الأحد 15 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

ملوك «الجدعنة»

ملوك «الجدعنة»
ملوك «الجدعنة»


فى تمام التاسعة و25 دقيقة، توقفت عقارب الساعة عن الدوران داخل «محطة مصر»، وكأن شهر فبراير أبى الانتهاء قبل أن يتركنا أمام حادث مفجع، لم يكن يتوقعه أى من العاملين، أو المتوافدين على المحطة فى هذه الساعة، فى لحظة أصبح شبح الموت يطوف فى أرجاء المحطة، وبينما الجميع مندمج فيما جاء من أجله هذا اليوم، راح الشبح يلاحق بكل قسوة مجموعة من الأبرياء.
فجأة يخترق الحركة الاعتيادية داخل المحطة صوت انفجار هائل، كتلة ضخمة من النيران تنبعث دون وجهة محددة، أشلاء مُتفحمة تطايرت هنا وهناك، وأجساد مزقتها النيران، وأخرى يحاول أصحابها الهرب من المصير الذى بات قاب قوسين أو أدنى، شاب يهرول مشتعلاً وكأنه يخرج من جهنم يندفع نحو سلالم المحطة بحثًا عن أى بصيص أمل فى النجاة، وسيدة لم تعد تهتم بأى شىء سوى نزع تلك الكتل الملتهبة عن جسدها، وطفلة تصرخ من شدة الألم الذى يلتهم ظهرها وشعرها الذى كان ناعمًا، مشهد مرعب لا يستطيع أقوى صناع السينما فى العالم صياغته بهذه الدقة والواقعية.
لم يكتمل المشهد إلا بظهور أرواح طاهرة تسعى للخير، وتحاول جاهدة مد يد العون دون انتظار مقابل، يد يبعثها الله لتكون فداءً لغيرها، لم تقل نفسى نفسى وإنما أقدمت بكل إنسانية وفداء على إنقاذ أشخاص لا تربطهم بهم صلة إلا مشاعر الألم والتكاتف فى مواجهة الموت.
وكأن القدر شاء أن يبقى بطل الفيديو المتداول لعملية إنقاذ الضحايا غامضًا، وتنهال التعليقات والدعوات له: «ربنا يجيرك من نار جهنم زى ما بردت نارهم يا بطل»، دون أن يعرف أحد على وجه الدقة من هو، لكى يكون التركيز على قيمة فعل لا شخص صاحبه، حقيقة الأمر لم يكن بطلاً واحدًا فقط، بل إنها بطولة جماعية لعمال الشركة الوطنية لإدارة عربات النوم، وعمال الأكشاك الأقرب لموقع التصادم، واحد منهم هو من ظهر بالفيديو المتداول، ولكن الجميع شاركوا فى عملية الإنقاذ، ليستحقوا جميعًا الوصف الذى أطلقته عليهم المطربة نانسى عجرم «ملوك الجدعنة ودى حاجة فى طبعهم» فى أغنية «لو سألتك انت مصرى».
ألقت كاميرات المراقبة برصيف (رقم 4)، الضوء على أحد العاملين الذى ساهم فى إنقاذ عدد من ضحايا الحادث فى اللحظات الأخيرة، قيل فى البداية أنه يدعى «وليد مرضى»، ثم ظهر تباعًا بطلان آخران يرتديان نفس الألوان التى ظهرت فى الفيديو تقريبا، وهما «محمد عبدالرحمن»، و«محمد ذئب»، لكنهم جميعًا شاركوا فى الإطفاء مع آخرين قاموا بأعمال إنسانية تستحق التخليد.
وليد مُرضى، عامل بأحد أكشاك السكة الحديد على رصيف 4، فى عقده الرابع، ينتمى لقرية الحامول بالمنوفية، كان يمارس عمله اليومى فى بيع بعض المنتجات للمسافرين، حتى وقعت الفاجعة، وأصابه الذعر كغيره من المتواجدين، كانت النيران تلتهم اثنين من ضحايا الحادث أمام عينيه، سرعان ما تمالك زمام أمره وقرر أن يكون سببًا فى استمرار حياة هؤلاء الأشخاص.
لم يتردد وليد فى اللحاق بالأجساد المحترقة ليتمكن من إطفائها، بدأ بصب المياه على أحد المحترقين حتى تمكن من إنقاذه، وذهب لإحضار «جردل» جديد لإنقاذ غيره، غير أنه لوهلة أدرك أن المياه قد تودى بحياة أصحاب الحروق الخطرة، فغير خطة الإنقاذ، ليذهب لكشكه بعد ذلك ليجلب بعض «البطاطين والمفارش» واحتضن الأجساد المحترقة حتى أخمد نيران ما يقرب من 5 أجساد تقريبًا، بينما فشلت مساعيه لإنقاذ البعض فكان الموت مصيرهم!
