الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

تستعيد الساحة فى معرض الكتاب

تستعيد الساحة فى معرض الكتاب
تستعيد الساحة فى معرض الكتاب


فرح أَبىّ

انزوت القصة القصيرة فى ركن قصىّ فى العقد الأخير، مُراقِبةً الرواية فى صمت وهى تستأثر اهتمام الجمهور والنقاد وحركات النشر، ففى سنوات بعد الثورة.. غالبية الكتّاب كتبوا الرواية.. كما ذاعت روايات بعينها، حديثها وقديمها، كأيقونات إنسانية صار يعرفها الجميع مثل: «قواعد العشق الأربعون» لإليف شافاق أو «مزرعة الحيوانات» لجورج أورويل. ثمة محاولات لإعادة فن القصة إلى مكانته، حيث بدا أن القصة قد بدأت بالعودة المتألقة من جديد.
«قميص تكويه امرأتان».. من عالم الصحافة إلى عالم الخيال
عندما يكتب الصحفيون القصص، تتوالد التوقعات والتكهنات، وأحيانًا الريبة، حيال ما سينتجون؛ فالآراء التى تحذر من إفساد لغة الصحافة وأسلوبها الجاف للغة الأدب ورهافته دائمًا ما تحوم فى الأرجاء، وتلقى على عاتق الصحفيين مسئولية إضافية لنفى هذه التهمة عنهم. فى مجموعته الأولى، يبدو أن الصحفى الشاب أحمد الدرينى، الفائز بجائزة هيكل للصحافة العربية وجائزة نقابة الصحفيين، قد تجاوز هذا الاتهام الساذج بسهولة لما هو أبعد من ذلك، وهو توظيف بعض مهارات الصحافة وتطويعها وتطويرها لخلق قصص عذبة، يتولد فى قلبك حبًا تلقائيًا لشخصياتها.
أقوى ما نجح الدرينى فى توظيفه فى مجموعته القصصية الصادرة حديثًا عن دار الشروق «قميص تكويه امرأتان» هو دقة الوصف وسلاسته لبناء مشهد متين يحاكى فى مخيلتك فضاء القصة، ويقرب إليك المشاعر. ويمكننا أن نلاحظ براعة تشبيهاته التى تعمل كبريد فائق السرعة «للحالة» والموقف الذى يريد وصفه فى أكثر من موضع، مثل وصفه لمعلمته المسيحية المسنة فى نكرانها للذات بقوله إنها «من الطراز الذى تحس معه أنه تلقى تربيته من السيد المسيح مباشرة»!
وقد ظهرت الخبرة الصحفية للمؤلف بوضوح بقصة «آذار»، تلك التى تحكى عن صحفى شاب بجريدة «اليوم» ومغامرته غير المتوقعة مع إحدى المطربات، حيث يوظف الدرينى بذكاء آراءه حيال عالم الصحافة وأسراره والعاملين به، فيحكى عن مصححى اللغة فى تحولهم إلى الكتابة الصحفية، وعن ندية الصحفى بمصدره، ثم صداقته وتوحده معه، وعن رؤساء التحرير والأقسام ودورة حياتهم العملية، كما استقى من صناعة التحقيقات الصحفية قدرته على إيجاد علاقات بين الأفكار والأحداث وربطها ببعضها لإنتاج نظرات جديدة وذكية للمعطيات من حوله، مثل قصة «الأيكيدو»، التى ربط فيها بين قواعد لعبة للدفاع عن النفس وابتداع وظيفة مربحة وسهلة، تقوم كلتاهما على تصيد أخطاء الخصم/الشركات الكبرى للفوز دون مجهود حقيقى.
لغة الدرينى سلسة ومتماسكة، والجملة غير متخمة بالتشبيهات «البايتة» والمتخبطة.
أما نهاية القصص فتشارك لغتها فى سلاستها.. نهايات مفتوحة، ولكنها منطقية، تسمح للقارئ بالبناء عليها فى مخيلته، وتجعله يتقبل قطع الأحداث عند هذا الحد، فهى ليست نهايات حادة ومبتورة كعادة مَن يتكاسلون عن التفتيش عن نهاية جيدة، ثم يقولون لك «أصلها نهاية مفتوحة»!
