سر انتصار وحى «سيد الخلق»!

محمود جمال
قبل أن يتبلور إسلام الأحكام، الإسلام المدنى، بل قبل أن يبدأ أصلاً، أتى الوحى نبيه، فتلى، محمد (ص) على قومه إحدى السور المكية، أو قل جلها 561آية لاهوتية، أعنى؛ أن السورة كلها تناقش قضايا الربوبية، الوحى، البعث والجزاء، والعظمة الإلهية. إنها سورة الأنعام، سورة أقل ما توصف به أنها روحانية ملحمية شأنها كشأن الإسلام برمته فى نسخته المكية.. لاحقاً، وقبل أن تنقضى ستة عقود على تلاوة هذه السورة لأول مرة، سيتحتم على بعض المسلمين أن يتقطعوا «نصف جملة» من سياق إحدى آياتها، ليقتلوا بها محمد (ص) بعد أن وافته المنية، ويواروا الثرى إسلام القرآن، ويدشنوا فى ساحة القتال، تحت أسنة الرماح، إسلام آخر، إسلام الفرق والمذاهب. إننا الآن فى السنة السابعة والثلاثين بعد الهجرة، وقد قال بعضهم:
فى عام 1216 هجرية هجم جماعة من الأعراب على كربلاء بالعراق، نهبوا المساجد والبيوت، أشعلوا النيران فى المدينة، قتلوا قرابة الألف مسلم ما بين رجال وشيوخ وأطفال ونساء. بعدها بعام واحد أعادوا ذات الكرة، لكن على مدينة الطائف هذه المرة.
فى عام 1218 هجرية كان الموعد مع مكة. وفى عام 1220 اقتحموا مدينة رسول الله، واستولوا على محتويات المسجد، ومنع الناس من زيارة قبر الرسول (ص) وفى عام 1224 توجهوا لمقابر آل البيت فى البقيع. فهدموا مقبرة فاطمة بنت الرسول وأبنها الحسن بن على والعديد من المقابر، معلنين بذلك ظهور إسلام جديد اسمه الإسلام الوهابى، ومتوجين ظهوره وانتصاره بتحقيق أهدافهم السياسية وقيام دولتهم الأولى، تلك الدولة التى تكفلت مصر بالذات بالقضاء عليها حين أرسلت جيشها بقيادة إبراهيم باشا، فأسر زعيمها والعديد من أفراد أسرة عبدالوهاب.
من منطقة نجد، خرج رحمان اليمامة أو مسيلمة الكذاب كما تسميه كتب التراث الإسلامى. ومن تلك البقعة أيضاً أظهر «محمد بن الوهاب بن سليمان النجدى» مؤسس الإسلام الوهابى، المعروف اليوم باسم السلفية دعوته. كان بن عبدالوهاب مولعاً بمطالعة كتب التراث، تلك الكتب الصفراء بالذات. فى شبابه أظهر دعوته ودعا الناس إلى مذهبه الجديد فتصدى له أبوه وأخوه، وبعد موت أبيه أعاد الكره فنفر منه الناس وطردوه، ثم كان النجاح فى المرة الثالثة، نجاح خطه بالسيف وحده.
يقول الشيخ «سليمان» شقيق محمد بن عبدالوهاب عن دعوة أخيه: اليوم أبتلى الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنة، ويستنبط من علومها ولا يبالى من خالفه، هذا وهو لم يكن فيه خصلة واحدة، لا والله بل عُشر خصلة، من خصال أهل الاجتهاد، من خالفه فهو كافر، ومع هذا راج كلامه على كثير من الجهال، فإنا لله وإنا إليه راجعون).
كتب إمام الحرمين فى ذاك الزمان، الشيخ «أحمد دحلان» المولود سنة 1231 هـ عن دعوة «محمد بن الوهاب»: كانت فتنة من أعظم الفتن التى ظهرت فى الإسلام، طاشت فى بلاياها العقول، وطاحت فيها أرباب المعقول.. ظهر أمره بعد الخمسين، فأظهر العقيدة الزائغة بنجد، وقام بنصرته محمد بن سعود أمير الدرعية، بلاد مسيلمة الكذاب. سأله أخوه الشيخ «سليمان»: كم أركان الإسلام يا محمد. فأجابه خمسة. فرد أخوه: بل جعلتها ستة. من لم يتبعك فهو كافر. وهذا ركن سادس للإسلام.
