الخميس 27 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

بعد التراجع الحاج فى اسعار النفط الامريكى السقوط الأخير لـ« البترو- دولار»!

تساؤلات عديدة ولّدها انهيار أسعار النفط فى سابقة تاريخية هى الأولى نوعها حول شكل عالم «ما بعد كوفيد 19»، فمع انتهاء مداولات الإثنين الماضى، بلغت أسعار العقود الآجلة لنفط غرب تكساس تسليم مستوى الـ37.63 دولار تحت الصفر للبرميل الواحد، وذلك بعد تدنيها إلى ما دون الـ40 دولارًا تحت الصفر فى وقت سابق من نفس اليوم، نتيجة زيادة المعروض.



 

تشير تلك المعطيات إلى أننا أمام تغير استراتيجى فى النظام النقدى العالمى الذى تأسس على قاعدة «البترو – دولار» فى سبعينيات القرن الماضى والتى تقوم على حصر بيع النفط بالعملة الأمريكية فقط، وبالتالى فإن فقدان النفط قيمته المالية بشكل كامل (وإن كان مؤقتًا)، يعنى بالضرورة انهيار سعر الدولار الأمريكى، وعدم صلاحيته لأن يكون عملة احتياط دولية. 

 



 

يرجع الكثيرون سبب انهيار أسعار الخام الأمريكى إلى المضاربات فى البورصة الأمريكية، فيما يعتبرها البعض أمرا منطقيا فى ظل تراجع الطلب بشكل كبير على النفط، نتيجة توقف دورة الحياة الاقتصادية تماما بسبب إجراءات التصدى لجائحة كورونا. 

 

تعددت أسباب الانهيار لكن النتيجة تبقى واحدة؛ وإن كانت على عكس التوقعات بعد اتفاق «أوبك بلس» على خفض الإنتاج بنحو 10 ملايين برميل يوميًا، ما أدى لتكهن البعض أننا قد نكون بصدد انتهاء عصر النفط، وانتهاء أسطورة السلعة الاستراتيجية التى تربعت على قمة الاقتصاد العالمى لأكثر من نصف قرن من الزمان. 

 



 

وخلال العشر سنوات الأخيرة، أعلنت الكثير من دول العالم عن رغبتها فى عدم الاعتماد على الدولار الأمريكى فى تجارتها الخارجية، نظرا لتهاوى عملاتها المحلية أمام العملة الخضراء نتيجة الضغوط الأمريكية خاصة الناجمة جراء فرض العقوبات الاقتصادية.

 

لذلك سعت بعض الدول، وعلى رأسها الصين وروسيا والمملكة العربية السعودية ومصر وتركيا وإيران، لعقد اتفاقيات للتبادل التجارى بعملاتها المحلية، وهى الاتفاقيات التى لم تنفذ إلا على نطاق ضيق حتى الآن.

 

 وأعلنت روسيا مرارا على لسان رئيسها فلاديمير بوتين أنها تريد التخلص من الاعتماد على الدولار الأمريكى فى التجارة لأسباب جيوسياسية واقتصادية، لذلك عقدت روسيا العديد من الاتفاقات الثنائية لإحلال العملات المحلية بدلا من الدولار فى التجارة الخارجية.

 

وبالفعل بدأت التجارة الثنائية بين روسيا وإيران تقوم على أساس المقايضة بدلًا عن الدولار للعديد من المنتجات منذ أواخر عام 2017، كما بدأت التجارة بين روسيا والصين تبتعد أيضًا عن الدولار، وتعد الصين حاليًا أكبر شريك اقتصادى لروسيا، حيث تبلغ حصتها 17 % من التجارة الخارجية لروسيا، وهو ضعف حصة ألمانيا، إذ يقدر حجم التجارة وتقوم الشركات والبنوك فى الدولتين منذ فترة طويلة بوضع الأسس لتكون مستقلة عن الدولار.

 

وأنشأت روسيا فى أواخر عام 2016 عقدًا مستقبليًا للنفط تم تداوله فى بورصة سانت بطرسبرغ، باستخدام سعر الروبل الخاص بها لتسعير العقود المستقبلية للنفط الروسى.

 

وفى عام 2017 بالفعل نقل 9 % من البضائع الروسية إلى الصين بالروبل. ودفعت الشركات الروسية 15 % من الواردات الصينية باليوان. ويتداول بالفعل أكثر من 170 بنكًا روسيًا اليوان فى بورصة موسكو. 

 



 

وبالعودة للتاريخ، ندرك الأهمية الاقتصادية لبرميل النفط فى النظام النقدى العالمى، حيث لم يكتسب الخام أهميته كونه سلعة ذات معدل طلب مرتفع وحسب، بل لأنها كانت بمثابة الغطاء السلعى للعملة الأمريكية المهيمنة على التجارة العالمية بديلا لغطاء الذهب.

 

فمنذ صدمة أسعار النفط عام 1973 فى أعقاب حرب أكتوبر، تحركت واشنطن لتضمن أن منظمة أوبك لن تبيع نفطها إلا بالدولار الأمريكى، وكان ذلك ضمانًا أن الطلب على العملة الأمريكية يمكن أن يكون مستقلًا بشكل أو بآخر عن الحالة الداخلية للاقتصاد الأمريكى أو الدين الحكومى أو العجز. 

