الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

«الحيطة بتتكلم مصرى»

«الحيطة بتتكلم مصرى»
«الحيطة بتتكلم مصرى»




 
 

 

يكاد لا أحد يعلم متى تحديداً ظهر فن الجرافيتى فى تاريخ مصر الحديث، لكن ثمة دلائل تاريخية تؤكد أن الفراعنة هُم من اخترعوا هذا النوع من الفن برسوماتهم على جدران المعابد والمقابر.. ويعتقد البعض خطأً أن هذا الفن ظهر فى مصر حديثاً بقيام ثورة يناير، والحقيقة أنه موجود من قبل الثورة بسنوات طويلة وإن اختلفت رسائله وظروف اختفائه وظهوره من جديد.
ظهر الجرافيتى فى سبعينيات القرن الماضي، خاصة أثناء «ثورة» 1977 التى أسماها السادات بـ «انتفاضة الحرامية»، حيث كان المتظاهرون يستخدمون الأقمشة والأحبار فى نقش رسائلهم المحرضة على الثورة على جدران مبانى وسط القاهرة وميدان التحرير، وكذلك انتشرت بعض الرسومات المناهضة لإسرائيل بعد حرب أكتوبر احتفالاً بالنصر، وبالطبع مُعظمنا يتذكر أو يعرف الرسومات الجدارية التى اعتاد المصريون أن يزينوا بها بيوتهم بعد عودتهم من الحج، وهذا موجود فى الثقافة الريفية والحضرية على حدٍ سواء.