يرسم «محمود أبوزهرة» خطا تاريخيا لجذور الفكر السلفى أو مذهب السلفية فيقول: ظهروا فى القرن الرابع الهجرى. وكانوا من الحنابلة، وزعموا أن جملة آرائهم تنتهى إلى الأمام أحمد بن حنبل.. ثم تجدد ظهورهم فى القرن السابع الهجرى، أحياه بن تيمية، ثم أضاف إليه أموراً أخرى قد بعثت إلى التفكير فيها أحوال عصره.. ثم ظهرت تلك الآراء فى الجزيرة العربية فى القرن الثانى عشر الهجرى، أحياها محمد بن عبدالوهاب، ومازال الوهابيون ينادون بها.
وهذا تحديداً ما ارتكزت عليه السلفية. إذ كانوا قد نسبوا أنفسهم للحنابلة. لكن يا ترى هل كانوا فعلاً حنابلة؟
بينما «بن تيمية» كان قد قال: لم يكفر من المسلمين بالذنوب والاجتهادات سوى الخوارج، راح «محمد بن عبدالوهاب» فى رسالته المعنونة بـ «كشف الشبهات» يطلق لفظ الشرك والمشركين على كل المسلمين عدا أتباعه فى حوالى 24 موضعاً. ووصف المسلمين بـ أوصاف من قبيل عبدة الأصنام، الكفار، المرتدين، جاحدى التوحيد، أعداء الله، مدعى الإسلام فى أكثر من 20 موضوعا آخر. راحوا يكفرون كل من خالفهم بينما «بن حنبل» لم يكن يكفر أحد من أهل القبلة بذنب كبير كان أم صغير إلا بترك الصلاة. زعموا أنهم يرجعون فيما ورد فيه نص إلى الكتاب والسنة، وما لم يرد فيه نص إلى اجتهاد «بن تيمية». وبينما قال «بن تيمية»: إن من والى موافقيه، وعادى مخالفيه، وفرق جماعة المسلمين، وكفر وفسق مخالفيه فى مسائل الآراء والاجتهادات، وأستحل قتالهم، فهو من أهل التفرق والاختلاف.
وبينما كان بن تيمية يقول: الخلق عباد الله، والولاة نواب الله على عبادهم، وهم وكلاء العباد على أنفسهم. كانوا هم بالذات قد خرجوا على الخليفة العثمانى. لا لم يكن ''بن عبدالوهاب «حنبليا، بل سياسى حنبلى بمفهوم الحنبلية المصرية!
وجد «الإخوان»، أعنى أتباع الوهابية، لأنهم كانوا يطلقون على أنفسهم «الإخوان»، وجدوا فى أحد أقوال «بن حنبل» ضالتهم إذ قال: من غلب على المسلمين بالسيف حتى صار خليفة وسمى أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً، باراً كان أم فاجرا. فأجبروا الناس على بيعتهم.
لكن هذه المقولة المنسوبة لابن حنبل كان يقف لها بالمرصاد قول آخر موضوع على لسان النبى يقول فيه: الإمامة فى قريش. إذ ذاك كان التخلى عن فكرة الخلافة، والتوجه إلى الملكية.
الفكر السلفى انتشر شرقاً حتى وصل إلى الهند، إلى الأرياف الهندية بالذات، وكان منظره الأول هناك هو «شاة ولى الله. ثم شمالاً إلى أرياف الشام، ومناطقه العشوائية، حيث التدين الشعبى. وحين أراد أن يتمدد شرقاً باتجاه مصر، كان عالمها الجليل «محمد عبده» قد وقف له بالمرصاد إذ كان قد وصف أتباعها أنهم أعطب وأعطن من المقلدين. وقف جيل كامل من رموز عصر النهضة المصرية لهذا الإسلام الجديد بالمرصاد، فحالو دون ولوجه. لكن ذلك ليس كل شىء،
فمصر بالذات كانت على وشك أن تصدر للعالم إسلاما جديدا، أشد عنفاً وشراسة. الإسلام القطبى الذى يتبنى مبادئه تنظيم القاعدة. والذى يقول زعيمه أيمن الظواهرى أنه الابن الشرعى والسياسى لسيد قطب المؤسس الفعلى لهذا الإسلام الدموى. ونعم الأب أبوك!
