الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

عندما زلزل السادات العالم بالجثة الهامدة

عندما زلزل السادات العالم بالجثة الهامدة
عندما زلزل السادات العالم بالجثة الهامدة


 
 
 
لا أحد كان يثق فى كلام وخطب وتصريحات الرئيس أنور السادات فى قضية تحرير سيناء المحتلة واعتبروها كلاماً فارغاً تافهاً للاستهلاك المحلى!
 
ولم يكن أحد يأخذ تصريحات السادات عن حتمية المعركة والحرب مأخذ الجد!! وكلما تحدث «السادات» - ومنذ توليه مقاليد الرئاسة فى أكتوبر 1970 عقب وفاة الرئيس «جمال عبدالناصر» وحتى أكتوبر 1973 - عن استرداد كل حبة رمل من الرمال العربية المحتلة، قوبل كلامه بالسخرية والتشكيك!!
 
وهو ما دعا الكثير من السياسيين ورجال المخابرات خاصة فى الولايات المتحدة وإسرائيل إلى اعتبار السادات ليس أكثر من حاكم مؤقت لن يتعدى حكمه الفترة اللازمة لظهور تكتل قوى جديد فى مصر يختار رجلا يخلف الشخصية العملاقة لعبدالناصر»!.
 
لكن السادات يفاجئ الجميع ويتخلص من كل رجال عبدالناصر الأقوياء فيما سمى بثورة 15 مايو 1971 - أو انقلاب مايو اللى يعجبك - والذى كان الأستاذ «محمد حسنين هيكل» مهندس تلك الثورة أو الانقلاب!!
 
وعندما أعلن السادات أن سنة 1971 ستكون هى سنة الحسم مع العدو الإسرائيلى وإنهاء حالة اللاسلم واللاحرب، كان فى انتظاره سيل من السخرية والنكات، سواء فى مصر أو الخارج!
كان السادات جاداً وصادقاً فى كلامه عن الحرب وحتمية المعركة، لكن أحداً لا يريد أن يصدقه، وربما كان ذلك من حسن حظ مصر والعرب!
 
وفى كل الحوارات واللقاءات الصحفية التى أجرتها كبريات الصحف وشبكات التليفزيون العالمية - الأمريكية بوجه خاص - كان السادات حريصاً على تأكيد هذا المعنى!
 
يحكى السفير «أشرف غربال» وكان المستشار الصحفى للرئيس السادات: ونحن نقترب من موعد حرب أكتوبر كان أن جاءنى مراسل مجلة «تايم» الأمريكية وقال لى: أعتقد أن السادات وصل إلى نهاية محاولاته المتعددة لدفع إسرائيل للانسحاب من الأراضى المحتلة ولم يعد من سبيل سوى الجلوس مع الإسرائيليين وجهاً لوجه وتنفيذ مطالبهم!!
 

 
السادات في غرفة عمليات أكتوبر يتوسط الفريق أحمد إسماعيل والفريق سعد الشاذلي
 
وكان قد حضر إلى القاهرة الصحفى الأمريكى المعروف أرنورى بورجريف المراسل الدبلوماسى لـ«النيوزويك» وطلب منى ترتيب لقاء له مع الرئيس السادات «وتحمست لطلبه، فالنيوزويك شأنها شأن «التايم» تعتبر من أهم المجلات الأسبوعية وتوزيعها واسع الانتشار فى العالم كله.
 
واصطحبت «بورجريف» فى لقائه بالرئيس، ووجه للسادات سؤالا عما ينوى أن يفعله؟! فرد الرئيس دون تردد: سوف أحارب!
 
وراح «أرنو» يكرر أمام الرئيس التقارير التى تتحدث عن أن الجيش المصرى لا يمكن أن يواجه القوة الرادعة لإسرائيل، وأن البلاد العربية مجتمعة ليست لديها إمكانات محاربة إسرائيل، فكان «السادات» مستمراً فى الرد بنفس النغمة فى كل ردوده عن الأسئلة بالقول: إنه سيحارب.
 
