كفرونى لكونى محجبة تقود أوركسترا!

هاجر عثمان
«البنات لم يخلقن لهذا» هكذا قال معلم الموسيقى لـ«مارين ألسوب» أثناء تدريبها على آلة الكمان، «مارين» واحدة من أبرز قادة الأوركسترا فى العالم، وأول امرأة قائدة لأوركسترا أمريكية كبرى عام 2007، ألسوب كانت أيضًا أول امرأة منذ 118 عامًا تشرف على سيمفونية «الليلة الأخيرة» لحفلات مهرجان الموسيقى الكلاسيكية، ألسوب أصبحت أول امرأة تتولى منصب القائد الأساسى لأوركسترا راديو فيينا السمفونية 2018، (التى ظل الأوركسترا الفيلهارمونى الأساسى بها يرفض التحاق النساء به كعازفات حتى 1997!).
«إيمان جنيدى» امرأة من جنوب صعيد مصر وأول قائدة أوركسترا فى مصر والعالم العربى منذ 2005، الرابط بين السيدتين ألسوب وجنيدى هو عصا الأوركسترا سواء للموسيقى الكلاسيكية أو لفرقة موسيقى عربية التى وصلت لها تاء التأنيث بعد أن كانت ترفع شعار للرجال فقط. رغم أن احتفاءنا بما يسمى «أول امرأة» فى القرن الـ21 كان مثيرًا أحيانًا للرثاء؛ إلا أنه ضرورى لرصد كفاح نساء كسرن التابوهات التقليدية فى مجالات يسيطر عليها الرجال منذ قرون، سواء فى عالمنا العربى أو فى أوروبا وأمريكا، لذا نحتفى بالمايسترو إيمان جنيدى، فهى ليست أول امراة فقط بل هي صعيدية ومحجبة تقود أوركسترا لفرقة موسيقية عربية بمحافظة بنى سويف، وأسست فرقتها الخاصة عام 2019 وتحمل اسم «المايسترو»، عن التحديات والمشوار تحدثت جنيدى لـ«روزاليوسف».
فى البداية .. لماذا يرفض العالم وجود النساء قائدات للأوركسترا؟
- الرفض له مبرراته إلى حد ما؛ لأن قيادة الأوركسترا عمل شاق وله متطلبات خاصة لا تستطيع أى امرأة تحملها، إلا إذا كان لديها إصرار وإرادة لتحقيق النجاح، وتمتلك قدرة للتغلب على المعوقات المتوقعة فى هذا المجال الصعب وتجاوزها بسلاسة وذكاء، فالنظرة الشائعة ترى أن المرأة خُلقت للمنزل والتفرغ لمسئوليات الحمل والولادة وتربية الأبناء، وهو ما قد يتعارض مع طبيعة مهام قائد الأوركسترا؛ التى تحتاج إلى ساعات طويلة من البروفات تتجاوز 6 ساعات يوميًا قبل العروض، فضلا عن كونه عملًا يتطلب سفرًا سواء داخل أو خارج الجمهورية، ولذا هناك ظروف كثيرة تُعرقل المرأة عن القيام بهذا الدور عكس الرجل.
وظيفة المايسترو ليست مجرد الإمساك بتلك العصا الصغيرة التى نلوح بها للعازفين على خشبة المسرح، وإنما عمل شاق، لكى تكونين مايستروا يجب أن تكونى متفرغة تمامًا، وهوما يُعزز فى النهاية من تفضيلات اختيار الرجل لقيادة الأوركسترا أكثر من النساء، فهو متفرغ تمامًا لعمله ولا يقع عليه أعباء الالتزامات المنزلية مثل المرأة.