كانت مصر فى هذا التوقيت ليبرالية الثقافة والمزاج، ينزح إليها مثقفو الشام هرباً من نير الخلافة العثمانية القابض على بلادهم، ثم الاستعمار الفرنسى فيما بعد. ومن جبهة الظلامين قام شاب ضحل الثقافة عظيم الحيلة والكاريزما بإنشاء جماعة «الإخوان». وصفها فى رسالة المؤتمر الخامس فقال: هى دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية.
لاحظ أول ما قال فى حقها أنها دعوة سلفية. ألم يسميها «الإخوان» تأثراً وإعجاباً بالإخوان الوهابيين فى شبة الجزيرة العربية!
كان الليبراليون كـ على عبد الرازق وطه حسين وقاسم أمين وفرح أنطوان وغيرهم كثر يقفون سداً منيعاً ضد مشروع الإخوان الرجعى. فما كان لدى الإخوان من طريق آخر سوى التحالف مع السلطة. حاولوا تنصيب الملك فؤاد خليفة للمسلمين، فوافق بالفعل واتصل بشيخ الآزهر مصطفى المراغى فرحب هو الأخر، لكن شيخا أزهريا من المعسكر التنويرى اسمه على عبدالرازق كان قد وقف قبلها بقلمه لمخططهم بالمرصاد حين أصدر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» وأثبت به أن الخلافة ليست من الإسلام فى شىء، وإنما هى مشروع سياسى نشأ على أنقاض الإسلام المحمدى بالذات. حاولوا مرة أخرى مع الملك فاروق، حاولوا تنصيبه فى الأزهر، حاولوا إقناعه بإلغاء الأحزاب، وإنشاء الحسبة، حاولوا إعادة التجربة الوهابية فى مصر، كانوا يطلقون على الديوان الملكى الديوان الإسلامى، أقنعوه بإلغاء دور السينما، وإغلاق المحال فى أوقات الصلاة، ومنع الاختلاط، إلا أن تيار الحداثة كان وقتها أقوى من أن تهزمه جماعة متحالفة مع الملك فبآت كل محاولاتهم بالفشل.
حين عاد «سيد قطب» من أمريكا كانت الجماعة على وشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. كانت مجرد تنظيم لا يتركز على أيدولوجية متماسكة سوى محاولات ساذجة لحسن البنا. كان المجتمع كله يلفظها والسلطات تلاحقها. كان جناحها المسلح قد انهار وبدأ يقتل بعضه بعضا.
أرسلته مصر فى منحة تعليمية، فعاد إليها ناقماً عليها وكارهاً لها ولشعبها. عاد بصدمته الحضارية مزمعاً على تأسيس دينه الجديد. التقف ما كتب «أبوالأعلى المودودى» هناك فى الهند، حيث وصلت السلفية، ثم عاد بذاكرته إلى أحداث سنة 37 هجرية فخرج على الناس بدين «الحاكمية»، ونظرية المجتمع المسلم الذى يعيش فى الجاهلية.
فى إحدى قاعات جامعة الملك عبد العزيز فى السعودية، كان الطالب الثرى جداً «أسامة محمد عوض بن لادن» يصغى بإنصات إلى أستاذه «محمد قطب» شقيق المقبور سيد قطب، وكان الأستاذ قد عمق من أفكار أخيه، من فكرة الحاكمية والجاهلية بالذات. وأصدر كتابا اسمه «جاهلية القرن العشرين». وعلى إثر تشرب الأفكار القطبية، سكر الشاب الغض وتخدر عقله، فتحول لأخطر إرهابى فى العالم.
وعلى يده تحول الإسلام القطبى من دين إقليمى فى مصر والسعودية واليمن إلى إسلام دولى. وهناك فى مجاهل آسيا تم إعلانه خطأ نبى لهذا الدين ورسوله، بينما نبيه كان قد أعدم فى 29 أغسطس من عام 1966 بعد أن أدانه القضاء المصرى بصفته أحد أعضاء تنظيم سرى إرهابى.
