الأربعاء 26 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
النَدْبة

النَدْبة

عندما ينجرح الإنسان جرحًا عميقًا، تبقى آثار هذا الجرح حتى إذا توقف نزف الدماء، والتأم الجرح، وقال الأطباء أنه قد شفى.. وتُعرف آثار الجروح باسم النَدبة، وفى الإنجليزية (Scar).. وتستخدم اللفظة نفسها للتعبير عن آثار الجروح النفسية كما الجسدية فى كل من اللغتين.. وكأنما يوجد اتفاق أن الجرح النفسى مهما شفى يترك أثرًا غائرًا فى النفس والقلب كما يترك الجرح الجسدى ندبات على الجلد.



وللندبة فى مجتمعنا المصرى وقفة حزينة تتعلق بالشارع والذين يسيرون فيه.. فالشارع لم يعد آمنًا لكل المواطنين.. إذ إن معظم الفتيات، بل السيدات تتعرضن فيه لندبات نفسية ناتجة عن التحرش والتنمر بكل صورهما التى ليست خافية على أحد.. ومع كل الأسف تخلت الإنسانية عن كثيرين حتى صارت تسليتهم هى إذلال الآخر بكلمات سخيفة تعطى للمتنمر أو المتحرش نوعًا من الشعور الزائف بتسلطه على الآخر وهيمنته على الشارع، فقط لأنه يستطيع أن يجرح الآخرين!

وصارت الفتيات مهما كان مظهرهن عرضة لتلك السخافات يوميًا.. فى حديثى مع شابة جامعية قالت: لو ارتديت فستانًا أو بنطلون أو حتى جلابية لا فرق.. المحجبة وغير المحجبة يتم التحرش بهن.. الطويلة والقصيرة.. لو تجملت يتحرشون، ولو لم تتجمل يتنمرون.. ما فائدة أى محاولة لعدم لفت أنظارهم وهم أصلاً متحرشون ومتنمرون بالطبيعة! حاولت أن أشرح لها وأتناقش وأدافع عن أنه ليس كل الرجال ولا الشباب منعدمى الأخلاق.. أجابت: وما الفائدة إذا كان الذى يسيطر على الشارع هم القلة غير المنضبطة وعديمى الأخلاق؟ الفتاة وغيرها كثيرات صارت لديهن ندبة كبيرة من الشارع.. بعضهن من ميسورات الحال لا يمشين، بل يركبن سيارات خاصة أو تاكسى.. ولكنهن أيضًا لا يسلمن من الجروح النفسية.. وغالبية الفتيات لا يستطعن التحرك الدائم سوى بالسير على الأرجل أو المواصلات العامة.

المشكلة إذا بلا حل؟ هل هذا معقول؟

الشارع إذًا صار يحمل ثلاثة أنواع من المواطنين: المسيطرون المتنمرون المتحرشون.. وأصحاب الندبات الذين واللاتى يسيرون بخوف وحزن وألم ولا يدرون كيف يتصرفون ولا يقدرون على مواجهة البلطجية.. وأخيرًا أصحاب الأخلاق والمبادئ الذين قد يرون التجاوزات ضد الآخرين والأخريات، ولكنهم يصعب عليهم أيضًا مواجهة هؤلاء المسيطرين الذين فى أحيان كثيرة يكونون من متعاطى المخدرات وغيرها مما يذهب العقول – إذا كانت أصلا موجودة.

والمفارقة هى أن الشارع حين نحفره ونجرحه، نعيد رصفه، وننجح غالبًا فى طمس جروحه ولا تظهر له أى ندبات.. ولكن نفوس السائرين فوقه لا تندمل جروحهم، بل تظل الندبات النفسية فى نفوسهم وتؤثر بالسلب على حياة الكثيرين والكثيرات.. أعرف فتيات شابات لا ينزلن الشارع سوى بصحبة إخوتهن أو آبائهن.. وهناك أطفال من الجنسين يتعرضون لجروح غائرة لا يتحدثون عنها، ولكنها تبقى فى نفوسهم ما هو أكثر من الندبات؛ جروح تنزف فى صمت وقد تقضى على شخصية طفل أو طفلة بسبب جملة واحدة قيلت له أو لها عن شكله أو شعره أو أنفه أو قصر قامته أو سمنته أو أى شىء قد لا يكون أصلاً ذا معنى.

«اللى انكسر، يتصلح!».. «اللى انكسر، ما يتصلحش».. الحقيقة أن بعض الكسور لا يمكن إصلاحها، ولكن حتى ما يتم إصلاحه يبقى أثر الجروح فيه كندبات قد يعالجها الزمن الطويل والخبرات الإيجابية، ولكنها أبدًا لا تختفى.

تتفوق اللغة العربية فى الإحساس بالكلمة (ندبة) إذ إن جذر الكلمة يتفق مع معنى آخر من معانى الألم والحزن ألا وهو اجترار الأحزان على الراحلين عن الحياة حتى إن أحباء الراحل يذكرونه وأخلاقه بحزن وألم فيما يسمى الندب.. وكأنهم يعبرون عما تركه فيهم رحيله من ندبات.

هذه الدعوة ليست للندب، بل للتفكير فى حل أمنى ومجتمعى واقعى لنهضة أخلاقية فى شارعنا المصرى.