 

وكان هذا النظام الذى أطلق عليه «هنرى كيسنجر» وآخرون فى ذلك الوقت «إعادة تدوير البترودولار» بمثابة دعامة حيوية لقدرة الولايات المتحدة العالمية على إبراز قوتها فى الوقت نفسه الذى سمح لشركاتها الكبرى بالابتعاد عن الضرائب والاستثمارات المحلية، ليحل هذا النظام محل قاعدة التحويل الدولى المباشر من الدولار الأمريكى إلى الذهب بعد أن ألغاها الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون فى عام 1971.

 



 

وعلى الجانب الآخر، كان التحرك الصينى لإنهاء هيمنة الدولار على سوق النقد العالمى يتميز بالعملية والسرعة والخطورة فى الوقت نفسه، نظرا للمكانة الاقتصادية والتجارية التى تتمتع بها بكين فى العالم، حيث إنها أصبحت أكبر دولة تجارية على مستوى العالم منذ عام 2014.

 

وكان أبرز ما قامت به الصين للتخلص من سيطرة العملة الخضراء ما حدث فى مارس من عام 2018 ، عندما أطلقت الصين عقدًا مستقبليًا يعتمد على شراء النفط باليوان الصينى، عبر إنشائها لبورصة شنغهاى للنفط.

 

وتعتبر اليوم العقود المستقبلية عنصرًا رئيسيًا فى تداول النفط العالمى، ليصبح أول عقد نفطى مستقبلى بغير العملة الأمريكية، ولعل الجهد الأمريكى لمنع إيران من مبيعات نفطها بالدولار أعطى دفعة كبيرة لمستقبل نفط «شنغهاى».

 

وأصبحت الصين هى أكبر مستهلك للنفط فى العالم متفوقة على الولايات المتحدة الأمريكية التى احتلت تلك المكانة لعقود طويلة، وأبرمت الصين اتفاقية مع المملكة العربية السعودية للتبادل التجارى بالعملة المحلية للبلدين فى عام 2017.

 

وبعدما أبرمت الصين اتفاقا مشابها مع روسيا عقب اكتساب عملتها اليوان صفة عملة الاحتياط الدولية من قبل صندوق النقد فى عام 2015، وهو ما يؤشر إلى أن الصين أرادت أن تحدث اختراقا فى نظام المعاملات المالية العالمية، بحيث لا تكون هذه السوق تحت سيطرة عملات محدودة كالدولار واليورو والين اليابانى والجنيه الإسترلينى.

 



 

على الرغم من صعوبة التنبؤ بخروج الولايات المتحدة الأمريكية بشكل حاسم من النظام المالى العالمى، غير أن كل المعطيات تشير إلى أن قاعدة «البيترو – دولار»، لم تعد تجدى نفعا فى ظل المتغيرات التى حدثت على الساحة الاقتصادية العالمية.

 

ولعل جائحة كورونا جاءت لتسرع الخطوات للتخلص من ذلك النظام الذى عفى عليه، ولعل ما قامت به الولايات المتحدة نفسها يعجل بذلك، فلم تكن الدولارات التى طبعها الفيدرالى الأمريكى مؤخرا لتمويل خطة التحفيز الأمريكية التى تبلغ 2.2  تريليون دولار، إلا أوراقا لن يكون لها غطاء سلعى بعدما بلغ سعر النفط فى الولايات المتحدة والعالم هذا المستوى.

 

لذلك فمن المتوقع أن تواجه أمريكا نفس المشكلة التى واجهتها فى سبيعينيات القرن الماضى حينما أصبحت غير قادرة على تحويل الدولارات التى تمتلكها دول العالم كاحتياط نقدى إلى الذهب وفق قاعدة بريتون آند ودز، وذلك بعدما أسرفت فى طباعة تلك الدولارات غير المغطاة نتيجة الحروب التى خاضتها فى فيتنام وغيرها، لذلك كان لازاما عليها أن تعيد تدوير تلك الدولارات عبر إيجاز شراء النفط بها.

 

ووفق الكثير من التوقعات، فلن يزيد سعر النفط إلا بعد عودة دورة الحياة إلى طبيعتها، بعد انتهاء الإقفال الناتج عن محاولات احتواء كورونا، ورغم أن اتفاق «أوبك بلس» يضمن خفض المعروض إلا أن تطبيقه يتضمن عدّة مراحل لخفض الإنتاج على مستويات، لن تنتهى إلا بحلول عام 2022 وهو ما يعنى أن الأزمة لن تنتهى قريبا.

 

ووفقا لخبيرة النفط والغاز اللبنانية، لورى هايتيان، فحتى إذا عادت الحياة إلى طبيعتها، سنحتاج وقتًا لنرى تغيرًا جذريًا فى أسعار النفط، لأنه سيكون علينا استخدام الإنتاج المكدس، وسنحتاج وقتًا كى نعود ببطء إلى سعر 30 أو 35 دولارًا للبرميل.

 

وأوضحت أنه لم يعد مفاجئًا أن نرى خلال الفترة المقبلة انهيار شركات إنتاج النفط الصخرى فى الولايات المتحدة، وسط هذا المستوى من تدنى الأسعار، بالإضافة إلى وقف الاستخراج فى معظم الدول المصدرة للنفط لحين انتعاش هذه السوق، مرجحة أن ذلك لن يحدث قبل وضع النظام المالى الجديد. 