 
خلال هذه السطور نحن لا نقصد إعادة تدوين ما كُتب من قبل عن هذا الفن خلال أكثر من عامين، لكننا نؤكد على أهمية وجوده فى حياتنا، خاصة أن الجرافيتى أصبح جزءا شبه أساسى من مشاهد الشارع المصري، والبعض ينتظر الجديد من الرسومات خلال مناسبات مُعينة، سواء كانت سنوية مثل احتفالات أكتوبر وذكرى ثورة يناير، أو حوادث مثل ماسبيرو وبورسعيد ومحمد محمود.
أبرز منتجات الجرافيتى مؤخراً صورة سعد الدين الشاذلى قائد أركان حرب أكتوبر، أحد أهم أبطال النصر الذى تعرض لاضطهاد دام لأكثر من 35 عاماً بداية من حُكم السادات وحتى يوم تنحى مبارك - اليوم الذى توفى فيه الشاذلي- فصورته الموجودة فى محمد محمود الآن ليست الأولي، حيث شاهدنا الشاذلى على جدران وسط القاهرة فى ذكرى وفاته الأولى التى أقيمت بميدان التحرير بحضور كريمته شهدان الشاذلي.
إذا ذهبت إلى العاصمة البريطانية لندن، فحتماً ستجد فى خريطتك السياحية أسماء الشوارع والميادين الموجود على جدرانها رسومات «بانكسى» الرسام الإنجليزى صاحب أشهر جرافيتى فى العالم الموجود على سور الفصل العنصرى الذى تشيده إسرائيل، وكذلك رسمته الموجودة فى مدينة القدس والتى تجسد فتاة صغيرة تقوم بتفتيش ذاتى لجندى مُسلح يرتدى زى الاحتلال الإسرائيلى.. فهو فنان ينتقد كل شىء، بداية من المجتمع والاحتلال وحتى الملكة إليزابيث الثانية التى تحكم البلاد.. ولا أحد يعرف صورة هذا الفنان إلا القليل، لأنه يحرص على عدم الظهور فى وسائل الإعلام - رغم شهرته الواسعة - فكثير من فنانى الجرافيتى لا يظهرون بوجوههم وأسمائهم الحقيقية تجنبًا لمطاردة الشرطة.
فى أبريل 2007 - أى بعد أكثر من عام على ظهوره- عندما زاد إنتاج بانكسى على جدران مبانى لندن بدأت هيئة النقل البريطانية بمسح أعماله بحجة أنها تؤذى المارة وتشوه المنظر العام للمدينة وتحرض على الجريمة.. ظل عمال الإزالة يلاحقون جرافيتى بانكسى من شارع إلى آخر حتى توقفت أعمال الإزالة وحصل بانكسى على دعم معنوى من زملائه الفنانين، وواصل الرسم بأفكار مختلفة وأصبحت رسوماته مزارا سياحيا مثل ساعة «بيج بين» ومتحف «مدام تسو».
ويبدو أن ما حدث مع بانكسى الإنجليزى هو نفسه ما يحدث الآن مع فنانى الجرافيتى المصريين، حيث تلاحقهم «فُرشات» هيئة النظافة والبلدية ذات «البويات» كئيبة اللون لتزيل فنهم من على جدران المنشآت العامة والخاصة، مُعتبرين أنهم بذلك يحافظون على الشكل الحضارى للقاهرة (رغم أن القاهرة عديمة الحضارة أصلاً)، لذلك لا تنزعج إذا ذهبت لشارع محمد محمود ورأيت الجرافيتى الذى طالما أحببته أصبح خفياً خلف «بوية» البلدية فربما تذهب إليه غداً لتشاهد نسخة جديدة بفكرة أعمق ورسمة أدق فى تفاصيلها، فأغلب مُحبى الجرافيتى هم من محبى الحياة والحرية والخروج عن المألوف، لذلك ارتبط الرسم على الجدران بالثوار ومليونيات التحرير واعتصامات مريدى التغيير المتمردين.
لأننا فى بلد مُحافظ يعشق تعقيدات التقاليد الخرسانية، فستجد من يطلق على فن الشارع وتحديداً الرسم على الجدران بأنه «شخبطة» أو أن فنانيه «شوية عيال فاضية وقابضة فلوس»، والحقيقة هذه ليست انتقادات، إنما هى حقائق! فبعض فنانى الجرافيتى يعتبرون «شخبطة» الجدران رسالة لا يمكن توصيلها للناس والحاكم إلا من خلال هذا الأسلوب الذى يبدو عنيفاً وجريئاً فى معظم الأوقات، فبعد الهجوم الذى شنته الشرطة على الثوار يوم 28 يناير 2011 واحتراق المدرعات، استغل بعض المتظاهرين بقايا رماد إحدى المدرعات المحروقة واستعملوه فى كتابة رسالة على إحدى جدران ميدان التحرير ينتقدون فيها بعنف حُكم مبارك وشراكة ابنه فى السلطة، ولم يكن هذا الجرافيتى يأخذ طابعاً فنياً قدر ما كان تفريغا لشحنة غضب عارمة.
أما عن أنهم شباب قابض فلوس، فمعظمهم أكد أنه لا أحد يمولهم مادياً ويتحملون تكاليف أعمالهم، لذلك فالمبالغ التى يحصلون عليها تكون من رواتب وظائفهم أو مصروف أهاليهم، فغالبا تكون تكلفة الرسمة الكبيرة ما بين 10 إلى 20 جنيها، حيث إن الـ«ستنسل» أو الورق المُفرغ لا يكلفهم كثيراً، فيمكنك أن تصنعه من أى فرخ ورق عادى أو سميك، وعلبة «hgh» أو البخاخ تتكلف 7 جنيهات، وهذا أسهل أنواع الجرافيتي، أما أصعبها فهو الذى يتم رسمه بالفرشة والألوان على الجدران، وأحيانا يأخذ من الرسام يومين أو أكثر لينتهى من رسمته، وأحيانا تزيل الحكومة الرسمة قبل أن تكتمل فيعيد الفنان رسمها من جديد.