ولكن أنتِ زوجة وأم لثلاثة أبناء .. وأصبحت أول مايسترو فى مصر والعالم العربى .. كيف نجحت؟
- القدرة على مواجهة التحديات تختلف من امرأة لأخرى، لقد وجدت الدعم والتشجيع من زوجى وعائلتى بل والتعاون من أجل الاستمرارفى هذا المجال الصعب والوصول لهذا النجاح، فمواصفات المايسترو الناجحة: الذكاء، الثقة بالذات لأن صعود المسرح له هيبته ومكانته، الإلمام والمعرفة بكل الآلات الموسيقية، القدرة على الاختيار سواء للعازفين أو المقطوعة الموسيقية؛ ثم الإدارة والتنسيق بين عشرات العازفين/ العازفات بالفرقة ليخرج العمل منسجمًا وجذابًا للجمهور. فالمايسترو هو المخرج والسيناريست الذى يقع عليه مسؤولية تقديم عمل موسيقى مكتمل فنيًا على خشبة المسرح، لذا قيادة الأوركسترا مسئولية كبيرة لاتستطيع تحملها أى امرأة، وإذا حاولت مرة لا تستطيع فى الثانية لصعوبة بعض النساء فى التوفيق بين ظروف عملها ورعاية عائلتها.
سأعود بكِ لعام 2005.. عند تكليفك لأول مرة بقيادة أوركسترا الفرقة القومية للموسيقى العربية لمحافظة بنى سويف .. كيف كان رد فعلك آنذاك؟
- ترددت فى البداية كثيرًا فى قبول العمل، كان عدد العازفين بالفرقة كبيرًا يصل إلى 40 موسيقيًا وأغلبهم رجال وأكبر منى سنًا آنذاك، بينما كان عدد فتيات الكورال قليلًا جدًا؛ ولكن زوجى شجعنى جدًا لقبول المهمة حتى تحمست لخوض التجربة، ونصحنى بالاجتماع مع أعضاء الفرقة والتعرف عليهم أوًلا قبل بدء العمل، وبالفعل كان التواصل مهمًا، لمعرفة أحلامهم وأفكارهم والمشكلات الإدارية التى تواجههم.
ولكن هل تعاون عازفو الفرقة معك بسهولة؟
- بلاشك واجهت فى البداية صعوبات؛ كان هناك اعتراض من العازفين لوجودى لكونى امرأة وأيضًا أصغر منهم سنًا لقيادة الأوركسترا، ولكن تغلبت على هذه التحديات بهدوء وعلى مراحل، وساعدنى فى ذلك أن «بنى سويف» محافظة صغيرة، وأعضاء الفرقة كانوا أصدقاء ومعارف لعائلتى، فالمجتمع صغير والكل يعرف بعضه، فضلا عن دعم زوجى وثقة مدير عام الفرقة وقصر ثقافة بنى سويف آنذاك فى قوة شخصيتى وخبرتى التى اكتسبتها فى العمل لسنوات بالخارج بدول عربية كالكويت وسلطنة عمان.
هل تتذكرين لحظة صعودك على خشبة المسرح لأول مرة .. كيف كانت؟
- لن تصدقى، لم أكن خائفة أو متوترة، ولكن شعرت وكأنى أطيرعلى المسرح كالفراشة، كانت لحظة لا تُنسى مُمتعة، سبقها إعداد وبروفات مكثفة جدًا، كان الجميع يعمل فى تناغم من أجل تقديم «ريبرتوار» جذاب للجمهور، ونجعله يطير معنا أيضًا عبرالموسيقى.
هل حلم أن تصبحين «مايسترو» كان حاضرًا أثناء دراستك أو بعد تخرجك من كلية التربية الموسيقية خاصة أنها لا تضم قسمًا للتأليف والقيادة كالكونسرفاتوار؟
- بصراحة، لم يكن حلمى فى البداية، ولكن تراكم الخبرة مع السنوات والعمل فى التدريس للموسيقى سواء داخل أو خارج مصر، واطلاعى على آلات مختلفة وشغفى الدائم بالدراسة وتطوير الذات ساعدنى على قبول التحدى عندما جاءت لى الفرصة، وكان تكليفًا صعبًا جدًا لأنه تطلب دراسة وتحضيرًا جيدًا أيضًا، فالفرقة تضم الآت جديدة عن تلك التى درسناها فى الكلية كالكونترباص، التشيلو، الكمان، القانون، الناى.. إلخ.