يروى وليد تجربة الحياة والموت التى عايشها لـ«روزاليوسف»: مافكرتش إن النار ممكن تمسك فيّا، حتى لو كانت مسكت مكنش عندى مشكلة، كنت بفكر أنقذ الناس بس، كانوا بيستنجدوا بيا وبيقولولى «الحقنا.. أنقذنا»، مكنش ينفع أسيبهم وأجرى».
وليد يعمل فى الشركة الوطنية لخدمة عربات النوم التابعة لهيئة السكة الحديد منذ نحو 16 عامًا، فالصدفة وضيق الحال هما ما دفعاه لتقلد هذه الوظيفة، كان يعمل من قبل فى شركة إنتاج بطاطس كسائق نقل، بعد أن حصل على دبلوم تجارى خمس سنوات، لم يكن راضيًا عن مهنته كبائع فى كشك بمحطة السكة الحديد، ولكنه اليوم أدرك قيمة عمله، وبات فخورًا به.
لم يكن «وليد مُرضى» هو بطل محطة مصر الوحيد، بل شاطره زملاؤه بالأكشاك المجاورة مهمة إنقاذ أرواح رواد القطار المشئوم، رامز فوزى مشرف الأكشاك برصيف رقم 8، كان يمارس عمله بشكل طبيعى حتى حلت تلك الكارثة، لم يفكر مرتين حينما اندفع لجلب العديد من البطاطين لإسعاف المحترقين، بسبب انفجار «تنك الجاز» الذى كان يحمل 2 طن من الجاز أمام الرصيف.
طفل صغير، لم يتعد الـ8 سنوات، لمس يد المشرف لحظة تجمد فكره بسبب الصدمة التى رآها أمامه، لم يوقظه من حالة الذهول تلك سوى رؤية جسد الصغير المحترق يستغيث به «بابا الحقنى»، فاندفع رامز إلى الكشك لجلب بطانية لإخماد النيران المشتعلة بجسده، وظل الطفل يخبط بيده ورأسه على الأرض من شدة الحرق، حتى خفت وهج نيرانه، ونقله إلى رصيف أمان، لكن لم يمكث دقائق حتى فارقت روحه الطاهرة الأرض وتوجهت إلى السماء.
تأثر مشرف الرصيف بالموقف، لكن لم يسمح لمشاعره أن تقوده أو تعرقل مهمته، وتحرك ليحاول إنقاذ غيره، وهو ما حدث بالفعل مع ما يقرب من 3 أشخاص تمكن من إنقاذهم، ونقلوا جميعًا كإصابات إلى المستشفيات لتلقى العلاج، لكن بعض الحالات لم يحالفها الحظ، وفارقوا الحياة.
يقول أشرف السيد أحد عمال أكشاك السكة الحديد: الجثث كانت على القضبان بتتفحم وتستغيث، مكناش قادرين ننقذهم زى اللى كانوا على الرصيف، لأن النار حجبت رؤيتهم فاندفعوا بأجسادهم المحروقة ناحية منبع النيران، مما أدى إلى ازدياد الأمر سوءًا وانتهت حياتهم فى الحال.
محمد عبدالرحمن، العامل بأحد أكشاك الرصيف كان الأول فى الإسراع نحو إنقاذ المصابين، فلم يفكر فى إنقاذ نفسه، بل سارع نحو من التهمتهم النيران، وصرخوا مستغيثين طلبا للمساعدة، ليحمل «جركن» المياه، الذى كان بالقرب منه سريعًا، ويخرج لإطفاء أول من قابله على سلم نفق للمشاة بالرصيف الذى شهد الحادث.
يحكى «عبدالرحمن» البالغ من العمر 32 عاما، والمقيم بمحافظة الشرقية أنه تحرك سريعًا بمشاعر الإنسانية الكامنة داخله كونه أبًا لطفلين، لإنقاذ طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره بعد سقوطه بين القضبان، لإخماد الحريق المشتعل به بالبطانية، التى كان يستعين بها لتحميه فى أيام برد الشتاء القارس، «الطفل ده أول ما شوفته والنار قايدة فيه افتكرت عيالى، وجريت عليه أطفيه، ببطانيتى، صورته مش عايزة تفارق عينى».
بطل آخر خرج لإنقاذ المصابين فى الحادث، هو محمد الذئب، الذى يعمل فى الكشك التابع للشركة الوطنية لإدارة عربات النوم، وكان يقف محاولًا لملمة ما تبقى من السلع الغذائية، التى أصابها الحريق بسرعة مرددا كلمات «الحمد لله»، بعد أن تمكن من النجاة من الحادث المفزع، الذى كان على بعد أمتار منه.