وقلت من جانبى للرئيس أمام «بورجريف» وبالإنجليزية: إن التصريحات التى يدلى بها الرئيس الآن تعنى الاتجاه إلى الحل العسكرى، وأن وسائل الإعلام فى العالم ستترجمه على أن مصر تتحكم فيها النزعة للحرب!
 
وقال الرئيس: إن هذا ما ننوى أن نفعله بصريح العبارة، ودون مواراة وفى نهاية اللقاء ناقشت الرئيس فى مضمون حديثه فقال لى:
 
خذ الحديث واذهب مع «أرنو» إلى «هيكل» واعرض عليه هذا الكلام وإذا رأيتم إضافة شىء فأبلغونى!!.
 
وذهبت فعلاً إلى السيد «محمد حسنين هيكل» وجلس يقرأ نص الحديث ثم قال لى: مادام الرئيس قال هذا الكلام فهو إذن يعنيه! فتساءل «أرنو» عن النتيجة التى يخرج بها من هذا الحديث ورد عليه «هيكل»:






هيكل
 
هذا ما ذكره السادات ويتعين على «أرنو» أن ينقله إلى القراء كما هو!
 
بعد ذلك نشر الحديث متضمناً تهديداً من جانب «السادات» بإشعال الموقف، وأنه قادر على مواجهة إسرائيل عسكرياً، وأضاف «أرنو» من جانبه وجهة نظره التى قال فيها إن هذا لا يخرج عما تتفق عليه مراكز صناعة القرار فى الولايات المتحدة من أنه يجب عدم أخذ كلام السادات بجدية!
 
وكانت عبارات بورجريف الملحقة بالحديث تعكس ما يغلب على جميع تقارير المسئولين الأمريكيين من وصف مصر بأنها «جثة هامدة» وليس فى إمكانها زحزحة إسرائيل عن موقفها بعمل عسكرى!ونشر الحديث وشعر السادات بعدم الارتياح له، لأنه كان يهمه أن يؤخذ كلامه بجدية!».
وجاء يوم السادس من أكتوبر «العاشر من رمضان» وكان المشهد على ضفاف قناة السويس هادئاً وناعماً ولا يكاد يوحى بقدوم زلزال مصرى على وجه الإطلاق!
 
كانت جماعات من جنود مصر البواسل يجلسون على حافة قناة السويس فى حالة استرخاء وتكاسل، البعض يمص أعواد القصب «!!» والبعض يأكل البرتقال، وهناك من يسبح فى القناة أو يصطاد السمك بصنارته والجميع فى حالة من خلو البال وقد تركوا أسلحتهم وخوذاتهم فى الخنادق الخلفية!!وعلى الضفة الشرقية راح بعض جنود إسرائيل يلعبون الكرة، والبعض الآخر يستعد للاحتفال بالعيد «يوم كيبور» «عيد الغفران».
 
ولم يكن ما يفعله جنود مصر إلا أحد ملامح خطة الخداع العبقرية التى خدعت كل مخابرات العالم وفى المقدمة الولايات المتحدة وإسرائيل.
 
ويعترف «حاييم هرتزوج» الرئيس الإسرائيلى السابق والمؤرخ العسكرى أن المصريين أداروا حملة تضليل تقليدية أثبتت فاعليتها، وكانت هذه الحملة قائمة على التحليل الدقيق للأفكار المسبقة التى يتبناها الإسرائيليون أن المصريين لن يدخلوا الحرب»!!.




 
أشرف غربال
 
وفى هذا السياق أشارت دراسة عن الاستخبارات والأمن القومى «فى إسرائيل»:
 
ابتداء من نهاية شهر سبتمبر وحتى اندلاع الحرب فى 6 أكتوبر 1973 عقدت اجتماعات يومية على مستوى هيئة الأركان العامة والحكومة، وفى كل هذه الاجتماعات كان رئيس شعبة الاستخبارات يعرض موقفاً ثابتاً:
 
احتمال الحرب ضعيف جداً!! ليس لدى المصريين أى دافع سواء كان سياسياً أو عسكرياً لشن الحرب، بينما السوريون لن يذهبوا وحدهم للحرب!!
 
