الأحد 25 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي

فقه الدولة دراسة "9"

تعرضت الحلقة السابقة من الدراسة لما أطلقنا عليه: الحماية القانونية لمبادئ الشريعة الإسلامية فى تشريعات «الدولة المدنية»  المصرية.. وخلصت الحلقة الثامنة إلى أن القانون كمفهوم كان أحد المبادئ التى أكد عليها الإسلام .. إذ كانت ملامح «دولة القانون» واضحة فى الممارسات الإسلامية، انطلاقًا من البيعات والمعاهدات التى عقدها بنو الإسلام، بشكل مبكر. 



وإن كان الإسلام (المبكر) لم يعرف الديمقراطية كمصطلح، إلا أن قيمة هذا المفهوم تتمثل بشكل ملحوظ فى مفهوم الشورى التى قررها الإسلام كمبدأ، من دون أن يفرض الدين الخاتم كيفية محددة لتطبيقها، إذ ترك الأمر فى تحديد تلك الكيفية للعقل البشرى. 

وفى الدساتير المصرية الحديثة، التى أعقبت ثورة 30يونيو، يمكننا أن نلحظ تأكيدات متنوعة على «مدنية الدولة»، التى تمثل جوهر تعاليم الإسلام؛ إذ تقيد تلك الدولة ممارسة أى نشاط سياسى على أساس دينى (طائفى).. وبالتالى.. ألزمت مواد  الدستور الدولة بالحفاظ على الهوية الثقافية المصرية بروافدها الحضارية المتنوعة. 

 وانطلاقًا  من العام (الدستور)  إلى الخاص (التشريعات)، تتعرض الحلقة الحالية إلى الجوانب التطبيقية من القوانين المصرية لمفهوم مبادئ الشريعة، ومدى تطابقها والواقع التشريعى الراهن. 

روزاليوسف

 

1 - قوانين الأحوال الشخصية والمواريث: 

 

أحكام هذه القوانين جميعًا مأخوذة مباشرة من الأحكام التشريعية الخاصة لهذه المسائل فى القرآن الكريم، ومن مذاهب الفقه المختلفة. 

 غير أنه يجدر بشأنها بيان بعض  الأمور الأساسية: 

 أولًا: فأحكام هذه المسائل- وغيرها من الأحكام لم تنزل فى القرآن مرة واحدة وإنما كان الحكم ينزل إذا، وجد سبب له، وبمعنى آخر كان الحكم ينزل عندما تحدث واقعة تستدعى وجود حكم لها، فإذا لم يوجد من الواقع على عهد النبى وفى فترة التنزيل لم ينزل بشأنه حكم وإنما ترك لاجتهاد الأمة، وقد اجتهد المُشَرع  المصرى فى بعض ما اقتضى حُكمًا جديدًا. ومن جانبه آخر؛ فإن الأحكام  كانت تتغير بتغير  الأسلوب أو بتبدل الوقائع بحيث ينسخ (يلغى) الحُكمُ اللاحقُ الحُكمَ السابقَ. 

 وعلى سبيل المثال فقد كان التوريث فى البداية يقوم على الوصية، أى كان من حق كل شخص أن يحدد اشخاصًا أو أنصبة من يرى ترك ميراثه لهم (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (سورة البقرة- الآية 180)، ثم  حدث أن وقعت واقعة معينة فأدت إلى تنزيل جديد، فقد توفى شخص عن ابنتين وأخ فعمد الأخ وقبض كل التركة ولم يدع شيئا للابنتين، فذهبت أمهما إلى  النبى وذكرت له القصة ثم أضافت: إن النساء إنما تنكح (أى تتزوج) على المال. ولمّا عاودت الشكوى  نزلت الآية التى تحدد الأنصبة (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) «(النساء- الآية 11).

وقد ظل التنزيل يتوالى كلما حدثت واقعة أو جد سبب إلى ما قبل وفاة النبى فبعد حجة الوداع ونزول  الآية الكريمة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة - الآية3).