وإذا كان قائد الأوركسترا يجهل بكل الآلات المختلفة لا يصلح أن يُصبح مايسترو لأنه سيعجز عن توجيه العازفين، ويدركون عدم فهمه بسهولة، لذا المايسترو يظل لآخر يوم فى عمره يتعلم ويطور من خبراته ويذاكر يوميًا.
علمت أن والدك عازفً للعود.. فى رأيك.. إذا لم تنشئين فى أسرة صعيدية منفتحة على الفن هل كنت ستواصلين نجاحك وتصبحين أول مايسترو امرأة مصرية؟
- سؤال جيد، بالطبع لا؛ فلولا تشجيع عائلتى واحترامهم للفن لما استطعت كفتاة صعيدية أن تسافر وتغترب من محافظتها لتعيش فى القاهرة لتدرس بكلية التربية الموسيقية بجامعة حلوان، عائلتى هى التى شجعتنى لترك كلية الحقوق فى بداية التنسيق الجامعى لدراسة الموسيقى. أنا محظوظة لنشأتى فى أسرة فنية، تعزف أختى الكبرى البيانو، وأخى وأبى العود، وآخر فنان تشكيلى، كنا نكون فرقة أشبه بأوركسترا عائلية صغيرة فى سهراتنا المسائية.
سؤالى السابق مرتبط بفكرة سياق ترفض فيه كثير من العائلات فى مصر أو الوطن العربى احتراف أبنائها للفن وخاصة الفتيات للموسيقى أو السينما .. هل توافقينى الرأي؟
- نعم أتفق بشدة، للأسف مازلنا نعيش فى هذا السياق الذى تعادى فيه العائلات دخول أبنائها للمجال الفنى، وأذكر لك واقعة واجهتها قبل ساعات من إجراء هذا الحوار الصحفي؛ عندما تواصلت مع عازفة «الأورج» بفرقة «منتخب جامعة بنى سويف للموسيقى» - الذى توليت قيادة الأوركسترا فيها عام 2006 - لإبلاغها بميعاد البروفة القادمة، وفوجئت بها تخبرنى برفض عائلتها استمرارها فى العزف بالفرقة، وبالحرف قالت لى «أبى يقول: ميصحش تلعبى مزيكا انتِ كبرتِ، وعيب كدة، وميصحش الاختلاط بالعازفين الرجال، والناس هتقول علينا إيه، ومش هتلاقى عريس يتجوزك؟!» حقيقى حزنت على هذه العازفة الماهرة والتى كان متوقعًا لها مستقبل باهر.
على ذكر التحريم .. كونك مايسترو امرأة مُحجبة ومعظم حفلاتك بالمحافظات وليس العاصمة فقط .. هل واجهت مشكلة بسبب الحجاب؟
- ليست مشكلة ولكن تعليقات صادمة مثل «كيف تقومين بقيادة أوركسترا موسيقية وأنت محجبة؟، الموسيقى حرام، فين جوزك؟!، إزاى جوزك بيسمح لك تسافري؟، مش هتراعى ربنا بقى وكفاية مزيكا؟، حد عارف عمره هينتهى امتى؟! راجعى نفسك؟! كلها تعليقات حادة وكأنى أعمل كفرًا! ولكن الحمد لله أثق فى أهمية عملى ولم أتأثر بهذه الأحاديث.