تتنوع عوالم القص فى هذه المجموعة كتنوع الحياة الواقعية.. الشخصيات، والمعانى، والمشاعر المحكية، قفز المؤلّف بخفة من عالم طفل يرسم علاقته بالمسيحية، إلى شيخ سلفى يقدسه تلميذه قبل أن تنكسر هذه الصورة فجأة، إلى شاب يقابل أشباح مؤسسى مسجد.. قصص متنوعة.. ومتعة متنوعة كذلك.
«كان يا ما كان».. تنويعات
عصرية على قصص الأطفال
بعد سبع مجموعات قصصية، ينتحى عبدالنبى فى مجموعته الجديدة «كان يا ما كان» الصادرة حديثًا عن دار العين لمعسكر الخيال كليةً، يرفع رايته، ويخوض فى أعمق نقاط أدغاله، يأتى بالقصص الخيالية العالمية من هولندا والهند والدنمارك والكثير من بلدان العالم ليعيد بناءها، ليس بما يتناسب مع قبح العالم كما يقول ظهر الكتاب، بل بما يتناسب مع رؤية جديدة متطورة ومختلفة للعالم من حولنا.. رؤية أكثر نضجا، وثراء، وخبرةً بحقيقة الحياة وتساؤلاتها.
لكل قصة من المجموعة مغزى واضح وقوى، كعهد قصص الأطفال العالمية، لكنها فى نسختها الجديدة بقلم عبدالنبى تخاطب عقلاً عميقًا كبيرًا، وتطرح فلسفات قوية تليق بمفكرين، وتتعرض لأفكار جدلية فى إطار ممتع وبسيط ومشوق، كمتعة الأطفال عند سماع حكاياهم قبل النوم. فمثلاً فى تحويره الجديد المدهش لقصة ذات الرداء الأحمر الشهيرة، نجده يحكيها من زوايا مختلفة تمامًا من زاوية «الرجل الأبيض» المقيتة كما يصفها.. يضيف شخصية غير متوقعة إطلاقًا فى سياق القصة.. فتى كشافة ممتلئ ومبتسم دائما! كما يحمل فلسفة قوية حيال التكرار وتقليدية الحياة، ويرصد وقوع الإنسان فى فخ أسود من شهواته، وتصارعه حول تحديد مصيره. النسخة الجديدة من ذات الرداء الأحمر نسخة بديعة، تنسلخ من السذاجة والتسطيح، حتى ليتمنى القارئ لو يسمع كل الحكايات التى عهدها منذ عشرات السنين بلسان عبدالنبى الفريد.
هناك بعض من الإطناب فى وصف فكرة وصلت بالفعل للقارئ، ربما يكون ذلك تناسقًا مع طبيعة القصص الخيالية القديمة، التى قد تستخدم الإطناب كجزء من بنيتها لإتمام الوصف وضمان دخول القارئ فى عالمها غير الاعتيادى، إلا أن القارئ المعاصر غالبًا ما سيفضل الإيجاز والتكثيف.
تشاطر اللغة الخيال فى قوته.. ينفخ عبدالنبى روح الحرية والاختيار وتحديد المصير فى أبدان شخصياته، فلا تعود شخصيات مروية، بل شخصيات تحكم مصيرها، وتغيره بنفسها. وهذا التحول فى روح القصة هو نفس التحول الذى حدث بين عصر ظهور هذه القصص منذ عشرات السنين، وبين العصر الحالى الذى يسعى فيه كل فرد لرسم مساره بنفسه، مغلقًا فم الراوى الذى يقرر لنا أى طريق نسلك. فسندريلا مثلا صارت ملكة لعالم خالد لا يفنى، محكوم بالذكاء الاصطناعى على كوكب آخر، ولكنها ترفض هذا الخلود وتحنّ للفناء وحياة الكد والأحداث المتقلبة على كوكبها القديم، متحدية أوامر الملك بنفى كل من تسول له نفسه بالحديث عن العودة للأرض الفانية. وكذلك الجندى ذو الساق الواحدة الذى لا يكتفى بفهم سبب نقصانه، بل يسأل صانعه عن السبب الخفى لعلته دونًا عن بقية الجنود كلهم.