حدث أن سُئل النبى فى مسألة فنزلت آية (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النساء- الآية 176)، ومؤدّى ذلك أن أحكام الشريعة لم تتوقف فى شأن المواريث- ولا غيرها- وأنها كانت تنزل لأسباب تنشأ أو لوقائع تحدث أو ما لم ينشأ له سبب وقت التنزيل أو تحدث له واقعة لم ينزل بشأنه حكم، وهو متروك أمره للأمة تجتهد فيه بالحكم المناسب. 

ثانيًا: إن الشريعة حرصت فى مسائل الأحوال الشخصية والميراث على أن تؤكد على أهم أصل من أصولها العامة، وهو الأصل الذى يفيد أن تطبيق الأحكام تطبيقا سليما منوط بوجود مجتمع صالح ومشروط بالركون  إلى ضمائر الناس  الحية وذممهم التقية. 

 (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)، (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ  ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا)، (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة- الآية 237).

وبعد بيان الطلاق (فى سورة الطلاق)أكدت الآية (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)، وبَعد بيان آيات الميراث (فى سورة النساء) أكدت الآية (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)، (النساء- الآيتان 13 و14). 

إن مسائل الزوجية والبنوة وما يتصل بهما من عقد زواج أو طلاق أو وصية أو ميراث مسائل تتدخل فيها العاطفة البشرية أكثر مما يحكمها منطق العدل، ولما كان للعاطفة جنوح للعطاء الزائد أو المنع المطلق فقد ركنت الشريعة إلى الضمائر والذمم كى يكون المنحُ والمنعُ ضمْنَ حدود الله،  أى فى نطاق  العدل،  ثم أمرت بالفصل؛ حيث يعطى الإنسان الحق ويزيد عليه من عنده، ولا يمكن أن يقع العدل أو يحدث الفضل إلّا من نفس سَمَتْ بالدين وتجرّدت بالتقوى حتى تعرف الحق خالصا فتعطيه ولو كرهت، وتعرف الفضل زائدا فتمنحه على سماح.

ثالثا: إن المُشَرع المصرى عندما كان يلجأ للفقه الإسلامى كان يأخذ بمذهب ويترك باقى المذاهب أو يتخير رأيًا ويطرح باقى الآراء أو ينتقى اجتهادًا ويدع باقى الاجتهادات، وذكر أمر طبيعى، فمن غير المعقول أن يأخذ المُشَرع بكل المذاهب أو الآراء أو الاجتهادات فى مسألة واحدة، إن الفقه الإسلامى مذاهب متعددة وآراء مختلفة واجتهادات متباينة قد تتعارض أو تتناقض أو تتصادم، ومن ثم فإنه من المستحيل الأخذ بها جميعًا فى كل مسألة، وإنما البديهى  أن يحدث منها انتقاء للرأى أو الحكم أو الاجتهاد الذى يتناسب مع ظروف المجتمع وواقع الحال وطبائع العصر .

وفى ذلك تقول المذكرة الإيضاحية للقانون رقم 52 لسنة 1929 (بأحكام الفقه وبعض مسائل الأحوال الشخصية) الصادر فى 12يوليو سنة 1929م «فكرت الوزارة فى تضييق دائرة الطلاق بما يتفق مع أصول الدين وقواعده ويوافق الأئمة  وأهل الفقه فيه، ولو من غير أهل المذاهب الأربعة؛ خصوصًا إذا كان الأخذ بأقوالهم  يؤدى إلى جلب صالح عام أو رفع ضرر بناءً على ما هو الحق من آراء علماء أصول الفقه». وتضيف المذكرة إنه «من السياسة الشرعية أن يفتح للجمهور باب الرحمة من الشريعة نفسها، وأن يرجع إلى آراء العلماء لتعالج الأمراض الاجتماعية كلما استعصى مرض منها حتى يشعر الناس بأن فى الشريعة مخرجًا من الضيق وفرجًا من الشدة».

