الأحد 16 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
بين الزمن والفرصة

بين الزمن والفرصة

كرونوس هو إله الزمن عند اليونانيين القدماء.. ويظهر كرونوس «Chronos» فى التماثيل واللوحات اليونانية القديمة كرجل عجوز منحنى الظهر يلتهم ما للبشر من أشياء ومهارات وقدرات شيئًا فشيئًا إلى أن يلتهم الإنسان نفسه بعد أن يجرده من كل ما يمتلك..



 

وهو تشبيه حى للزمن بدقائقه وساعاته وأيامه وتكوينه الذى عرفه الإنسان منذ الدهر.. الزمن الذى يقهر قدرات البشر ويفوز فى صراعهم معه فى النهاية.. ومن المعروف أن كلمة «Chronology» أو الترتيب الزمنى بين الماضى بأزمنته وعصوره وصولًا إلى الحاضر هى فى أصلها تعود إلى الكلمة اليونانية كرونوس أو الاسم الذى يدعى به إله الزمن..

 

ولكن اليونانيين القدماء رأوا أن للزمن وجهًا آخر أجمل كثيرًا من وجه كرونوس الملتهم البغيض.. إنه كايروس «Kairos».. إذا كان كرونوس هو الزمن بمقياسٍ كمّي، فإن كايروس هو الزمن بمقياسٍ نوعي، بمقياس كيف، بمقياس الفرصة.. فى كايروس لا يهم أن يكون الزمن ساعة أو دقيقة أو حتى لحظة!! المهم هو نوع تلك اللحظة وما تحمله لك من فرصة وكيف تقضى تلك اللحظة!!

 

كايروس فى التماثيل القديمة شاب جميل حلو المنظر.. ولكن شعره عجيب جدًا.. فإن له خصلة شعر طويلة تتدلى على وجهه الجميل أما رأسه من الخلف فهى صلعاء تمامًا.. وغالبًا ما تصحب تماثيله عبارات تصفه فى شكل سؤال وجواب:

 

من أنت؟ أنا الزمن الذى لا يقف شيء فى وجهه.

 

لماذا تقف على أطراف أصابعك؟ لأننى أجرى وأجرى ولا أقف.

 

ولماذا توجد أجنحة فى قدميك؟ لأننى أطير مع الريح.

 

ولماذا تمسك بموسى فى يدك اليمنى؟ ليعرف الإنسان الذى يرانى أننى أكثر حدة من أى سلاح حاد..

 

ولماذا تلك الخصلة التى تتدلى على وجهك؟ حتى إذا ما رآنى الإنسان الذكى جذبنى منها قبل أن أطير.

 

لكن لماذا بحق السماء لا يوجد شعر فى رأسك من الخلف؟ لأننى إذا عبرت الإنسان ولم يكن قد جذبنى فقد انتهت فرصته ومهما جرى ورائى لن يجد ما يجذبنى منه.

 

ولماذا نحت الفنان شكلك؟ حتى ما ترى أيها الإنسان وتتعلم.

 

هكذا يحكى كايروس عن نفسه.. 

 

كايروس هو تلك النقطة من الزمن التى يستطيع الإنسان أن يتحكم فيها.. هى الفرصة التى قد تحول مصيره وتغير حياته للأفضل أو للأسوأ.. هى لحظة السعادة التى قد تمر أمام عينيه ولا يستغلها.. هى فرصة وقت راحة من طاحونة الحياة قد لا يأتى مرة ثانية وبدلًا من أن ينعم فيه الإنسان، يضجر ويمل ويترك كايروس يمر من أمامه فلا يجتذبه ويستغل ظهوره.. 

 

قد يكون كايروس هو ساعة من الزمن تفرح فيها من قلبك وتنسى فيها متاعبك ولا تنظر فيها إلى ساعتك ولا تهتم فيها بما فاتك من جدول حياتك اليومى المزدحم الذى تتصارع فيه مع كرونوس لإتمام مهام لا تساوى شيئًا وبخاصة حين يهزمك كرونوس فى النهاية.. أما إذا اهتممت بتلك الساعة ولم تفلت الفرصة من يدك فقد هزمت كرونوس – ولو مؤقتًا..

 

كايروس يمثل أيضًا ما ندعوه بالوقت المناسب أو اللحظة المواتية.. والحكيم هو الذى يفهم كايروس.. وهو الذى يعرف أن لكل شيء تحت السماء وقت.. فلا يتعجل حدوث الأشياء كما لا يفوته زمن حدوثها المناسب.. يعرف متى يقدم حبًا ومتى يمنعه عن المحبوب ولو لحين.. يعرف متى يتحدث برفق، ومتى يتحدث بحزم.. يعرف متى ينال قسطًا من الراحة المدفوعة الأجر، ويمارس هواياته المنسية، ويقرأ كتبه التى سكن عليها التراب، ويسكن لنفسه ويتأمل حياته حين يمنحه كايروس لحظة الكورونا..

 

نعم.. هى لحظة.. تبدو الآن أيامًا وأسابيع طويلة.. وكأن كايروس ما زال أمامنا بوجهه بخصلة شعره المتدلية التى تنتظر أن نجتذبها ونعيش اللحظة.. بكل ما فيها من توقف وثبات.. قد تبدو طويلة الآن مثلما تبدو دقائق الانتظار فى عيادة الطبيب وكأنها دهر.. ومثلما تبدو ساعة القطار عند الطفل الصغير دهرًا من الملل تخبو معه كل مناظر الطريق المبهجة وتضيع معه متعة الرحلة فى حد ذاتها مع أن محطة الوصول قد لا تكون بجمال الرحلة..

 

نعم هى تبدو دهرًا الآن.. ولكنها سويعات وسيجرى كايروس من أمامنا ولن نلحق به.. وسنظن أننا فى صراعنا اليومى مع زمننا العادى أفضل حالًا.. سنعود لأعمالنا ونشكر الله على عودتنا لروتين الحياة اليومى الظريف العظيم.. ثم بعد أسبوع واحد ومع عطلة نهاية الأسبوع الأول للعمل سندرك أننا لا نرى سوى قفا كايروس الذى لا يمكن الإمساك به.. وسنعود للنتيجة والساعة وحسابات الأيام والتواريخ وكرونوس الذى سيهزمنا فى النهاية دون أن نكون قد عشنا مرة أو مرتين بعضًا من كايروس.. مع أن حياة كل إنسان ليست بحساب سنوات العمر بين الميلاد والممات، لكن باللحظات التى عاشها الإنسان حقًا ونسى فيها حساب الوقت، بل وسرق فيها الوقت لنفسه..

 

ترى هل التشابه بين «كورونا» و«كرونوس» هو من قبيل الصدفة أم أننا موتى بكل الأحوال ما لم نمسك بلحظات الحياة الحقيقية التى يقدمها لنا كايروس من حين لآخر؟