الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
مــن برديات مــدن الياسمين "الحلقة 2"

مــن برديات مــدن الياسمين "الحلقة 2"

«بُكره العيد وحنعيّد وندبحك يا شيخ سيد»



 

القاهرة - يونيو 2013

 

أسير فى شارع شهاب، الفتيات يتكالبن على المحلات يشترين ملابسَ جديدة، وكأننا فى ليلة العيد فِعلًا، كما قال عبدالرازق، الفتيات صاخبات فرِحات يهتفن، يسقط يسقط حكم المرشد، النسوة يصفقن لهن من الشرفات، رجلٌ عجوز يلوّح من نافذته بعلَم مصر، أعلام مصر ولافتات ارحل تزيّن منشرَ غسيل فى إحدى الشقق وتتطاير مع نسائم الليل المنعشة.

ما أزال أسير فى الشارع الطويل المزدحم، لا زحام على محلات البقالة والطعام، المصريون لا يستشعرون توترًا ولا قلقًا، ولا يخزّنون سِلعًا غذائية، ولا يخافون أزماتٍ لا يقوون عليها، جميعهم يتصرفون وكأن غدًا عيد يستعدون له بالملابس الجديدة والرايات الملونة، والألعاب النارية والأدوات الموسيقية، صدَقتَ يا حاج عبدالرازق، بُكره العيد وحنعيّد.. إنها روح مصر، تتجلّى ساطعةً فى قلوب ونفوس كل أبنائها، روح مصر.

 

وتحلّق طائرةٌ فوق الرؤوس، يتدلّى منها العلَم بألوانه الثلاثة كبيرًا ساطعًا، الطائرة قريبة من الأرض، أو هكذا يظنها المارة والسائرون، يصفقون لها ويصفّرون ويلوّحون لقائدها يحييونه، ويرتفع للسماء، ورؤوسنا جميعًا تتابعه أعلى وأعلى، سيارة شرطة تمُر فى الشارع، تضيء أنوارها وتطلِق صفافيرها تحيةً للمارة، يصفقون لها، بعض السيدات يزغردن من النوافذ، يهتف شاب متحمس يجلس على مدخل أحد محلات الطعام، جيش وشرطة وشعب إيد واحدة، أصفق له، يصفر فرحًا، وكأننا فى مباراة كرة قدَم للفريق القومى الذى كسب المباراة فى لحظتها الأخيرة بهدفٍ جميل، ابتسِم ابتسامة واسعة واقترِب مِن بيتى، شهيد البواب يسألنى، ننزل فين يا دكتور التحرير ولا وزارة الدفاع؟ أسأله وأشاكِسه، حتنزل وتسيب العمارة لمين يا شهيد؟ يضحك، الدار أمان يا دكتور، ما تخافش على العمارة، الجيش فى كل حِتة، وشُغل زمان خلص، ولاد الحرام دخلوا شقوقهم ولا حد منهم يستجرى يطُل براسه؛ لأنه عارف أنها حتتقطع! يشير ناحية الشارع العمومى، خطوتين من هنا حتلاقى مدرّعة بتحمى العمارات وتحمينا كلنا، انزل فى أى حِته يا شهيد. يبتسم، على قولك، ما هو كله موصّل على كله، ويخطرنى، السكان اشتروا علَم كبير، وعلى الفجر حننزله من السطوح لغاية المدخل.. وابتسِم، وأشعر أن عسلية صاحبة الفكرة ودينامو تنفيذِها، وصدَق إحساسى، بُكره العيد وحنعيّد، وندبحك يا شيخ سيد، لا تخَف، لا تخَف!

حسن بائع الصحف يؤكد، مِن كُشكِه الصغير أمام البيت، أنه سيوزع علَمًا صغيرًا مع كل الصحف والجرائد غدًا، ويقسِم، على حسابى، والمصحف يا دكتور، لأجل العيال تفرح. أشكره وأمتلئ زهوًا وفرحًا، وأشكره على الفكرة الجميلة، إنها رائحة النصر يا عزيز، رائحة النصر، رائحة العبور وانتصار أكتوبر، رائحة النصر تفوح فى كل مصر، تحكى لنا عما سيحدث وما سنعيشه.

أخرج مِن المصعد، وأفتح باب شقتى، وألقى جسدى التعِب على كنبَة الصالة، تسألنى عسلية، ما لك يا عزيز؟ جاى مَشِى من المستشفى! يا خبر! تلومنى، أنت فاكر نفسك لسّه فى الجامعه؟ أضحك، لأ، عارف أنى اتخرجت وكبرت، بس مقاوحه بقى يا عسلية، تقولى إيه! تبتسم وهى تنصِت لكلامى، أحدق فى وجهها الجميل وأحكى لها، جيت مَشِى علشان أشوف الشارع والناس، وأسمع صوت قلوبهم، تبتسم أكثر، ولقيت إيه؟ لقيت إننا انتصرنا يا عسلية قبل ما ننزل بُكره، لقيت أن مصر خدت قرار ومافيش قوّة فى الأرض حتقدر توقفها، توقّعى مفاجأة مصرية مذهلة مفرحة بُكره، تضحك، أنا واثقة.

