الأحد 22 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

أمـوات يتنفسـون

أمـوات يتنفسـون
أمـوات يتنفسـون


من الممكن أن يسألنا أحدكم، خاصة لو اكتفى بالعنوان الرئيسى للتحقيق، ما هى مناسبة هذا الموضوع؟! سنرد بمنتهى البساطة إن كنت ترى أن من الطبيعى أن يموت حوالى مليونى مصرى كل لحظة وهم أحياء، لأنهم سكان القبور، فلا تقرأ هذه المساحة المليئة بالمعاناة والإحباط واللا إنسانية، ولمن لايعرف فالإخوان وكل المجرمين يستغلون عوز هؤلاء للمشاركة فى مظاهراتهم وأعمالهم الإجرامية مقابل 100 جنيه فى اليوم، ليتورطوا فى أمور لا يعرفون فيها ولايدركون عنها شيئًا!
 
بابتسامتين استقبلتنا طفلتان تلعبان «الاستغماية» حول والدهما «عبدالعزيز» الذى كتب على باب الحوش الذى يقطن فيه «ثورة 25 يناير» أملا فى تحقيق العدالة الاجتماعية، فمازال ينام وسط الموتى بعدما تخلت عنه زوجته هرباً من الهلع الذى شيّب شعر رأسهافيروى لنا تفاصيل حياته اليومية بأن الحياة فى المقابر لها طابع خاص، فبعد غروب الشمس تختبئ السيدات والبنات داخل الأحواش خوفا من متعاطى المخدرات والمنحرفين الذين يتخذون المقابر ملجأ لهم فى الليل، أما الحرامية فيطرقون أبوابنا لإثارة الرعب بداخلنا، ففى كل مرة نفتح فيها الباب لا نجد سوى الظلام، ونتظاهر بالسعادة لأننا فى أطهر مكان بالأرض.
ويرثى «عبدالعزيز» حاله بأن عمله كسائق لم يساعده فى الحصول على سكن آدمى مثل باقى البشر، واكتفى بأن يقطن فى بيوت الآخرة، ولا يتمنى سوى «لقمة نضيفة، وتعليم كويس» لأولاده.
 
تقودنى على غفلة «السيدة سكينة» إلى داخل الحوش المكون من غرفة واحدة مظلمة تشمل: سرير وبوتاجاز ودولاب ملابس وكنبة أنتريه متهالكة، وخارجها مرحاض مثير للاشمئزاز، وغسالة تستند على أحد الأركان، وحبل ممتد من الشاهد إلى الحائط حاملا بعض الملابس المنشورة، سألتها ما هذه الرائحة التى تملأ المكان، أخبرتنى بوجه غلب عليه ملامح الاستلام أنهم دفنوا ميتا هنا منذ أسبوع، وتقول لنا هذه الأم الحزينة التى تبلغ من العمر 52 عاما: كل الأبواب غلقت فى وجهى إلا المقبرة احتوتنى أنا وبناتى، فلا يوجد شىء لا نعانى منه، اليوم يبدأ بمأساة وينتهى بمأساة، فنحصل على قوت يومنا بالعافية من بيع المناديل، أو ننتظر «رحمة» زوار الموتى من (فطائر وبرتقال)، وإن لم يأت أحد لا نحزن «فنحن أموات مع أموات!!».
 
تعانى «الحاجة سكينة» من تليف كبدى، وحصى على الكلى، وجلطة فى القلب، ورغم ذلك لا تتمنى العلاج لأنه بدون فائدة، كما أنها لا تأخذ معاشا لتنفق على احتياجاتها، متحسرة على بناتها اللائى أدركن الموت قبل الحياة، فهن لا يذهبن إلى المدرسة، ولا يستمتعن بطفولتهن، ولا يرتدين ملابس تليق بهن، يكتفين فقط بكلب صغير يؤنس وحدتهن، فتغلق عليهن باب الحوش كل يوم عندما تخرج لبيع المناديل، قائلة: «أخاف تبعد واحدة منهن، تروح ماترجعشى»، خاصة أن الحرامية يخطفون البنات والسيدات لابتزازنا فى حين أننا لا نملك شيئا، وتنهى حديثها: «لا أريد سوى غرفة بحمام لبناتى بعيداً عن عيشة الميتين».
 
وعلى بعد أمتار وصلنا إلى مقابر «الصدقة» التى بنيت منذ خمس سنين بتبرعات مجموعة من الحانوتية لأجل الموتى مجهولى الهوية، رافضين أن يسكن فيها أحد لأنها لله فقط، مؤكدا أنهم لا يأخذون عليها أى أجر، فهم متعاقدون مع مستشفيات وإذا لم يتم التعرف على الجثة بعد 18 يوما من وفاته، يتم دفنه بعد اتخاذ الإجراءات اللازمة من الجهات الأمنية والتى تشمل: التصوير وأخذ البصمات، مشيرا إلى ضرورة أخذ تصريح من النيابة لنقل الميت بعد تعرف الأهل عليه.
 
ويفسر لجوء هؤلاء الغلابة للعيش مع الأموات بسبب زحفهم من الريف والصعيد إلى القاهرة هربا من الفقر، ليجدوا واقعا أشد قسوة؛ لا سكن ولا عمل، فيتورطون رغما عنهم فى المقابر المكان الوحيد الذى لم يخيب آمالهم!
 
