الأربعاء 20 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

المــســودة الـســوداء!

المــســودة الـســوداء!
المــســودة الـســوداء!







كان الهدف من إعلان المسودة شبه النهائية للدستور تعجيلا عن التوقيت المناسب، وقبل أن تستوفى حظوظها من التنقيح اللازم، والضبط المحكم لصياغتها، والحصول على التوافق لتمريرها وترويجها، هو قطع الطريق على الإدارية العليا بالحكم بحل التأسيسية.. ظن البعض أن الإسراع فى الإعلان عن المسودة وتقديمها للمحكمة تنتفى عنده أسباب الحل طالما أنها وصلت إلى سدرة المنتهى والمبتغى من عملها!
 

 
تصرف بليد، وطريقة «بلدى» فى إدارة الأمور سياسيا، وكاشفة لحجم التمسك بالسلطة وإعلاء المصالح الخاصة لجماعات وتيارات على جثة الوطن، فارتدت المسودة بسوءاتها لتسود وجوه من صنعوها ومرروها وأعلنوها!
 
أصبحت نسخة خرقاء من كثرة أسهم النقد التى طالتها تنشينا، بعد أن جاءت فاضحة لأى تدهور وردة  وصلنا له..  جعلتنا نترحم على ما فاتنا فى دستور 71 الذى قامت ثورة شعبية اعتراضا على بعض مواده فأسقطناه كله.. بحلوه ومره.. وبدأنا نصيغ آخراً جديدا مغزولا بمرارة العلقم.
 
للمرة الأولى منذ أحداث يناير تهب كل القوى المتناثرة والمتنافرة لترفض المسودة التى لم تعبر عن شىء أو تحافظ على مكتسبات، أو أضافت طموحات وتمنيات، ووقفت فى منطقة وسطى بين مواضيع الإنشاء والتعبير.. لا الليبراليون راضون عن ردتها فى أبواب الحريات ومدنية الدولة وحقوق الأقليات والمرأة، ولا الإسلاميون راضون عما انتهت إليه المسودة فيما يخص تطبيق الشريعة بحذافيرها كما يبتغون.
 
الجمعة الفائتة خرجت القوى الثورية والسياسية المدنية بهدف إسقاط الجمعية التأسيسية، والجمعة القادمة يهب الإسلاميون فى غزو ميدان التحرير لتطبيق الشريعة وأحكامها واختطاف الدولة من هويتها، وكذا خروج 21 حزبا رافضا للتأسيسية ومسودتها، والقضاة يترحمون على استقلالهم فى الدستور السابق، والنساء تنعى حظهن لعودتهن إلى الحرملك.. وبين كل ذلك الشعب تائه بين كل الأطراف، ومشغول بلقمة العيش التى ابتعدت عن فمه!
 
كنا نريد، وأصبحنا نتسول مطالبنا فى الدستور الذى شكل تقلص صلاحيات الرئيس فى بابه، لكنه أغدقها عليه بأكثر مما كانت فى باقى الأبواب، فأصبح من حق الرئيس تعيين كل رؤساء الأجهزة الرقابية والتى من واجبها الرقابة على أعمال الحكومة والرئيس، وأصبحت له حصانة برلمانية مدى الحياة لعضويته فى مجلس الشيوخ ولا توجد طريقة لمحاكمته إلا التلبس!!
 
ومن حق الرئيس تعيين الضباط العسكريين وعزلهم دون قيد، وله  تكليف رئيس وزراء لتشكيل الوزارة دون وضع معايير لاختيار رئيس الوزراء، وكذا حقه إعلان حالة الطوارئ بعد موافقة مجلس الوزراء ثم يعرض على البرلمان وليس العكس.
 
وأيضا من حق الرئيس حل مجلس الشعب فى حالة اعتراض البرلمان على تشكيل الحكومة مرتين متتاليتين دون قيود!
 
والأكثر أن له أن يعين ربع أعضاء مجلس الشيوخ والذى من صلاحياته إمكانية الاعتراض وتعطيل أى قانون صادر عن مجلس الشعب واختيار قضاة المحكمة الدستورية المسئولة عن محاسبة الرئيس شخصيا والحكومة والبرلمان عن عدم دستورية أى قانون يتم إصداره.
 
