها ومن أين اشتريتها؛ فحدّث ولا حرج.. وصارت سوق الأونلاين فتحًا جديدًا لتضخيم حجم هذه الصناعة وترغيب الناس أكثر وأكثر فى الافتتان بالموضة.. هل تعلم أن صناعة الملابس هى أكبر صناعة تساهم فى تلوث الكوكب؟

وهكذا أصبحنا لا نبحث عن الغذاء والكساء لمجرد حماية أجسادنا من الجوع والأجواء الباردة أو الحارة؛ بل صار الشغف بالطعام نهمًا، والهَبل بالملابس جنونًا.. ثم صرنا نحب الاقتناء فى صور أخرى متعددة يسميها العالم الحديث الاستثمار حتى ما تزيد أموالك ومدخراتك.. اسعَ فى عملك؛ بل اعمل فى وظائف إضافية حتى تتمكن من زيادة دخلك.. هناك عمل من البيت بجانب عملك.. اقضِ يومك كاملاً فى بذل مجهود فوق طاقتك حتى تكسب أكثر فتشترى أفضل غذاء وأثمن كساء وتكون من الأثرياء.

أستاذى الجليل.. معك كل الحق.. كلماتك العميقة تسخر من حياتنا الإنسانية البائسة التى نلهث فيها لإتعاس عمرنا القصير بالجرى وراء الفناء.. فنأكل ونلبس ونقتنى ونشيخ ونموت تاركين وراءنا لا شىء.. 

ولكن دعنى أطمئنك وأقول لك إن جملتك التى أتت فى نهاية رسالتك، يحققها البعض.. قلت: (الفائز الوحيد هو مَن اكتنز واقتنى وجمع فى مخازنه أشياء لا تصدأ، ولا تسوس، ولا تُسرَق، ولا تفنى؛ وهى الأمور الخاصة بالروح الخالدة).. وأقول لك إن هناك مَن يخزن أفكاره فى عقول تلاميذه ومريديه، وإن هناك مَن يعلم كل مَن حوله بالقدوة فى سلوكه البسيط، المهذب، الراقى، الإنسانى، الهادئ، الوديع، الصبور، المتسامح، متحرّر الفكر، باحث عن الحق.. مثل هذا العالم المتواضع حين تنتهى رحلته فى عالم الأرض؛ تبقى أفكاره وتعاليمه خالدة فى عقول ونفوس تلاميذه.. وكأن ما اقتناه من كنوز العلم والخبرات قد قام بتوزيعها على الآخرين لتتوارثها بعدهم أجيال أخرى.. تلك الكنوز غير محدودة؛ بل تتوزع على الملايين دون أن تنقص.. وهى لا تصدأ ولا تسوس ولا تفنى، ولن يسرقها أحد لأنها متاحة للجميع.

عزيزى الفيلسوف.. معك كل الحق.. لم يقم الأنبياء ببناء المعابد، ولا قام المفكرون بترك إرث مادى، ولم يترك العلماء الحقيقيون وراءهم إلا كنوز علمهم.. وكلهم عاشوا وماتوا فقراء، ولكنهم ظلوا أحياء. 

تقول باتى ديفيز- 70 عامًا- ابنة الرئيس الأمريكى الراحل رونالد ريجان: (إن ما تتركه على الأرض بعدما تغادرها هو عدد القلوب التى لمستها فى حياتك).