وعلى سبيل المثال، فمن رأى أبى حنيفة أن الطلاق المعلق قبل الزواج إذا علق على الزواج نفسه فإنه يقع. وهذا رأى يؤدى إلى العنت وإلى فصم عُرى الزواج فور وقوعه، وقد أخذ القانون المصرى  فى حكم الطلاق المعلق على شرط- مثل الشرط السابق وغيره بآراء أخرى هى آراء على بن أبى طالب وشريح وعطاء والحَكَم بن عتبة وداوود وأصحابه.

وليس فى مذهب أبى حنيفة ما يمكن الزوجة من التخلص من الزوجية بالتطليق (بحكم المحكمة) إن هو ألحق بها الإيذاء وأرهقها بالضرب. وقد أخذ المُشَرع المصرى بمذهب مالك فى جواز تطليق الزوجة من زوجها إن هو أضر بها وأذاها، وليس فى مذهب أبى حنيفة كذلك ما يجيز تطليق الزوجة على الغائب  الذى يترك زوجه لمدة تزيد على سنة، وقد أخذ المُشَرع بمذهب مالك فى جواز مثل هذا التطليق .

رابعًا: إنَّ عقد الزواج  فى شريعة  الإسلام هو عقد مدنى وليس عقدًا دينيّا، كما هو الشأن بالنسبة لعقد الزواج فى الشريعة المسيحية، ويعنى ذلك أن عقد الزواج ينعقد فى شريعة الإسلام بقبول وإيجاب من الزوجين البالغين- أو من ينوب عنهما- ويصح بحضور الشاهدين، دون أى إجراء آخر دينى أو شكلى، وحتى الزواج الفاسد (دون شاهدَيْن) تترتب عليه بعض النتائج (مثل ثبوت النّسَب)، ومع هذه القاعدة الواضحة التى لا خلاف بشأنها على الإطلاق؛ فإن الفكر الدينى فى الإسلام وتقاليد المجتمعات أضفت على العَقد مسحة  دينية، فألزمت نفسها بما لا يلزم وفرضت من عندها ما ليس مفروضا.. ومن ذلك أن جعلت من عقد الزواج ومن آثاره ونتائجه أحكامًا دينية، غير أن الشريعة لم تقصد أن يكون العَقد دينيّا، وإنما قصدت إلى استئثاره روح الدين  فيمن يطبق العَقد. 

 ومعنى أن العَقد مدنى أنه يجوز تعديل أحكامه طبقًا لاتفاق طرفيه، كأن يكون للزوجة حق الطلاق (العصمة فى يدها)، أو يكون هذا الحق لشخص ثالث  أو يكون للحاكم فقط (مَن فى يده عقدة النكاح)، فالطلاق والنفقة وثبوت النسب من إعمال  وليس إعمال الله، هى أفعاله مدنية وليست دينية بحال .

خامسًا: إن أحكام عقد الزواج والطلاق مما ينطبق عليه الأصل العام من أصول الشريعة الذى يقضى بترتيب  الأحكام على أسبابها، وبتغير الأحكام، تغيرت الأسباب الداعية لذلك، وقد طبق هذا المبدأ والمجتمع الإسلامى لم يكد يرى من التطور إلّا قليلًا فلم يحدث له ما حدث من تغير فى الوقت الحالى، ولا حدث لأبنائه ما حدث  بعد ذلك من تحريف الضمائر والذمم، ذلك أن الطلاق فى الأصل عند أهل الجاهلية وأهل الإسلام كان بغير نهاية تبين بالانتهاء إليها الزوجة طالما راجعها الزوج فى عدتها، وحدث أن رجلا قال لامرأته على عهد النبى: «لا أويك ولا أدعك  تحلين، قالت: كيف ذلك ؟ قال: أطلقك فإذا  دنى مضى عدتك راجعتك فمتى تحلين لغيرى ؟، فذهبت إلى النبى وقصت عليه ما حدث فنزلت الآية: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) فاستقبل الناس هذا الحُكم جديدًا من كان منهم ومن لم يكن طلق (أى أخذوا بالقاعدة القانونية الخاصة بعدم رجعية القوانين: عدم نفاذها على وقائع حدثت قبلها)، كانوا يراجعون الزوجة مرتين، ثم يصبح الطلاق فى المرة الثالثة طلاقًا بائنًا، لا يجوز الرجوع فيه من جانب الزوج وحده. 

