الإثنين 11 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

عندما قهرت الفنون الجميلة أسطورة الجيش الذى لا يقهر

عندما قهرت الفنون الجميلة أسطورة الجيش الذى لا يقهر
عندما قهرت الفنون الجميلة أسطورة الجيش الذى لا يقهر


القاهرة فى 6 أكتوبر 1973 المشهد نهارى.. الساعة الثانية بعد الظهر طلبة البكالوريوس بأقسام الفنون والعمارة بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة يجلسون أمام الكلية مستندين على سور الكلية والسيارات القليلة الموجودة بجوار الرصيف.. فرغوا منذ دقائق من تسليم وتحكيم مشروعات التخرج.
 
يصيح أحد الطلبة: «الجيش بيحارب».. توجهت كل العيون لمصدر الصوت وكان لزميل يمسك راديو ترانزيستور صغير يضعه على أذنه وملامح غريبة على وجهه.. وكانت المفاجأة.. الجيش يصدر بيانا بأن قواتنا تتعامل مع اعتداء من قبل الجيش الإسرائيلى.. وتتوالى البيانات بعبور قواتنا للضفة الشرقية للقناة أثناء تعامل الطيران والمدفعية.. واقتحام خط بارليف.. لحظة لا تصدق.. أربعون عاما مضت.. ومع ذلك اقشعر بدنى عند تذكر تلك اللحظة.
 
وقتها توجسنا من تلك البيانات.. فبيانات حرب 1967 مازالت تصيبنا بإحباط لازمنا كشباب تلك الفترة حتى .1973
 
كنا قد اتفقنا مع الزملاء والزميلات على الإفطار المشترك فى أحد المطاعم القريبة من الكلية.. إفطار يضم الكباب والكفتة بمناسبة انتهاء وتسليم المشروع.. ووجدناها فرصة للاحتفال أيضا بعبور خط بارليف وقيام معركة انتظرناها طويلا.. وسئمنا أيامها من سنوات الضباب والحسم وحالة اللا سلم واللاحرب المشهورة.
 
وطوال الإفطار الرمضانى كان ذهنى مشغولا بما يمكن أن نقدمه كطلبة للفنون الجميلة لتلك المعركة.. على المستوى الشخصى كنت قد قدمت معرضين للكاريكاتير السياسى والاجتماعى «شباب الحب والحرب 1970» و«صندوق الدنيا 1972» ضمنتهم رأى الشباب فى تلك الفترة العصيبة من حياة مصر.
 
انشغل ذهنى أيضا بالحساب عند حضور الجارسون وتلقيت من تحت الترابيزة دعما ماديا قدره خمسون قرشا لاستكمال الحساب.
 
طوال الليل كانت تؤرقنى فكرة المشاركة فى المعركة وفى الصباح كنت بالكلية وذهبت إلى مكتب شئون الطلبة وكانت تديره الدكتورة أمينة الجندى والتى أصبحت فيما بعد وزيرة للشئون الاجتماعية.. وطلبت منها أن تكلف إحدي الموظفات بكتابة منشور على ورقة حرير وهى الوسيلة للطباعة الرونيو فى هذا الزمان وأخذت الورقة المكتوبة على الآلة الكاتبة التى لا يعرفها شباب هذه الأيام وذهبت إلى عم فؤاد المسئول عن طباعة الرونيو وطبعنا المنشور والذى كان يحتوى على كلمات قليلة «الآن فى سيناء آباؤنا وإخوتنا يبذلون الدم.. وليس كثيرا أن نبذل نحن بعض قطرات من الألوان.. أحضر أوراقك وألوانك وانضم إلى مركز «الفن من أجل المعركة».
 
