الأربعاء 26 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
جريمة فى القطار

جريمة فى القطار

فى عربة الدرجة الأولى من قطار الشرق السريع الذى يعبر أوروبا، وفى أجواء شتوية قارسة البرودة مغطاة بالثلوج، تحكى أجاثا كريستى قصتها الشهيرة (جريمة فى قطار الشرق السريع).. تلك القصة التى تحولت إلى عدة أفلام ومسلسلات تليفزيونية وإذاعية، بل صارت لعبة كمبيوترية مؤخرًا، هى رواية تقترب من التسعين عامًا فى عمرها.



صدرت الرواية التى كتبتها كريستى عام 1934 واعتمدت على بعض الحوادث الحقيقية التى يبدو أنها قد أثرت كثيرًا فى نفس الكاتبة، مما جعلها تؤلف جريمة القطار للانتقام من مجرم – حتى لو كان انتقامًا خياليًا على الورق فقط.

ما دفعنى للبحث عن الأمر هو الفيلم الرائع الصادر عام 2017 والذى يجسد الرواية ببراعة شديدة.. تحكى الرواية باختصار عن مجموعة من المسافرين متعددى الجنسيات الأوروبية والأمريكية الذين تجمعهم عربة قطار فاخرة ويتصادف أن يسافر معهم (هريكيول بوارو) المحقق الشهير وبطل معظم روايات أجاثا كريستى.. أحد المسافرين تاجر تحف نادرة يقترب من بوارو ويطلب منه أن يحميه من أعداء إيطاليين كان قد باع لهم – على حد قوله – قطعًا ليست أصلية مدعيًا أنها أصلية، ولما اكتشفوا ذلك صاروا يهددونه.. يرفض بوارو المحقق المحترم هذا العرض المغرى جدًا ماليًا، ويقول صراحة للتاجر الميسور إنه لا يحمى المجرمين الغشاشين من أمثاله.. ويفترقان دون اتفاق.

فى بداية المساء تهاجم العواصف الثلجية القطار فيخرج عن مساره ويتعطل، ويتذمر الركاب حين يعلمون أنهم سيتوقفون حتى تأتيهم فى اليوم التالى مساعدة من أقرب محطة.. ثم أثناء الليل يتم قتل التاجر باثنتى عشرة طعنة بشكل وحشى، ويكتشف بوارو ورئيس عربة القطار تلك الجريمة البشعة.. وتبدأ التحقيقات مع كل راكب وراكبة على حدة ليكتشف المحقق الشهير أن التاجر الأمريكى المقتول كان قد ارتكب جريمة شنيعة منذ عدة سنوات فى أمريكا وهرب وغيّر هويته ولم يتم التعرف عليه.

الجريمة التى ارتكبها التاجر هى خطف طفلة صغيرة جدًا من مهدها ومطالبة أبيها الكولونيل الشهير بفدية، وبعد أن تم دفعها وجد الأب ابنته وقد قتلها المجرم، فانهارت الأم وفقدت جنينها الثانى وماتت.. وبعدها بفترة انتحر الأب المكلوم.. تلك الجريمة تشبه جريمة حقيقية قرأتها أجاثا كريستى عن أسرة تشبه كثيرًا أسرة الكولونيل وتم خطف ابنهم الطفل، وقتله المجرم بالرغم من أن الأب دفع الفدية.

هنا تتوقف الكاتبة كريستى وتتصور أن المجرم الذى هرب من العدالة يمكن أن تأتى هى به فى روايتها وتحاكمه بطريقتها وتقضى عليه بالموت الذى لم ينله القاتل الحقيقى.. بل تتصور له تلك الميتة الغاضبة الشرسة انتقامًا لقتل الطفل أو الطفلة البريئة وتدمير حياة عائلة بأكملها.

نعود لبوارو الذى يصل من خلال التحقيقات والملاحظات والاستنتاجات لنتيجة أقرب إلى الخيال.. ألا وهى أن كل من على متن العربة هم إما أقارب الكولونيل وزوجته أو أصدقاؤهما أو كانوا يعملون لديهما فى رعاية الابنة، أو أقارب الخادمة البريئة التى قررت النيابة أن تتهمها بخطف الابنة وكانت بريئة فانتحرت – وهذا أيضًا ما حدث فى القضية الحقيقية التى تأثرت بها كريستى.. اكتشف بوارو - بعد أن شك فى كل واحد على حدة - أن الجريمة حدثت بتدبير جدة الطفلة المقتولة وهى واحدة من ركاب العربة.. وأنها جمعتهم جميعًا وخططوا لقتل الرجل بسكين واحد وطعنات كثيرة كل واحد منهم طعنة!

ساق خيال كريستى قلمها.. تخيلت كمّ الغضب والحزن والقهر عند كل واحد قد ظُلم بسبب تلك الجريمة.. حتى أقارب الخادمة المظلومة.. استطاعت بروح الكاتب الحساسة أن تتخيل ألم كل منهم ورغبتهم فى استرجاع العدالة المنقوصة والحكم على القاتل وتنفيذ الحكم.. وصنعت لهم فرصة الانتقام أو استعادة العدالة – سمها كما يحلو لك – بأن أوقفت القطار ومنحتهم فرصة الانفراد بالمجرم.. ولكنها وضعت معهم محققها بوارو حتى  يكتشف الجريمة ويكتشف سببها ألا وهو الجريمة الأولى.

وبقى التحدى الأعظم أمام الكاتبة وبطلها.. فالعدالة تقتضى أن يسلم بوارو المجرمين للعقاب القضائى.. وأمانته فى حل اللغز تحتم عليه كشف ما وصل إليه وهو قد وصل للحقيقة بالفعل.. ولكن ما صنعوه هو شكل من أشكال عقاب المجرم، فهل هذه جريمة؟ أم إقرار العدالة؟ وهل نترك قاتل الطفلة بلا عقاب؟ أم نأخذ الثأر بأيدينا؟

أتخيل أن أجاثا كريستى نفسها كانت فى أزمة كبيرة وكانت تحاول إقناع بطلها الصارم حتى يتفهم ألمهم وحتى لا يسلمهم للشرطة.. لا أدرى الاختيار الصحيح فى تلك الحالة.. ولكن أجاثا كريستى انتصرت على بطلها، وبعد أن قال لهم إنه لا يستطيع إخفاء الحقيقة، تراجع مودعًا إياهم بأنه سيتركهم ربما يجدون السلام لنفوسهم المتعبة، وأخفى الحقيقة عن السلطات مدعيًا أن القاتل قد هرب.. 

واحدة من الاختيارات الصعبة فى الحياة: بوارو يخاطب نفسه بأنها المرة الأولى التى يترك قلبه يتحكم فى قراره ويسكت عقله قليلاً.. ترى هل كان مصيبًا؟