وفى عهد عمر رقّ إسلام الناس ومالت قلوبهم إلى الدنيا فكانوا يسارعون إلى طلاق نسائهم (من العرب) مبالغة فى إرضاء من شغفت قلوبهم بهن من سبايا الفرس والشام، وكانوا يذكرون الطلاق الثلاث فى كلمة (أنت، أو زوجتى طالق ثلاثا)، وأدّى ذلك إلى العبث بالطلاق الثلاث استهتارًا وإضرارًا، فإذا بعمر بن الخطاب يفتى بإمضاء طلاق الثلاث بكلمة واحدة كأنه ثلاث طلقات متفرقات، أى أن الزوجة تبين من زوجها متى طلقها ولو للمرة الأولى  طلاقًا  مقترنًا  بلفظ الثلاث، وقال عمر فى ذلك، إن الناس استحلوا فى أمر كانت لهم فيه أناه، فلو أمضيناه عليهم»، قصد بهذا أن فتواه أو حكمه الجديد سوف يجعل الشخص حذرًا أن ينطق بلفظ  الطلاق مقترنًا بالثلاث حتى لا تبين منه زوجه فلا يستطيع مراجعتها إلا بشروط صعبة، وقد ظل حُكم عمر فى جعل الطلاق المقترن بلفظ الثلاث ثلاث  طلقات سائدا فى مصر حتى صدور المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 فنص فى المادة الثالثة منه على أن: «الطلاق المقترن  بعدد لفظا أو إشارة لا يقع إلا  لواحدة».

  سادسًا: إن تطبيقات المواريث كأحكام عَقد الزواج- أحكام مدنية، وأحكام المواريث شأن كل أحكام الشريعة كانت تنزل على الأسباب، وعندما تقع حوادث تقتضى وجود حكم يناسبها، وأسباب نزول أحكام المواريث لم تتسع لكل حادث ولم تشمل ما لم تكن الحياة قد أسفرت عنه، وبذلك ظل التنزيل بالنسبة للمواريث بالذات مستمرًا ما  استمرت أحداث تستوجبه وتستنزله. وقد حدث فى عهد عمر بن الخطاب أن وقعت مسألة لم يكن عليها نص فى كتاب أو فى سُنّة / تلك هى المسألة المعروفة بالمسألة العمرية، فقد قسمت تركة فأصاب الأخ الموروث لأمّه فرضه، ولم يبقَ لأخى الموروث الشقيق ما يرثه، فلما رفع الأمر أفتى (أى حَكم) بأن الأخ الشقيق أخ لأمّ وأخ لأب معًا، فليس من الإنصاف أن يحرم لأنه شقيق، وورّثه  من التركة على أنه أخ لأم يشترك مع غيره من الأخوة  لأم. 

وفى العصر الحديث لوحظ مسألة كانت تؤدى إلى نتائج متناقضة  يأباها العدل وتلفظها التقوى، فقد يحدث أن ينجب رجل ثرى ولدين ثم يزوجهما فينجبان  معًا  حال حياته، ثم يموت أحدهما تراكا أولاده، فبعد موت جدهم يرث العم كل التركة تعصيبًا، ولا يكون لهؤلاء الأولاد أى نصيب من التركة، ويورث الوارث أولاده، فإذا بالأولاد أثرياء موسورون وأولاد عمهم فقراء بائسون، ولا سبب فى ذلك إلا القدر الذى توفى والد هؤلاء وترك والد أولئك، مثل هذه المسألة لم تعرض فى حياة النبي، وإلا كان قد نزل فيها حُكم؛ لأن الشريعة تأبَى الظلم وتنهى عنه، ولا عرضت أيام الصحابة الأول، وإلا كانوا قد اجتهدوا بحُكم لا يخافون فيه لومًا ولا تجريحًا، ولمّا لوحظت آثارها السيئة اجتهد المُشَرع المصرى فنص فى المادة (76) من القانون  رقم 71 لسنة 1946 بما سماه الوصية الواجبة، فافترض فى المَثل السالف أن الجد قد أوصى لأحفاده الذين مات والدهم حال حياته بثلث تركته، وجعل نفاذ هذه الوصية واجبًا فى التركة. 