طبعت عددا محدودا وأرسلته بالبريد لعدد من الطلاب الذين توسمت قدرتهم الفنية واستعدادهم للعطاء كانت رسائل البريد هى الوسيلة الوحيدة للاتصال بالإضافة إلى بعض الاتصالات التليفونية الأرضية بدأت فى الإعداد لتحويل بعض الأتيليهات إلى مركز لفنون المعركة.. وفوجئت بعد ثلاثة أيام بحضور كل طلبة الكلية تقريبا بكل السنوات.. حتى السنوات الإعدادية والكل حريص على المشاركة.. وسرت روح أكتوبر فى الجميع.. هناك من يشد الشاسيهات وهناك من يركب الألوان وهناك من يساعد فى التلوين والطباعة.. أنجزنا عددا هائلا من البوسترات واللوحات الفنية والكروت الصغيرة والتى استخدم عدد كبير منها فى المعايدة على جنودنا فى عيد الفطر عن طريق إدارة الشئون المعنوية.. والصحافة والإذاعة والتليفزيون تجرى معنا اللقاءات والحوارات.. أحداث ومشاعر رائعة مازلت أستمتع بتذكرها إلى الآن.
 
وتجمع عدد كبير من الأعمال الفنية الرائعة والتى أبدع فيها طلبة وطالبات الكلية.. ولكن ماذا بعد؟؟
 
وحملت نماذج من تلك الأعمال وذهبنا بها إلى وزارة الثقافة وقابلنا الأستاذ حسن عبدالمنعم وكيل وزارة الثقافة وأثنى على الأعمال وطالبنا بتركها وستتولى الوزارة طباعتها.. سعدت أنا وزميلى عبدالعزيز الحسينى نائبى فى اللجنة الثقافية بالكلية.. ولكن مرت الأيام ولا نتيجة إيجابية تذكر.. وذهبنا ثانية واستلمنا الأعمال وتوجهنا بها إلى الهيئة العامة للاستعلامات وهناك قابلنا الدكتور يحيى عويس رئيس الهيئة حينذاك.. وفوجئنا به يرفع سماعة التليفون ويطلب المسئول عن الطباعة والنشر ويأمر بطبع تلك الأعمال فورا.. وكم كانت سعادتنا وهذه البوسترات تغطى جدران القاهرة «خلى السلاح صاحى/ الله أكبر بسم الله/ أنا مهرى النصر/ ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة/ الحمد لله».. وعندما حاول دكتور يحيى عويس أن يكافئ تلك الأعمال بمبلغ مالى.. رفضت ذلك رفضا باتا واقترحت أن يتم التبرع به للمجهود الحربى وذكرت له أن شباب وشابات الكلية لم ينتظروا أجرا ماديا وهم ينفذون تلك الأعمال وبذلوا جهودهم فى حب مصر وعليه ألا يفسر هذا الشعور.
 
وتوطدت صداقتى بالدكتور عويس وفى إحدي المرات كان يتصفح جريدة معاريف الإسرائيلية وكان هناك كاريكاتير ورأيته يقلب الجريدة ضاحكا ويقول: يمكن كده أعرف اقرأ عبرى.. والتفت لى وقال تعرف ترسم كاريكاتير ترد به على الكاريكاتيرات دى.
 
وأجبته: إن شاء الله.
 
وغبت عنه أربعة أيام وعدت بثلاثة وثلاثين كاريكاتيرا عن معركة أكتوبر والصراع العربى الإسرائيلى.. ووسط اندهاشه قال: كده بقى دول يبقو كتاب وكانت فكرة إصدار كتاب «نحارب ونبتسم» باللغة العربية والإنجليزية وصدر فى فبراير 1974 وألحقت بالرسوم الكاريكاتورية لوحتين من أعمالى بالقلم الرصاص.. لوحة صراع.. وعالم ما بعد الحرب الثالثة.. «والعمل الأخير أصبح من مقتنيات متحف الفن الحديث» وقدم للكتاب الفنان عبدالله جوهر عميد كلية الفنون الجميلة بالقاهرة ذاكرا أننا كفنانين تشكيليين كان يجب أن نقدم تحية لجيشنا المنتصر.. وها هو الفنان الشاب إبراهيم حنيطر يحطم بريشته أسطورة الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر.
 
ذكريات لأيام مجيدة كان الشعب فيها بكل فئاته صفا واحدا يقدم كل ما يستطيع دون انتظار لأى ثمن.. روح أتمنى أن تعود لنبنى كلنا مصر الجميلة المنتصرة.