«تقرير عن الرفاعية» أفاعى
الغرائبية والواقعية معًا
حسنًا.. هذه ليست بمجموعة سهلة! ليس سهلاً تصنيفها، ولا الحكم عليها، مبذول فى صنعها مجهود واضح، يستلزم بالتبعية مجهودًا مماثلاً من القارئ، ليتنقل بين شوارعها التى تبدو له فى البداية هادئة، لكنه سرعان ما سيكتشف، مع كل قصة يقرأها، أنه يغوص فى عالم كامل يبطن أكثر بكثير مما يظهر.. فى «تقرير عن الرفاعية» لمحمد الفولى الصادرة حديثًا عن الكتب خان يكتشف بمرور الصفحات أنه أمام كم كبير من الغرائب المختبئة التى ظهرت دلائلها على الطرقات طوال المجموعة، لكن «الفولى» كان ماكرًا بالقدر الذى يمكنه من الاحتفاظ بموعد مفاجأتك بحقيقة هذه الدلائل فى الوقت الذى يريد.
تنقسم المجموعة لقسمين، بهما اثنتا عشرة قصة جميعها يحكى عن مشاهد منفصلة من حياة نفس البطل، حتى ليبدو أن «الفولى» يوازن بين ملامح القصة والرواية لاستقطاب محبى كلتيهما، إلا أن القارئ لا يدرك هذا الرابط إلا بعد مرور عدة قصص! إذا سيبدأ اكتشاف شخصيات وأماكن وأحداث مشتركة بين القصص جميعها، ويقوم بربطها، فى لحظة انتباه نادرة، ليدرك أنها تدور حول نفس الشخصية ونفس عالمها.
«الفولى» الذى ترجم العديد من أعمال الأدب اللاتينى، يبدو أنه قد تأثر بوضوح بأشهر ما يعرف به هذا الأدب من «واقعية سحرية»، إذ يتداخل الوهم بالحقيقة ليضع القارئ فى حالة برزخية بين الحلم واليقظة، تلك التى تتداخل فيها أصوات الواقع بأحداث الحلم، فلا تستطيع التفرقة بينهما، وذلك من خلال بطل يعانى من اضطرابات النوم التى تجعله يرى الهلاوس نائمًا، وبعد قليل يبدأ برؤيتها مستيقظًا. ولا يكتفى بهذا، بل يتلاعب بالزمن فى القصة الواحدة كما يتلاعب محترف ألعاب الخفة بورق الكوتشينة؛ إذ تلعب الذكريات فى القسم الأول من المجموعة «أبطال منسيون» دورًا أساسيًا فى بناء كل قصصه، وتأتى جملة البطل فى قصة «أيمن حلاله» لتوضح كيف تتحكم فيه الذكريات وتشكل عالمه: «لكن الماضى يجذبنى بسهولة كمغناطيس يجذب مسمارا، يشدنى عبر أتفه الأمور، كفأر، مجرد فأر».
نهاية هذه السلسلة القصصية بديعة ومميزة وغير معتادة، إذ تتوِج ذكاءً وقدرةً عالية على المراوغة، حيث يكشف أخيرًا ما يربط كل هذه القصص بالأفاعى! ويفسر الكثير من الأحداث الغريبة غير المنطقية التى حدثت للبطل فى كل القصص.. ستكتشف أن الأفاعى كانت دائمًا هنا.. فى مكان ما بالقصة دون أن تنتبه لها، وستجد أن مقابلته للأفعى وجها لوجه فى المصعد بقصة «كشف حساب» إنما هى امتداد طبيعى لهذا الرابط المدهش بين القصص، ثم بعد ذلك اختفاؤه تمامًا.. ستذهل كثيرًا من أسباب هذا الاختفاء. وهو ما يفسر اختيار الفولى لعنوان مجموعته «تقرير عن الرفاعية»، هؤلاء الذين اشتهر عنهم حيلهم فى التعامل مع الأفاعى.. سيجد القارئ نفسه مشدوهًا مما سيقرأ فى النهاية، وحين يتملكه الذعر ويحاول الخروج من هذا العالم.. لن يستطيع، فمن يقع عليه الاختيار لدخول عالم الرفاعية، لن يخرج أبدًا!