هذا التوسع فى الصلاحيات يهون أمام كارثة اختطاف الدولة من هويتها الوسطية المدنية بإصرار غالبية أعضاء اللجنة التأسيسية أصحاب الصبغة الإسلامية من فرض الوصاية والولاية الدينية فى المادة الثانية الملغومة واستبدال مبادئ الشريعة بأحكام الشريعة وهو شرك أيضا نسقط فيه فالمبادئ دائمة والأحكام متغيرة حسب الزمان والمكان!
 
أهون لنا أن نعيش تحت حكم فرعون بصلاحيات فاحشة، على أن يحكمنا كهنة المعبد ومجاذيب الأولياء بشرعية الكهنوت التى لم يأت بها الإسلام  فكأننا ارتددنا على عقبينا إلى المربع رقم واحد.. وربما المأزق فيما يخص حل التأسيسية وعدم الرضاء عن إنتاجها وحتى ما يخص تشكيل أخرى ما سرب من محاولات جس نبض بأن تتم الموافقة على دستور مؤقت كاقتراح خرج عن التيارات الإسلامية ومن بعدها ارتقــى علــى لسـان د.«محمد محسوب» - وزير الشئون النيابية.
 
الكلام عن دستور مؤقت يحمل إهانة للثورة وللشعب، ويكشف بجلاء عن أزمة سياسية خانقة تعيشها البلاد، وأن المطالبة بقرار حل التأسيسية كان فى محله، شعب ينازع لتحقيق استقرار منشود، ويقاتل من أجل قوت يومه، وأعضاء التأسيسية يقيمون فى فنادق 5 نجوم لتجهيز طبخة فاسدة!
 
لن نرضى بديلا عن دستور محترم ومستقر يعيش لمئات السنوات لنا ولأولادنا من بعدنا، وإلا لن يرحمنا التاريخ وستلاحقنا اللعنات القادمة من المستقبل.. كان فى أيدينا دستور 71 .. لم يكن كله شرا، كان قابلا للتعديل والبناء عليه، وتصحيح تدخلات المنتفعين منه، وبث روح الثورة والمعاصرة عليه، الآن اكتشفنا من يخرج علينا ليبشرنا بالندم عليه، سواء فى باب الحريات أو استقلال القضاء، والمساواة، والمواطنة، والمدنية، وحقوق المرأة!
 
كنا لو عدلنا سنكون أمام معضلة شكل نظام الحكم أو إعادة صياغته وتوزيع السلطات، كنا عالجنا إشكالية شكل النظام الاقتصادى المنصوص عليه اشتراكيا ونمارسه رأسماليا أو نجمع بين الاثنين، كنا أعدنا النظر فى شكل النظام الانتخابى ونسبة الـ50 ٪ للعمال والفلاحين التى تجاوزها الزمن، كنا ألغينا تعديل الهوانم لصاحبته «فايدة كامل» التى اقترحته لمغازلة ومداهنة السادات فاستفاد منه مبارك، كنا عالجنا العوار والمدخلات التى جرت فى تعديلات الدستور 2005 وما تلاها من العبث فى المادة 76 وأخواتها.
 
كان أمامنا أن نقوم بعملية تجميل وتأهيل لدستور  71وليس أن نسقطه ونهده وندفنه لنفكر أن نبدأ فى البناء الذى يستغرق أياما طويلة، وفى حالتنا سيستغرق فى النوم لمدة لا يعلم مداها إلا الله!
 
المسودة السوداء بصورتها الحالية هى مؤامرة على الثورة وعلى أحلامنا وفرصنا فى الحياة، لم تعد هناك فئة إلا ترفع راية العصيان فى وجه الدستور وتحاول الحفاظ على مكتسباتها التى تنتزع منها انتزاعا بلا هدف سوى إخضاعها وقتلها فى استقلالها.
 
التأسيسية فى مهب الريح.. السلفيون يهددون بالانسحاب إذا لم يختطفوا الدستور والدولة باسم الله، والقوى المدنية ليس فى يدها سوى الانسحاب إذا نجح الإسلاميون فى مخططهم، وحتى إذا جرى تشكيل جديد هو بيد الآن الرئيس «مرسى»، فإن أى اختيار سيكون محل خلاف، وتحكمه المواءمات السياسية والتحالفات الانتخابية، بعيدا عن مصلحة الوطن لندور فى ذات النقطة.. قمنا بثورة أبهرنا بها العالم، والآن نكرر إبهاره ابتداءً  بفشلنا فى تشكيل الجمعية  وانتهاءً بوضع دستور محترم!