وقد تعلق المُشَرع المصرى فى تقرير  هذا الحُكم ببعض نصوص القرآن الكريم، وآراء بعض فقهاء التابعين، ورأى لابن حزم الأندلسى (أى أن الاجتهاد فى نظر المُشَرع لا يجوز أن يكون ابتداءً، بل لا بُد، أن يرد إلى رأى سابق لو كان لفقيه تابع أو لرجل شُهر بالأدب).

سابعًا: إن المُشَرع المصرى لم يقنن كل أحكام الشريعة فى بعض المسائل مثل زواج المتعة والتسرى بالإماء، ويعنى عدم تقنين المُشَرع المصرى لأحكام هذين النظامين  أن أحكام الشريعة أو الفقه التى تنظمها ليست واجبة التقنين طالما أن النظامين أصبحا غير قائمين، وهو ما يمكن أن يكون قاعدة بالنسبة لكل نظام يتخلف عن الظروف فلم يعد من الممكن تطبيقه .

 

2 - القوانين المدنية: 

 

جاء فى الأعمال التحضيرية للقانون المدنى المصرى النافذ اعتبارًا من 15أكتوبر 1954 «إن أكثر أحكامه يمكن تخريجها على أحكام الشريعة الإسلامية فى مذاهبها المختلفة دون عناء». وواضح أن المُشَرع يعنى بأحكام الشريعة الإسلامية أحكام الفقه الإسلامى؛ لأن أحكام الشريعة هى بغير مذاهب، أما المذاهب فهى الفقه، اختلفت وتعددت وتباينت، فالآيات الخاصة بالطلاق أو المواريث- على سبيل المثال- واضحة ومحددة فى القرآن الكريم، غير أن فهم الفقهاء لها اختلف من واحد لآخر ومن مدينة لمدينة ومن عصر لعصر/ وكذلك اختلفت التطبيقات، ومن هذا الاختلاف نشأت المذاهب وتعددت. 

 وعندما يقرر المُشَرع المصرى أن أكثر أحكام القانون المدنى يمكن تخريجه على الفقه الإسلامى فى مذاهبه المختلفة، فهو يقرر واقعًا تثبته المقارنة، فالفقه الإسلامى مذاهب مختلفة متباينة متعددة، تشمل جميع الآراء والأحكام والاجتهادات فى كل فرع وفى شتى الاتجاهات، بحيث يمكن  دائمًا تخريج أى نص من هذا الفقه، كما يمكن إيجاد سَند للرأى ونقيضه، وللحُكم وعكسه، وللاجتهاد ونقده. 

هذا الحال يمكن أن يعد ميزة للفقه الإسلامي، إذ هى تجعله عامّا شاملًا يواكب الظروفَ ويلائم الأوضاعَ المتجددة، غير أنه يمكن من جانب آخر- تحت مظلته وضمن أحكامه- تسويغ  أى رأى وتخريج أى نص وتبرير كل وضع، فالمُشَرع المصرى- إذن- عندما يقرر أن أكثر أحكام القانون المدنى يمكن تخريجه على أحكام الفقه الإسلامى، يكون قد أصاب كبد الحقيقة، فالقرآن الكريم لم يتضمن أحكامًا عن المعاملات المدنية فيما عدا مسألة الربا، وإثبات الديون، وكل ما يعالج المعاملات المدنية ورد فى كتب الفقه وآراء الفقهاء. 