وفى النقاش الذى جرى قبل اندلاع الحرب بأربع وعشرين ساعة لدى وزير الدفاع أكد رئيس شعبة الاستخبارات بأن الحرب لن تقع!!
 
وفى كلمات، حاسمة قاطعة بالغة الدلالة اعترف رئيس الأركان «دافيد إليعازر» قائلاً: إننا لم نعتقد بأن حرباً ستقع ودخلنا إليها بمفاجأة استراتيجية مطلقة، فقد نجحت إجراءات التخفية والتضليل التى اتبعتها مصر وسوريا - وخاصة مصر - فى إخفاء نواياهما الحربية عن أعين الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية أيضاً!».
 
لكن المفاجأة التى لم تعرف وقتها ونشرت بعد سنوات طويلة جاءت على لسان «لوكادار» كاتم أسرار جولدا مائير رئيسة الوزراء عندما قال: «لم أرها أبداً بمثل هذا الشحوب، وقالت لى أن ديان «وزير الدفاع» يريدنا أن نناقش شروط الاستسلام وأيقنت أن امرأة مثلها لن تقبل مطلقاً أن تعيش مثل هذه الظروف، لهذا أعددت العدة لانتحار كل منا، ذهبت للقاء طبيب صديق لى ووافق على أن يعطينى الحبوب الضرورية لكى يمكننا نحن الاثنين - أنا وهى - الرحيل معاً «هذه الرواية ذكرها الكاتبان «دان رافيف ويوسى ميلمان فى كتابهما» أمراء الموساد.
كانت صدمة مائير هائلة فقد كان رأيها منذ سنوات أن السادات مجرد «بهلوان سياسى كثير الكلام».
 
عبرنا الهزيمة كما كتب الأستاذ توفيق الحكيم.وتحطمت الأسطورة عند الظهر كما رأى الأستاذ «أحمد بهاء الدين» فى كتابه المهم.«كانت عاصفة برق ورعد، وكانت ملحمة شجاعة وتضحية، وفى ثلاث ساعات من بعد ظهر السادس من أكتوبر 1973 ما بين الثالثة إلى السادسة مساء كانت مصر، وكانت الأمة العربية كلها قد اجتازت «حائط الخوف» وبأى مقياس عسكرى فإن عملية العبور سوف تصبح حدثاً فى تاريخ الحروب ولست أقول ذلك حماسة أو مبالغة» هكذا كتب الأستاذ «محمد حسنين هيكل» أيامها!وفى 18 نوفمبر 1973 نشر الأستاذ هيكل حواراً شاملاً مع الفريق أول «أحمد إسماعيل» وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة وكان من بين أسئلة الأستاذ هيكل سؤال: كيف تقدر خسائر العدو؟!
 
وقال إسماعيل ما يلى وبالحرف الواحد:
 
التقديرات الأمريكية تكفينى، هذه التقديرات تعد خسائر إسرائيل بما يلى:
 
3000 قتيل «ثلاثة آلاف» ورأيى - بما شاهدته بعينى - أن هذا الرقم يقل عن النصف الحقيقى.
20000 «عشرون ألف» جريح وهذا رقم قريب من الحقيقة.
 
970 دبابة، وهذه أكثر من نصف القوة المدرعة التى بدأت إسرائيل بها الحرب.
 
150 طائرة وشواهدنا ووثائقنا تقول إن خسائر العدو فى الطائرات أكبر من هذا بكثير، وربما كانت المصادر الأمريكية تحسب الخسارة فى الطائرات وحدها».
 
هيكل: ما هو تقديرك لخسائرنا؟!
 
الفريق أول أحمد إسماعيل: خسائرنا أعرفها يقينا وليس تقديراً، ولا أريد أن أتحدث فيها الآن، أكتفى بالقول بأن خسائرنا لا تتناسب مع حجم ما حققناه، كانت التقديرات العالمية كلها لخسائرنا المحتملة فى عملية العبور وحدها تتراوح ما بين 25 إلى 30 ألف شهيد.
 
ذلك لم يحدث والحمد لله، أستطيع أن أقول بصفة إجمالية إن خسائرنا كلها مع كل ما حققناه بالحرب كانت أقل من خسائرنا فى سنة 1967ولم نحقق بها شيئاً مع الأسف».
 