هل تعتقدين أن وصولك لقيادة الأوركسترا كأول امرأة مصرية عربية.. يُساهم فى تعبيد الطريق لنساء أُخريات مازلن يواجهن تحديات فى الدخول للمجال الفنى والموسيقي؟
- صعب، لأنى شخصيًا مازلت أُعانى من نظرة المجتمع السلبية والنمطية تجاه عمل النساء فى الفن، وحقيقة استمراى هو رغبة فى التحدى وإثبات الذات ليس لشخصى فقط ولكن لأؤكد أن كل امرأة قادرة على النجاح فأجوب بالفرقة داخل وخارج مصر، وأصعد على المسرح بحجابى، ولدى ثقة وإيمان بأهمية الدور الذى نلعبه بالفرقة، فالموسيقى تربى الوجدان والنفس، وتخلق شخصيات سوية مُحبة للحياة وللآخرين، والموسيقى والفن بصفة عامة وسيلة لمحاربة التطرف والأفكار الرجعية، من يمسك آلة موسيقية لا يمكن أن يمسك سلاحًا، وأحلم أن يعود الاهتمام بحصص الموسيقى فى مدارسنا الحكومية والاهتمام بتنشئة جيل يحب الفنون المختلفة، وليس جيلا يتربى على أن الغناء حرام وصوت المرأة التى تغنى عورة، نمتلك فى كل بيت موهبة ولكن العائلة تغلق عليها وتخاف إخراجها للنور . علينا أن نغير هذه الأفكار والعادات السلبية المنتشرة خاصة فى الصعيد.
حدثينى أكثر عن فرقة «المايسترو»؟
- أسست الفرقة مطلع 2019، وتضم 30 عازفًا وعازفة، لدى شغف وحلم كبير يتجاوز العمل على نطاق محلى بمحافظة بنى سويف رغم أننا تجولنا بالفرقة القومية ومنتخب الجامعة لمحافظات كثيرة، ولكن «المايسترو» ننطلق بها من العاصمة، وانضم لها عازفون من القاهرة وبنى سويف وعدة محافظات أخرى، ونجحنا فى التعاقد مع أحد المراكز الثقافية المشهورة بالقاهرة ونقدم فيه حفلات شهرية.
وماذا عن مسارح وزارة الثقافة؟
- عرضنا فى مسرح الحضارة داخل دار الأوبرا، وتقدمت بطلبات لمكتب وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبدالديم، لرغبتى فى دعم الوزارة للفرقة، لا نريد أموالا ولكن نريد دعمًا معنويًا لفرقة أسستها وتتولى قيادة الفرقة مايسترو امرأة، ولكن حتى الآن لم يسمعنى أحد ولم أتمكن من لقاء الوزيرة.
صرحت لأحد المواقع بأن دار الأوبرا تنحاز للرجال أكثر من النساء .. لم أفهم هذا التصريح خاصة أنه كان فى عهد رئاسة دكتورة إيناس لدار الأوبرا والآن هى الوزيرة؟
- قصدت أن دار الأوبرا لم تدعم وجود أول مايسترو مصرية، والحفلات مسجلة وكانت تقام على مسارح وزارة الثقافة منذ 2005، لم أجد من يساعدنى حتى الآن، أسست الفرقة الخاصة وأتولى الإنفاق عليها، من أجل أن أثبت للعالم أنى امرأة مصرية صعيدية قادرة على النجاح، عندما أسافر للخارج فهو تمثيل لمصر وليس لشخص إيمان جنيدى.
ما خططك المقبلة؟
- أن نضم لفرقة «المايسترو» المزيد من العازفين، نتوسع فى البرنامج الذى تقدمه الفرقة، وأن يكون متنوعًا بين كلاسيكيات الموسيقى العربية من أغانى أم كلثوم، محمد عبدالوهاب، عبدالحليم، وبين جيل الثمانينيات مثل على الحجار، أنغام، بالإضافة إلى الأغانى الخليجية، وأخيرًا أتمنى أن تتبنى وزارة الثقافة الفرقة وأن تقدم حفلاتها على مسارحها.