كل يوم يزداد عدد رسامى الجرافيتى فى مصر، ومعظمهم يُفضل أسماء مستعارة مثل «جنزير- ملكة جمال الأزاريطة- محمد المشير- موفا- زفتاوى- التنين-هيما» بالإضافة إلى ليلى ماجد ومحمد جابر، وعمار أبو بكر صاحب جرافيتى الشيخ عماد عفت على جدران الجامعة الأمريكية بمحمد محمود، وأيضاً صاحب الجرافيتى الشهير «قناص العيون- ابحث مع الشعب» والذى قال عنه إنه أول مكان رسم فيه هذا الجرافيتى كان فى مدينة الأقصر ثم انتقل إلى القاهرة وباقى المحافظات، وكان عمار واحداً من ضمن الـ7 مجموعات التى قامت بانتقاد الحواجز الأسمنتية حول وزارة الداخلية وتمردوا على وجودها برسومات تعبر عن استمرار الحياة وإلغاء معنوى لفكرة الحاجز، وهى الحملة التى سموها «مافيش جدران» أشهر مُنتجات الجرافيتى فى مصر بعد الثورة، حيث أصبحت مزارات سياحية للأجانب والمصريين.. وربما لذلك تحرص الحكومة على إبقاء الحواجز مكانها تسد الشوارع!
«ملكة جمال الأزاريطة» هى فنانة الجرافيتى آية طارق التى ظهرت فى فيلم «ميكروفون» بشخصيتها الحقيقية، حيث ساهمت بشكل كبير فى تغليف شوارع الإسكندرية برسوماتها قبل الثورة، هى تهتم بالطابع الاجتماعى والفنى أكثر من السياسي، تستخدم دراجتها فى التنقل بين جنبات المدينة وعلى ظهرها حقيبتها المليئة بالألوان والورق المُفرغ لتلقى بفنها على الحائط ثم تسرع فى الخروج من مُحيط المكان حتى لا يراها أحد، لأن فن الجرافيتى معروف بسريته وخفة حركة ممارسيه نظراً لأن البلاد القمعية تعتبره شيئا ضد النظام والحكم خاصة إن كانت الرسومات ذات إشارات غير مفهومة أو مُحرضة على التغيير أو الثورة، وكانت من أشهر رسومات آية قبل الثورة «الثورة تبدأ من هنا- وتشير الرسمة إلى العقل».. وتعتبر آية أن الرسم فى الشارع هو بديل عن المعارض الفنية التى تقيمها مؤسسات مثل الجامعة ووزارة الثقافة لأن طبيعة هذا الفن لا يمكن أن تُقيد بنظام مُحدد.
فى البرازيل تغرق العاصمة «ساوباولو» بفن الجرافيتى فى كل مكان وعلى مُعظم مبانى المدينة، ويُطلق على فنانى الرسم على الجدران هناك اسم «بيشا ساو» ومعظمهم يقتنون الأحياء الفقيرة ويستخدمون فنهم فى التمرد على أسلوب الحياة بشكل عام، بينما يراهم المجتمع مجموعة من المجرمين! وربما يعتبرهم الناس هناك كذلك لأن رسامى الجرافيتى فى ساو باولو لا يتحمسون للرسم على الجدران القريبة من الأرض، فهم يعشقون تسلق العمارات والمبانى سواء كانت خاصة أو عامة، سكنية أو إدارية ليصدروا فنهم على أعلى الجدران فى أوقات الليل، حيث لا يراهم أحد، لأن القانون هناك يعتبر هذا الفعل جريمة يكون عقابها الغرامة وخدمة المجتمع، فكلما تمكن الفنان من صعود مبانٍ أعلى كلما عليت مكانته الفنية وسط زملائه، لكن الأمر ليس ممتعاً دائما، بعضهم يسقط على الأرض ميتاً وقليلاً هُم من ينجو من الموت!
لذلك تعتبر البرازيل من أشهر البلاد التى ساهمت فى نشر فن الجرافيتى حول العالم، ويستخدمون التراث البرازيلى وتاريخهم فى أعمالهم الفنية، مثلما يحرص دائما المصريون على إظهار عظمة الحضارة المصرية القديمة برسومات فرعونية صريحة على الجدران.
مصر أيضاً حكوماتها تعتبر من أشهر الحكومات التى تكره هذا الفن، تكرهه خشية الرسائل القصيرة التى تفضح خطايا الدولة ومشكلات المجتمع، فنجد أنه قبل الثورة عانت مجموعات الألتراس من حملات إزالة وتشويه رسوماتها التى كانت تتركها على جدران المبانى فى معظم شوارع القاهرة وخارجها تعبيرا منهم عن انتماءاتهم الكروية، وسخطهم من الشرطة من خــلال العبارة الشهيرة  «a c a b»  وهى اختصار لجملة إنجليزية ترجمتها «كل رجال الشرطة أوغاد».
وكما ورثت حكومة الإخوان مخلفات مبارك وطنطاوى فى معظم الأشياء، أرادت أيضاً ألا تتخلى عن مهمة مسح رسومات الشوارع، خاصة شارع محمد محمود، ربما شعروا أن هذا الشارع - بشهدائه المرسومين على جدرانه- شاهد عيان على تجاهل الإخوان للثوار فى أكثر من معركة كان أهمها أحداث محمد محمود فى نوفمبر العام الماضى ومجلس الوزراء.. وظن الإخوان أن فنانى الجرافيتى سيستسلمون لهذه الحماقة، لكن حماس الرسامين ازداد بعد هذه الواقعة وأعادوا رسم ما كان على الجدران بشكل مختلف وضموا صورا وانتقادات لجماعة الإخوان، وضعوا صورة مُرشدها بجانب صورة طنطاوى ومبارك وعبارة «اللى كلف ما ماتش».