لم يكتف قطب بتكفير المجتمع المصرى وحده، بل ذهب بشططه وتطرفه إلى تكفير البشرية جمعاء فقال فى تفسيره لسورة الأنعام: ارتدت البشرية إلى عبادة العباد وإلى جور الأديان، ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن: لا إله إلا الله. ويصف قطب هذا الارتداد المزعوم عن عبادة الله بالعودة للجاهلية، فيقول:
البشرية عادت إلى «الجاهلية» وارتدت عن لا إله إلا الله. البشرية بجملتها بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن فى مشارق الأرض ومغاربها كلمات لا إله إلا الله بلا مدلول ولا واقع، وهؤلاء أثقل إثما وأشد عذابا يوم القيامة أنهم ارتدوا إلى عبادة العباد من بعدما تبين لهم الهدى ومن بعد أن كانوا فى دين الله.
أى أنه ذهب أيضا لتكفير الموحدين الذى يرفعون على المآذن كلمة التوحيد. وتنبأ قطب بأن هؤلاء الموحدين لهم فى الآخرة عذاب أشد من عذاب الأخرين.
قطب أقدم على ما لم يجرؤ نبى الإسلام نفسه على الإقدام عليه، فرأيناه يقرر مصائر العباد ويؤكد أنهم فى النار، بل ويحدد سلفاً مقدار ما سيلقونه من عذاب. وفى تفسيره لسورة الحجر يؤكد على هذا المعنى فيقول:إنه ليست على وجه الأرض دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم قاعدة التعامل فيه هى شريعة الله والفقه الإسلامى.
وهكذا فقد نفى قطب صفة الإسلام عن أى دولة أو أى مجتمع على وجه الكرة الأرضية، ونفى أن تكون هناك أى دولة تتعامل بشريعة الله وفقه الإسلام! ومرة أخرى فى تفسيره لسورة الأنفال يقول: الذين لا يفردون الله «بالحاكمية» فى أى زمان وفى أى مكان هم مشركون، لا يخرجهم من هذا الشرك أن يكون اعتقادهم أن لا إله إلا الله مجرد اعتقاد ولا أن يقدموا الشعائر لله وحده.
ففى هذا الموضع يرى قطب أن الموحدين بالله، والمعتقدين بأنه لا إله سواها، والمحافظين على شعائر دينهم، يراهم أيضاً مشركين !! وذلك مرده أنهم لا يقرون لله بالحاكمية.
والحاكمية كما هو معلوم كانت سيف التكفير الذى أشهرته فرقة «الخوارج» فى وجه «على بن أبى طالب» ولقى حتفه قتيلاً بسببها، بينما قاتله يردد الله أكبر. إن التاريخ لا يعيد نفسه، بل البشر هم من دأبوا على تكرار ذات الحماقات!
واستنادا إلى كل هذه المعطيات التكفيرية، يطرح حامل لواء الإسلام الأوحد بحسب وصف «محمد مرسى» يطرح نتائجه وخلاصة فكره فيطالب بـ استنباط فقه (حركى) جديد من واقع هذا الفهم التكفيرى، ويشير إلى أتباع هذا الفكر والفقه الحركى بالقول: بأنهم العصبة المسلمة وأنهم وحدهم الذين يفقهون هذا القرآن، ويدركون الأبعاد الحقيقة لمدلولات نصوصه.. ويردف: أنهم القادرون وحدهم على مواجهة الجاهلية بالإسلام وإخراج الناس من الظلمات إلى النور ومن الدنيوية لعبادة الله كما كان الوضع على يد رسول الله.
إن رسول القطبية ونبى القاعدة يطالب بألا يكتفى أتباعه بالإيمان بأفكاره والاعتقاد فى صحتها فحسب، بل يطالب تلك العصبة المسلمة أن تكون حركة لها نشاط على الأرض، تعمل على مواجهة الجاهلية بالإسلام، وتخرج الناس من الظلمات إلى النور. لكن مهلاً..! إلى من يشير سيد قطب بمصطلح «العصبة المسلمة»؟
«حسن الهضيبى» المرشد الثانى للجماعة فى وصفه لجماعته يقول: هى دعوة الرسول (ص) لم تزد عليها ولم تنقص.. وهى أقوى من كل قوة. إنها الدعوة التى أمرنا الله بها إلى آخر الزمان.. ويخطئ من يظن مجرد ظن أن الإخوان المسلمين مجرد اسم لجمعية أو رابطة فى مصر، إنها علم على بعث فكرة الإسلام الخالص النقى ونهضة المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها. إن الهضيبى يضع تفسيراً شافياً، واضحاً، صريحاً، لمعنى العصبة المسلمة. إنها جماعة الإخوان . الجماعة الوحيدة فى العالم كله التى تعتنق الإسلام ديناً.
