الأربعاء 26 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
ثقافة التخلى

ثقافة التخلى

لا أدرى السببَ الرئيسىَّ وراءَ رذيلة التمسُّك بالأشياء.. وكيف صرنا.. معظمنا لا نريد أن نتخلى عن أبسط الأشياء التى نمتلكها حتى ولو كانت بلا قيمة ولا فائدة لنا على الإطلاق.



 

فى بعض المجتمعات الأوروبية التى عانت ويلات حربَين عالميتين قاسيتين أفقدتا الناس كل شىء، صار المواطنون يتمسكون بكل الأشياء ويخزنون أطعمة حتى تفسد ويكوّمون الملابس التى لم يعودوا يستخدمونها حتى لا تتبقى فى بيوتهم أماكن للحياة والحركة بسبب أكوام الأشياء البالية.. واستمرت تلك الرذيلة مع الذين عاصروا الحروب حتى بعد انتهاء الحروب تمامًا.

 

أمّا نحن فلا يوجد سببٌ واضحٌ يجعلنا نتمسك بالأشياء: ملابسنا القديمة، أوراقنا القديمة، قطع أثاث لا نستخدمها، أكياس المحلات، برطمانات المربَّى الفارغة، لعب أطفالنا بعدما كبروا، وأقلامنا القديمة وألواننا القديمة وقصص الأطفال ومجلات ميكى القديمة.. والكثير والكثير من الأشياء التى لا نستخدمها!

 

فى هذا العصر الجديد، عصر العالم الافتراضى وتخزين كل شىء فى الفضاء الإلكترونى، صار الغربُ يعيش حياة minimalistic.. أى الحياة بأقل أشياء ممكنة.. ولأن كل معلوماتك وكتبك وقصاصات أفكارك وموسوعاتك صارت مخزونة فى عالم الإنترنت، وهكذا أيضًا اتصالاتك وأجهزة الإعلام كلها من صحافة ومحطات تليفزيون وسينما وتليفون وبريد وكل أنواع الرسائل صارت على موبايل صغير؛ فقد استغنى العالمُ عن كثير من أشيائه المخزونة.. وقد يتم الاستغناءُ أيضًا عن السيارات، وعن ملابس العمل والتنزّه الكثيرة المتنوعة، ويكتفى بملابس النوم والبيت فى حياة أثناءَ وما بَعد «كورونا».. إذ سيتم حبسُنا فى بيوتنا ونؤدى مَظاهر الحياة من خلال الشاشات. بدأ الغربُ منذ نحو نصف قرن، أى منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى فى إشاعة ثقافة التخلى.. إذا اشتريت قطعة أثاث جديدة فى بيتك، تتخلى عن القديمة.. ويأخذها دون مقابل شخصٌ فقيرٌ ليس فى إمكانه أن يشترى أثاثًا مكلفًا.. إذا كبر أبناؤك تعرض ألعابهم الطفولية فى حديقة منزلك للجيران ولكل من يود اقتناءَها لأطفاله.. ربما يكون ميسور الحال ولكن لا داعٍ للاستهلاك والشراء مادام جاره تخلى واستغنى عن تلك الأشياء.

 

وصارت تجارة الملابس والأثاث والألعاب المستعمَلة تجارة رائجة جدّا حتى إن تلك الأشياء تُباع بأسعار زهيدة «أون لاين» أيضًا.. ومما زادَ من تشجيع هذه الفكرة كمّ التلوث الذى ينتج عن صناعات الملابس والأثاث وغيرها، مما يضر العالمَ كله ويجعل منظمات الحفاظ على البيئة تشجع إعادة استخدام الأشياء بدلًا من تصنيع أشياء جديدة.. وكأننا نعيد تدوير كل ما يمكن إعادة تدويره.

 

قد لا ينظر العالمُ لإعادة استخدام الأشياء على أنه تكافل اجتماعى أيضًا، ولكنه فى الحقيقة من أفضل صور التكافيل الاجتماعى أيضًا بالإضافة لكونه نافعًا للبيئة، وأيضًا نافعًا نفسيّا وحياتيّا لمَن يتخلى ولمَن يقبل الأشياء القديمة أو المستعمَلة قبلاً.

 

أعرفُ أن بعضًا من أشيائنا جميعًا يرتبط بذكرَى أو بشخص أو بفترة من حياتنا مما يصعّب أمر التخلى.. وربما يكون سبب التمسك بالأشياء هو دوافع وجدانية صرفة.. ولا علاقة للبُخل أو الحرص أو حُب التملك علاقة بالتمسك بأشياء محددة.. ولكن ضرورات العصر تجبرنا على أن نسعى جاهدين لاقتناء فضيلة التخلى عن الأشياء-  لا التخلى عن الناس.. وترك ما لا قيمة له على الأقل فى البداية حتى نتعلم أن نترك الأشياء ذات القيمة حين لا نستخدمها فى حياتنا، ربما ينتفع بها آخر.. وينبغى أن نسعى للتخلى عن حب الاقتناء وعادة التخزين ونفرغ بيوتنا وأدراجنا من الأشياء ربما عندئذٍ تخلو قلوبُنا وتتسع للبَشر.