التقينا ببعض ساكنى المقابر فى «قرافة سيدى جلال» بالسيدة عائشة ومنهم، «سيد محمود موسى» (عامل رخام)، وقال لنا: المنطقة هنا مليئة بالأمراض لتكدس أكوام القمامة فلا تتم إزالتها ونضطر نحن الأهالى للتعاون فيما بيننا لنقلها وتجمعها خارج المقابر وحرقها، مع العلم أنه يجب أن تتم إزالتها من قبل مسئولى النظافة ولكن لم يحدث هذا مطلقا، كما أن طريق الأتوستراد قريب منا والسيارات تمر منة بسرعة رهيبة والأطفال تذهب منه للمدارس كل يوم ولا يوجد أى مطبات صناعية أمام القرافة مما يعرض حياة أطفالنا للخطر الشديد، كما لايوجد أى مواد غذائية تباع هنا وليس أمامنا سوى الذهاب إلى منطقة الإباجية لشراء احتياجاتنا اليومية من غذاء من خلال مخرج ضيق إلى منطقة الإباجية تنتشر به القمامة والأسلاك الكهربائية المكشوفة.
 
أم أحمد (ربة منزل) تروى قصتها مع ابنتها قائلة: المنطقة هنا مرعبة ليلاً ولا أحد يجرؤ على الخروج بمفرده، وأذهب مع ابنتى كل يوم أوصلها لمدرستها وأعود معها خوفاً من تعرضها للتحرش من قبل البلطجية المنتشرين هنا، ويوجد مكان خلف المقابر تجد فيه زجاجات الخمور الفارغة والسرنجات ملقاة على الأرض حيث يتعاطونها طوال الليل ورغم أنى أعرف جيرانى من حولى إلا أنى أخشى الخروج ليلاً.
 
كامل حنفى طه- عاجز بقدمه ولا يعمل-: لقد قمنا نحن الأهالى بإدخال مواسير الصرف على نفقتنا بعد عدم استجابة المسئولين لنا ولأن العدد هنا فى تزايد مستمر كان لابد من وجود ماء للشرب، فجمع الأهالى من بعضهم لتوصيل المياه ويضيف عم كامل :كنت أعمل نجاراً وسقطت من الدور الثالث مما أصابنى بكسور شديدة أدت إلى عجزى عن العمل وعمرى الآن 62سنة، ولا أجد ما أنفق منه وطالبت كثيراً بإقامة كشك أعيش منه إلا أنه لم تتم الاستجابة لى حتى الآن.
 
وليد جمعة «صانع أحذية» يتحدث بإحباط شديد عن ماذا تريدنى أن أتحدث معك عن أنه لا يوجد أى مستشفى أو مركز صحى هنا والذى موجود هو مجرد مبنى فارغ وعن مسجد يوجد هنا لكن بدون خطيب ولا إشراف من أى جهة، وعن أننى كأى شاب أريد الزواج ولكن فرصة إيجاد شقة تصبح أمراً مستحيلاً وليس من المعقول أن أتزوج فى حوش مقبرة، أما عن أننا نريد معاملة آدمية كباقى البشر فلماذا يتعجب المجتمع من خروج المنحرفين والمجرمين والبلطجية والذين يتم استئجارهم من أجل أعمال سياسية معينة مع الإخوان هذه الأيام وهذا كله مقابل مائة جنية فى اليوم!
 
وفى مدافن «الإمام الشافعى» تجد المقابر متراصة على جانبى الشوارع والطرق، ومن اسم المرحوم المكتوب على المقبرة وشكلها وطبيعة بنائها، لا يبدو صعبا معرفة درجة ثراء صاحبها أو نفوذه أو مكانته فى الدنيا، فهناك مقابر كما يحلو البعض تسميتها «خمس نجوم»، تتجاوز مساحتها الـ 200 متر وأكثر، يصعب عليك التصديق أنها مقبرة، إذا لم تر اليافطة المكتوب عليها اسم المرحوم، تنفرد هذه المقابر بشكل معمارى مميز ومكسوه بالرخام، بشكل يعكس ثراء صاحبها، وتضم إلى جانب الغرف المخصصة للدفن، أماكن أخرى للاستراحة وحمام ومطبخ، وغالبا ما تكون مجهزة بقطع الأثاث الفاخر وأدوات للطبخ، بما يضمن زيارة مريحة لأصحاب المدفن لذويهم. وهذه المقابر أمواتها أفضل حظا نظرا لعدم وجود أحد يعيش فيها.
وعلى الجانب الآخر توجد مقابر «الغلابة»، قد تكون بمساحة المقابر السابقة، لكنها على النقيض مختلفة عنها فى الشكل والمضمون، شكلها عادى وغالبا يقتصر على الطوب دون أى دهانات، وداخلها غرف متراصة مبنية بأقل مواد البناء وأحيانا بالخوص والخشب، تعيش فيها أسر وعائلات لا دخل لهم ولا مأوى، حياة تشبه تقريبًا حياة الأموات الذين يرقدون بجوارهم، ويطلق عليها اسم «الحوش».
 
كان خارجا من الحوش الذى يسكن فيه، لم يكن من الصعب معرفة مهنته من ملابسه التى عجت بالألوان المختلفة، سألته عن اسمه قال «محمد زكى»، صاحب ورشة دوكو سيارات، أعيش هنا من 20 سنة اضطررت إلى السكن هنا بعد أن فشلت فى الحصول على شقة، الحكومة دائمًا تضحك علينا، أجرى للحصول على شقة منذ 15 عامًا وقدمت أوراقى مرات كثيرة ولم يسأل أحد عنا»..