أجلس فى الصالة، أحدق فى شاشة التليفزيون الذى قضيت الليلَ كله أمامه، أتابع كل البرامج الحوارية وكل الفضائيات، ورأسى مشغولة تفكر فى تمرد، وثلاثين يونيو، والانتخابات الرئاسية المبكرة، وأفكر فى كل تداعيات الأحداث فى الأيام الأخيرة، أفكّر فى كل الاحتمالات القادمة، ما الذى سيحدث؟ وكيف سيحدث؟ الجيش سينحاز لمصرَ والمصريين، ولإرادتهم الوطنية، ما الذى ستكشف عنه الأيام القليلة القادمة؟

مِن يومين أو تلاتة، أصدرت محكمة جُنَح الإسماعيلية حكمًا جنائيًا، يقول مِن ضمن حيثياتِه إن سجون مصر فى يناير 2011 اقتُحِمت بعصاباتٍ مسلحة من خارج البلاد هرّبت المساجين، وقَتلت الضباط، وإنها مؤامرة على مصر وأمنِها القومى، وطلبت المحكمة التحقيقَ الجنائى فى الأمر، مِن يومين أو ثلاثة أصدرت محكمة استئنئاف القاهرة حكمًا بعودة النائب العام الدكتور عبدالمجيد محمود، لمنصبِه كنائبٍ عامٍ بعدما عزلَه الإعلان الدستورى الباطل فى نوفمبر 2012. 

مِن يومين أو ثلاثة منحَ القضاء المصرى وقضاة مصر شعبَ مصرَ الأسانيد القانونية التى تُخرِجه للشوارع، فلا يعود إلا بعدما يتحقق مبتغاه وهدفُه، الأحكام قالت إن الرئيس الذى يحكم البلادَ هاربٌ من السجن، متواطئ مع عصاباتٍ مسلحةٍ مِن خارج البلاد، لفتح السجون، وتهريب المساجين، وقتْل الضباط، الرئيس الذى يحكم البلادَ خالفَ القانون، وأهدر أحكامَه، وعزل النائبَ العام، أعلى سلطةٍ فى النيابة العامة، بإعلانٍ دستورى باطلٍ، اغتصبَ فيه سلطاتٍ ليست له وحصّن قراراتِه مِن الطعن عليها أمام المحاكم، فصار الحاكمَ بأمر الجماعة ومكتبِ الإرشاد!

يالا يا شعب مصر، حرّر مصر من الجماعة ومكتب الإرشاد، والرئيس المتآمِر على أمنك القومى، يالا يا شعب مصر، حرّر مصر من الرئيس الذى سعى لهدم القانون وخالف أحكامه عامد متعمّد، يالا يا شعب مصر، يالا يا شعب مصر قوم.. وبُكره العيد وحنعيّد، وندبحك يا شيخ سيد، لا تخَف لا تخَف!

وأخرج للشرفة، أستنشِق رائحة الياسمين، وأحكى لنبيلةَ عن كل ما شاهدته طيلة الطريق الطويل، تبتسِم نبيلة وتهمس، ربنا يتمم بخير يا حبيبى، أهمِس يا رب يا بلبل.. يا رب.

 

الصفحة الثانية والثلاثون

2017 

رفح 

وتنهمر ذكريات ثورة الثلاثين مِن يونيو، ثورة الحضارة على قلبى كالسيل الجارف العفى، فياضًا بالخير والفرحة. 

أخبَرنى جورج، أن أمه وشقيقاتِه تَظاهرن عند الاتحادية وأنهن انضمَمن للملايين التى كانت تحتشد هناك وتصرخ، ارحل ارحل، أخبَرَته أمه أنها خرجت من بيتها ومعها بناتها وكل جاراتها، يرفعن أعلام مصر ويهتفن، ارحل ارحل. 

أُم جورج قادت مسيرتها الصغيرة من الوايلى للاتحادية، بدأتها بجاراتها وبناتها، وحين وصلت المسيرة الاتحاديةَ كانت قد ازدحمت بالمارة والعابرين ممن يبحثون عن أى مظاهرةٍ ينضمون إليها لتحرير الوطن وهُم فى طريقهم للاتحادية، فساروا خلف أم جورج يرددون خلفَها، ارحل ارحل، يسقط يسقط يسقط حكم المرشد، انزل يا سيسى، مرسى مش رئيسى.

أبتسِم وكأنى أرسِل تحية لأم جورج وبناتها، ومَن ساروا خلفَها فى مظاهرة تحرير الوطن.. وما تزال الذكريات تنهمر علىّ كالسيل الجارف، ما الذى حدث يوم الثلاثين من يونيو، يوم ثورة الحضارة المصرية؟