السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الحكمة في الحكم!

الحكمة في الحكم!
الحكمة في الحكم!


في القصص القرآني تم الحديث عن أكثر من ملك من الرجال، لكن الملكة الوحيدة التي جاء ذكرها في القرآن الكريم هي ملكة سبأ، فقد حدثنا عن ملكها وحكمها، وما لها من الحكمة عند استشارتها لقومها عندما جاءتها رسالة النبي سليمان عليه السلام، ولكن الرجال أهل الشوري يفوضونها في التصرف، فعرضت عليهم اقتراحاً بإرسال بعثة بهدايا وانتظار نتائج هذا الاقتراح، فهي تفضل السلام وحل الموضوع بالطرق الودية لأنها تعرف أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة.

 
 
مدخل: تنسب الملكة بلقيس إلي الهدهاد بن شرحبيل، واختلفت المراجع التاريخية في تحديد اسمها ونسبها، كما أنه لا يوجد تاريخ لسنة ميلادها ووفاتها، وهي أول ملكة اتخذت من سبأ مقراً لحكمها، وجاءت قصتها في القرآن الكريم بدون أن يذكر اسمها في الآيات من 22 إلي 44 من سورة النمل ضمن أحداث قصة النبي سليمان عليه السلام.
مشهد 1 استطلاع: كان قوم بلقيس يعبدون الشمس ويسجدون لها وهذا ما رأه الهدهد الذي كان قد بعثه النبي سليمان ليبحث عن مورد للماء، حيث كان النبي سليمان يعلم لغة الطير: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْر..) النمل .16
وتبدأ قصة ملكة سبأ بعد عودة الهدهد بالأخبار: (.. أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين)، فقد وجد الهدهد في طريقه مملكة سبأ وعلم أحوالهم: (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)، فوجدهم تحكمهم امرأة لها ملك كبير ولكنه عاب عليهم عبادتهم الشمس: (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ).
وقد أراد تعالي أن يوضح لنا ألا نستصغر أي كائن، فالهدهد علم ما لم يعلمه النبي سليمان والذي أراد أن يري مدي صدق كلام الهدهد، وأرسل إلي بلقيس ملكة سبأ برسالة تدعوهم إلي طاعة الله ورسوله بأن يأتوه مسلمين خاضعين لحكمه وسلطانه.
مشهد 2 التشاور: وكانت رسالة سليمان للملكة تحمل الكثير من الاعتداد بالنفس، ومع ذلك فإن الملكة حين قرأت الرسالة استشارت وزراءها: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِي إِلَي كِتَابٌ كَرِيمٌ. إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَلاَّ تَعْلُوا عَلَي وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)، ومع أنها صاحبة النفوذ والتصرف فإنها عرضت الأمر علي وزرائها وقرأت الرسالة علي مسامعهم، وكانت من الذكاء بأن وصفت الرسالة بأنها كتاب كريم، في إشارة منها للوزراء حتي لا يأخذهم التكبر ويعتبروا الرسالة مهينة لهم فتنطلق منهم صيحات إعلان الحرب.
وتأتي الفتوي في القرآن الكريم بمعني طلب الرأي وليس لطلب الحكم الشرعي في الحلال والحرام، مثلما طلبت ملكة سبأ: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي..) النمل ,32 فالفتوي هنا تعني طلب الرأي لإيجاد الحل الأمثل للخروج من مشكلة لذلك فهي تحتاج إلي دراسة من المختصين، كذلك كان طلب ملك مصر: (.. يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي..) يوسف .43
كانت بلقيس من رجاحة العقل بحيث علمت من ألفاظ الرسالة أن سليمان ليس ملكاً عادياً، ومع ذلك كان رأي وزرائها: (قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ)، لذلك خالفت وزراءها الرأي عندما أشاروا عليها باللجوء إلي القوة: (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ).
ورأت أن ترسل إليه بهديةٍ لتعرف إن كان ملكاً عادياً فسوف تغريه الهدية وإن كان ملكاً نبياً فلن تغريه الهدية، ولتعرف أكثر عن ملكه وجنوده: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)، ولكن النبي سليمان رد عليهم بقوة منكرا صنيعهم ومتوعدا إياهم: (.. قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ. ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ).
عندها أيقنت بلقيس بقوة سليمان وعظمة سلطانه، فجمعت حرسها وجنودها واتجهت إلي الشام حيث مقر النبي سليمان عليه السلام.
مشهد 3 الإسلام: وكان عرش بلقيس موجودا في سبأ عندما تركتها وسافرت، إلا أن النبي سليمان عليه السلام أمر جنوده بأن يجلبوا له عرشها قبل أن تصل إليه: (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)، فتطوع أحد الجان بأن يأتيه به قبل نهاية اجتماع النبي سليمان بهم.
لكن أحد الموجودين كان يملك قدرة أكبر مما يملك الجان: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ..)، ثم أمرهم بتغيير معالم عرشها ليري إن كانت بالذكاء الذي يليق بمقامها: (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ).
وكان من ذكائها حين سألها عن عرشها: (فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ..)، فلم تؤكد أنه هو لعدم علمها بالقدرة التي يمكنها جلبه من مملكتها، كما أنها لم تنف ذلك لأنه يشبه عرشها.
وكان النبي سليمان قد أمر جنوده ببناء قصر من الزجاج علي الماء به قاعة طويلة تنتهي إلي عرشه: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ..)، وظنت بلقيس أنها ستمشي في الماء فكشفت عن ساقيها حتي لا يبتل ثوبها، ولما رأت ما أتاه الله تعالي لسليمان اعترفت بأنها كانت ظالمة لنفسها بعبادتها لغير الله: (.. قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
فلماذا أسلمت الغرض من إدخالها الصرح أن تعتقد أنها ستمر من فوق الماء لأن الزجاج كان شفافا لا يري، فكشفت عن ساقيها، فهنا قال لها سليمان عليه السلام إنه صرح ممرد من قوارير، ففهمت ملكة سبأ أنه ليس كل ما لا يُري غير موجود، فهي كانت تعبد الشمس لأنها تراها، ولكن هناك إلها وراء الشمس لا نراه، ولكنه موجود بفعله في الكون وهو المستحق العبادة. كانت رسالة تخاطب العقل فما كان منها إلا أن استجابت.
إن الله تعالي ذكر في القرآن حالة امرأة حاكمة وهي ملكة سبأ ولم ينكر وجودها كملكة، وإنما أنكر سجودها وقومها للشمس، وقد كان سلوكها حكيما مع قومها في الاستشارة وطلب الرأي، لم تغتر بالمستشارين أولي القوة والبأس الشديد وإنما قدرت العواقب، مما يدل علي استحقاقها للملك.
وفي القصص القرآني نموذجان للحكام أحدهما فرعون مصر والآخر ملكة سبأ، لقد كان فرعون مصر حاكماً مستبداً منفرداً برأيه، وملكة سبأ كانت تستشير من حولها، وبسياستها العاقلة تمكنت بلقيس من الوصول إلي النهاية الأفضل لها ولشعبها، بينما غرق فرعون وجنوده في قاع البحر، وهذا هو الفارق بين استبداد ملك هو فرعون وحكمة ملكة هي بلقيس.
إن ملكة سبأ تمثل نموذجا للمرأة التي تملك من العقل والحكمة ما يجعلها تنتقل من سلطة الباطل إلي الإيمان بالحق.