«لقينا صوت بيقول لنا اطلع بسرعة، الحقوا الناس»، كانت هذه الكلمات كفيلة بهرولة الذئب خارج الكشك ليجد أمامه العديد من المصابين بحرائق، اندلعت النيران بأجسادهم، ليحاول إخمادها بالبطانية، إلا أنه توفى بين يديه، طفل من شدة الحريق، الذى التهم جسده، ولكنه توقف لثوانٍ معدودة من هول الصدمة، ليعاود إنقاذ 10 مصابين أشخاص آخرين كانوا بمواجهة الجرار المشتعل.
أصعب مشهد، رآه الذئب، وهو فى مهمة إنقاذ الضحايا، كان التهام النيران جسد صديقه المقرب أمام عينيه، والذى كان أحد عمال النظافة بالمحطة، «لحظات عمرى ما هنساها فى حياتى، ربنا يرحمه، كان أخويا وصاحبى، ويرحم كل شهداء الحريق».
العاملون بالسكة الحديد هم أيضًا فقدوا اثنين من زملائهم ممن تطوعوا لمساعدة المصابين، فدفعا حياتهما ضريبة شجاعتهما، يروى العاملون القصة، قائلين: زميلنا أيمن ممدوح عبدالعزيز بالعقد الثالث من عمره، كان على الرصيف بالقرب من مكان اصطدام القطار، وشاهده البعض يمر بالجوار أثناء الحريق، والبعض الآخر رآه يسعف المصابين، لكنه وسط الأحداث فُقد تمامًا، فلم ُيعثر عليه بين الجثث أو المصابين، حتى اتصلنا بمستشفيات مصر كلها لم يستدل عليه أحد حتى الآن.
لم يكن ممدوح وحده المفقود دون معلومة تثبت إن كان حيًا أو فارق الحياة، صاحبه فى الأمر شاب عامل بالمحطة يدعى إبراهيم محمد، لم يتجاوز الـ17 عامًا، لايزال مصيره مجهولاً هو الآخر، ولم يستطع زملاؤهما فعل شىء إلا تحرير محضر فقد بالقسم لإثبات الحالة، ومحاولة العثور عليهما بالطرق كافة، فهما ساهما فى إنقاذ كثيرين، ولم يتمكن أحد من إنقاذهما.
أعمال البطولة لم تكن مقصورة على المتواجدين داخل أسوار المحطة، فخارج حدودها كان عدد لا يستهان به من الشباب المصرى، قرروا جميعًا المساهمة فى إنقاذ أرواح المصابين والناجين بحروق فى الجسد إثر الحادث، فشهدت المستشفيات حول منطقة رمسيس، إقبالاً كبيرًا من الشباب الذين وقفوا مصطفين فى طوابير طويلة للتبرع بالدم، فى مشهد مهيب، أشاد به كل من وقعت عيناه عليه، حتى إن القائمين على بنك الدم بمعهد ناصر رفضوا الحصول على تبرعات أخرى بعد ما أكدوا أن البنك استقبل 1100 كيس وهى تكفى لشهر قادم.
 بسمة درويش، لم تتجاوز الـ23 عامًا من عمرها، كانت ببلدها الأم بنى سويف فى يوم إجازة عادى، قررت العودة إلى القاهرة لاستكمال محاضرتها فى معهد اللغات والترجمة التابع للقوات المسلحة، تزامنًا مع وقوع الحادث المفجع، أثناء تصفحها لمواقع السوشيال ميديا لتهوين طريق سفرها، قرأت عن الحادث، مناشدات العديد للتبرع بالدم، ترددت فى البداية خوفًا من ضعف جسدها بعد التبرع، لكنها لم تترك نفسها للظنون وقررت التبرع مهما كلف الأمر، فلم يكن فى ذهنها سوى المساهمة فى إنقاذ الأرواح الباقية، وهو ما حدث بالفعل وتبرعت بكيس كبير من الدم، وتركت الباب خلفها للمنقذين التالين.
أما عن جهاد محب الشاب البالغ من العمر 32 عامًا، فكان يستعد فى بداية يومه كالمعتاد، للذهاب إلى عمله فى إحدى الشركات القريبة من منطقة رمسيس، حيث يعمل رجل مبيعات هناك، لكنه اضطر لقضاء بعض المشاوير الخاصة قبل ذلك، وأثناء تصفحه على الفيس بوك، شاهد الأحداث الرئيسية لليوم، والتى تمثلت فى حادث محطة مصر، فلم يتردد فى قراره وذهب إلى إحدى عربات التبرع بالدم الموجودة أمام موقع الحادث برمسيس وتبرع، وعند انتهائه كتب على صفحته الخاصة على الفيس بوك، مناشدة للشباب القادرين والمتواجدين فى محيط الحادث للذهاب والمشاركة والتبرع بالدم، حتى عزم عدد كبير من زملائه على الذهاب والتبرع بالدم أيضًا مثلما فعل صديقهم.>