وعن آلية عمل الجماعة ينطلق قطب من هذه المعطيات التكفيرية المتطرفة ويطالب جماعته بالانزواء والانعزال عن هذا المجتمع الكافر فيقول:
لا نجاة للعصبة المسلمة فى كل أرض من أن يقع عليها العذاب إلا بأن تنفصل عقديا وشعوريا ومنهج حياة، عن أهل الجاهلية من قومها حتى يأذن الله لها بقيام دار إسلام تعتصم بها، وإلا أن تشعر شعورا كاملا بأنها هى الأمة المسلمة وأن ما حولها ومن حولها ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه؛ جاهلية وأهل جاهلية.
إنها دعوة صريحة إذا للتقوقع وهجر المجتمع بأكمله والانزواء بعيدا، نشأت من إيمانه وإيمان جماعته أنهم الجماعة الوحيدة المسلمة على وجه الأرض ومن سواهم كفار ومشركون يعيشون عيشة الجاهلية. لذا فليس حرياً بهم أن يختلطوا ببقية أفراد هذا المجتمع الكافر.
وانطلاقا من هذا الإيمان الراسخ بتكفير كل من سواهم وتمادياً فى الشطط والتطرف، يطالبهم قطب بهجر المساجد أيضا!! نعم هجر المساجد. ذلك لأنها لا تحمل عنده صفة المساجد الإسلامية. وزاد بشططه وتطرفه أن سمى هذه المساجد بـ «معابد الجاهلية، فوجه حديثة للعصبة المسلمة - أى جماعة الإخوان- فى تفسيره لسورة يونس وقال إن الله يرشدهم إلى: اعتزال معابد الجاهلية واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد. تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلى وتزاول فيها عبادتها لربها على نهج صحيح؛ وتزاول بالعبادة ذاتها نوعاً من التنظيم فى جو العبادة الطهور.
أعلمت الآن لماذا تختار جماعة الإخوان لأعضائها مساجد بعينها يصلون فيها دوناً عن غيرها؟!
ويبقى السؤال: من أين جاءوا بفكرة الحاكمية التى شوهت وجهة الإسلام ولطخت تاريخ المسلمين بالدماء عبر القرون؟
هنا تحديداً يتجلى الفارق بين إسلام محمد، إسلام القرآن، وإسلام الفرق الإسلامية، أعنى الفرق السياسية.
ففى سورة الأنعام سالفة الذكر يأمر الله نبيه أن يقول لقومه (قُـل إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (65) قُلْ إِنِّى عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِه إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ(75) قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ الأَمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ)(85)
ورغم أن الآية واضحة فى دلالتها صريحة فى معناها ومغزاها، تتحدث عن قضاء الله وقدره، ولا علاقة لها بالسياسية، ولا بالحكم من قريب ولا بعيد، إلا أننى أحيلك عزيزى القارئ لقول الطبرى لنرى ماذا قال فى تفسيره.
يقول: إنهم قالوا حين بعث الله نبيه محمدا فدعاهم إلى الله، وأخبرهم أنه رسوله: «هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ».
وقالوا عن القرآن : هو أضغاث أحلام. وقال بعضهم: بل هو اختلاق اختلقه. وقال آخرون: بل محمد شاعر، فليأتنا بآية - أى معجزة - كما أرسل الأولون فقال الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم ..
فجاء الرد الإلهى إلى النبى محمد ليقول لقومه: أجبهم بأن الآيات بيد الله لا بيدك، وإنما أنت رسول، وليس عليك إلا البلاغ لما أرسلت به، وأن الله يقضى الحق فيهم وفيك، ويفصل به بينك وبينهم، فيتبين المحق منكم والمبطل.
وهكذا، فقد تحولت آية فى سورة الأنعام، من معناها الذى يفيد بأنه (ص) مجرد بشر رسول ونذير لا يملك شيئاً فى قضاء الله أو حكمه وقدره، لا يملك أن يأتيهم بمعجزة أو ينزل عليهم عذاب، تحولت إلى آية بدلت موقعه من رسول حامل رسالة ربه إلى حاكم وسياسى، وبدلت الإسلام نفسه من دين إلى برنامج حزبى. وكذلك وبنفس المعنى اللاهوتى الذى يفيد قضاء الله وقدره وردت الجملة مرتين متتاليتين فى سورة يوسف.