وفى الواقع فإنَّ أى تغيير للتقنين المدنى تحت شعار تقنين الشريعة، لن يكون  إلا إعادة صياغة لبعض المواد واستبدالها لألفاظ بألفاظ، أو تعديلًا  فى التبويب أو تغييرًا فى الترتيب، ولن يكون تعديلًا حقيقيّا  فى الأحكام والقواعد، والتعديلات اللفظية التى تستهدف إبدال ألفاظ وعبارات من الفقه الإسلامى بألفاظ وعبارات فى القانون  المدنى وهى غاية قاصرة لا تساوى الجهد المبذول من أجلها، هذا مع احتمال أن تؤدى مثل هذه الصياغة إلى صبغ القانون بصبغة العصر الذى ازدهر فيه الفقه الإسلامى، فيما قبل القرن الرابع الهجرى والحادى عشر الميلادى، أو أن تعطى ذريعة للبعض يدعى بها حق فئة بذاتها أو جماعة دون غيرها فى أن تكون وحدها المحيطة بمعانى ألفاظه ودلالات استعماله. 

ولا ينبغى أن يقال فى تبرير أى تعديل للقانون المدنى أن ذلك يحدث بقصد العودة إلى التراث المصرى والعربى  والإسلامى؛ لأن هذا القانون مأخوذ عن القانون الفرنسى، لا ينبغى أن يقال ذلك، فالقانون الفرنسى والقانون الرومانى يتضمنان تقنيّا لأغلب أعراف وعوائد وتقاليد العالم القديم فى أوروبا والشرق الأوسط؛ خصوصًا أن الطبيعة البشرية واحدة وأسلوب التعامل الاجتماعى متقارب، ولذلك فإن القواعد القانونية تكاد تكون واحدة فى جميع النظم القانونية سواء كانت لاتينية (رومانية أو فرنسية أو إيطالية.. إلخ) أو أنجلوسكسونية  (فى إنجلترا أو فى الولايات المتحدة)، أو فى الفقه الإسلامى، والاختلاف إنما يكون فى التطبيقات أو مجرد اختلاف جزئى نتيجة تغير بعض الظروف المكانية  أو الزمانية. 

ولقد أخذ المُشَرع المصرى القانون المدنى الفرنسى وعرَّبه؛ لأنه وجد فيه كل القواعد القانونية  التى توافق الطبيعة الاجتماعية المصرية ولا تنافى أى قاعدة فى الفقه الإسلامى  الذى لم يكن  مُقننًا أو مُرَتبًا، أو مفهرسًا، ومنذ سنة 1883م طبق القانون المدنى وغيره فى مصر، ومن خلال التطبيق قدمت المحاكم وآراء الفقه  تراثًا ضخمًا شاملًا ومفصلًا وواضحًا، لا يقل فى ذلك عن الفقه الإسلامي، ولقد أصبح هذا التراث هو أحدث تراث مصرى وعربى وإسلامى، والأقرب إلى روح التعامل العصرى وأسلوب الفهم الحديث، بل لقد حدث من فرط تشابه وتداخل هذا التراث  مع الفقه الإسلامى أن قامت دول عربية متعددة بنقل التقنين المدنى المصرى دون تغيير- أو تغيير طفيف تقتضيه ظروف الحال- وطبقته فى بلادها.

 وعلى ما سلف فإنَّ القرآن لم يتضمن فى المعاملات المدنية إلى آيات فى مسألة الربا ومسألة إثبات الديون، وإذا كانت هذه المسألة الأخيرة تدخل فى مبحث الإجراءات، فإنه  يمكن القول تأكيدًا أن القانون المصرى موافق لأحكام الشريعة الإسلامية، بمعنى الأحكام التى تنظم المعاملات فى القرآن الكريم أو أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم، وبمعنى الفقه الإسلامى، ويقتضى ذلك بحث مسألتين فقط: نظام الفوائد على الديون  المقرر فى القانون المدنى المصرى «والقانون التجاري» والذى يرى فيه البعض ربا، وعقد التأمين الذى يرى فيه البعض عقد غرر نيا فى روح الإسلام .