وأعود ثانية إلى الأستاذ «هيكل» ولكن بعد عشرين عاماً بالضبط من حواره السابق مع الراحل العظيم البطل «أحمد إسماعيل» وكان قد أصدر كتابه الوثائقى «أكتوبر 1973: السلاح والسياسة» سنة 1993 وقبل ختام مقدمة الكتاب يروى «هيكل» هذه الواقعة فيقول:
 
ولابد أن أسجل أننى مدين للرئيس «السادات» إنه قدم إلىّ أغلى وثيقة وصلت إلى طول حياتى المهنية، وكانت بكرة لفائف لأجزاء من أحد أسفار العهد القديم «سفر الخروج - التوراة» حصلت عليها القوات المصرية التى هاجمت واستولت على خط بارليف.
 
كانت هذه اللفائف محفوظة فى قيادة ذلك الحصن الحصين حين اقتحمته القوات المصرية، والذى حدث أن الفريق «أحمد إسماعيل» القائد العام للقوات المصرية تلقى هذه اللفائف ومعها العلم الإسرائيلى الذى كان مزروعاً فوق حصن القيادة، ووجد فى الاثنين رموزاً مناسبة يهديها للقائد الأعلى للقوات المسلحة، وألقى الرئيس «السادات» نظرة عليها ثم التفت إلىّ وأنا جالس بجانبه قائلاً:
 
إنه سوف يحتفظ لنفسه بالعلم، ولكنه عارف بهوايتى لجمع هذا النوع من «الأشياء» - كذلك قال - فإنه سوف يهدينى هذه اللفائف!!
 
ثم أضاف كريماً عبارات رقيقة، وقبلت الهدية عارفاً بقيمتها وبفضل مهديها، وقد احتفظت بها سنوات طويلة، وأظن أن الأوان قد آن اليوم كى أقدمها للأحق بها منى وهو المتحف الحربى حتى تظل باقية فيه دوماً لأجيال قادمة سوف تعيش وفية باستمرار لفضل جيل سابق، قام شبابه ورجاله بدور مجيد وجعلوا يوم السادس من أكتوبر 1973 يوماً يعلو بهامته على كل الأيام».
 
ومهما طال الكلام عن نصر أكتوبر 1973 فهو قليل، إنه بصدق أكمل وأشمل وأعظم انتصار عربى معاصر فى كل الحروب العربية الإسرائيلية.
 
لكن تبقى مجرد ملاحظة تستوقف القارئ الجاد أن الكتابة عن أكتوبر فى زمن السادات وحتى رحيله، ليست هى الكتابة عن «أكتوبر فى زمن مبارك» وحتى تخليه عن السلطة فى 11 فبراير .2011
 
مقالات، وصخب، وزيطة، وموالسات لا حدود لها، وغابت حقائق موثقة، وشهادات نشرتها الصحف فى وقتها!!
 
وفى مولد النفاق والكذب سوف يختفى دور «مبارك» من هذه الحرب المجيدة، والتشكيك فى كل طلعة جوية قام بها.
 
وفى زمن «مبارك» - بالمناسبة - لم يجرؤ أحد على إعادة نشر ما كتبه الأستاذ هيكل فى كتابه «الطريق إلى رمضان» الذى صدر عام 1975 وقال فى مقدمته بالحرف الواحد الصفحة العاشرة ما يلى:
 
«ولا يمكن لقوة على الأرض أن تنسب قرار أكتوبر العظيم إلى أحد غير صانعه وهو «أنور السادات» ذلك قرار سوف يظل مجداً مقيماً له، ومجداً مقيماً لمصر، ومجداً مقيماً للعرب، ولقد كنت بنفسى أول من أطلق على أنور السادات وصف «صاحب قرار أكتوبر» ولا أظن أن أنور السادات يريد مدخلاً إلى التاريخ غير كونه فعلاً «صاحب قرار أكتوبر العظيم».
 
تحية لأكتوبر العظيم لقادته وجنوده، وتحية للشهداء الذى أزالوا عار هزيمة يونيو 1967.