الإثنين 1 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
يوسى كوهين: قرارات مصر هى التى تحدد هندسة المنطقة

يوسى كوهين: قرارات مصر هى التى تحدد هندسة المنطقة

‏هذا قول له معنى واضح، أن مصر هى مفتاح الشرق الأوسط، وحجر زاويته فى القضايا ‏الكبرى، وقائل هذه العبارة ليس رجلًا عاديًا،  بل ضابط فى المخابرات الإسرائيلية (الموساد) لـ ‏‏38 سنة، حتى ترأسه من 2016 إلى 2021، بالطبع لم يقلها صراحة، فمن المؤكد أنها ثقيلة ‏على قلبه وعقله، خاصة أن إسرائيل تحاول منذ بدء العشرينية الثانية من القرن الحادى ‏والعشرين أن تعيد تشكيل الشرق الأوسط على هواها ومصالحها، وتمد خيوطها العنكبوتية ‏بإصرار شرقا، تحت عنوان براق مخادع، هو الاتفاقات الإبراهيمية مع دول عربية لا حدود ‏لها مع إسرائيل، ساعيةً أن تكون السيد الحاكم فى المنطقة، فكيف يقولها ومصر واقفة لها مثل ‏اللقمة فى الزور، حتى إنها دون أن تنطق حولت «السلام الإبراهيمى» الذى اخترعه الرئيس ‏الأمريكى فى ولايته الأولى إلى نكتة عارية، يمكن أن تضحكنا ونحن مطأطأون الرأس خجلًا ‏من سوءتها. 



قائل العبارة هو يوسى كوهين رئيس الموساد السابق، صهيونى حتى النخاع، على شاكلة ‏بنيامين نتنياهو، يريد سلاما مع العرب (الطيبين)، ويأخذ معه بعضا من أرضهم، ويحتفظ ‏أيضًا بالأماكن المقدسة إلى الأبد، ويتوعد بأنه سيحارب من يناهض رؤيته لإسرائيل «بحرب ‏كالجحيم»، مستندًا إلى وصف دونالد ترامب له حين التقيا ذات يوم فى واشنطن وهو رئيس ‏الموساد: كيف حال أقوى رجل فى الشرق الأوسط؟!‏

وقالها كوهين فى كتابه الصادر بالعبرية بعنوان: «الحيل تصنع لك حربًا»، وبالإنجليزية: «‏سيف الحرية.. الموساد والحرب السرية».‏

الكتاب صدر قبل  شهرين، وأفردت له  الصحف العالمية والمواقع على شبكة الإنترنت وعلى  ‏صفحات التواصل الاجتماعى مساحات لشرح بعض الأحداث التى رواها والرؤى التى دافع ‏عنها، وفسروا الكتاب وما رواه كوهين عن نفسه وزوجته وصهيونيته بأنه يقدم أوراق ‏اعتماده إلى الجمهور الإسرائيلى، ليختاروه فى دور قيادى جديد، رئيس وزراء إسرائيل، ولم ‏لا وهو يتمثل ثلاث شخصيات سياسية لها مكانة فى تاريخ الدولة العبرية، باعتبارهم المثل ‏الأعلى والنموذج الذى سيمشى على خطاهم وهم: ديفيد بن جوريون مؤسس الدولة، وزئيف ‏جابوتنسكى ومناحم بيجين مؤسسو اليمين الصهيونى.‏

وطبيعى أن يلجأ كوهين إلى أحداث مخابراتية مثيرة صنعها وهو ضابط فى الخدمة، يسوق ‏بها نفسه عند الإسرائيليين، لينتظروه على أبواب صناديق الانتخابات، فيستعرض عملية ‏سرقة الأرشيف النووى الإيرانى فى عام 2018، كما لو كان يفسر لماذا نجحت إسرائيل فى ‏ضرباتها الجوية للمواقع النووية الإيرانية فى يونيو الماضى، فهو الذى رسم خطتها من ‏الألف إلى الياء، ويقول فى عبارات تدغدغ المشاعر: «كنت صبيًا يتخيل نفسه وكيلًا ‏يتجسس بعيون صقر، وبخبث ثعلب، وبقدرة النمر على الوثوب وعندما يقوم بالمهمة، يتمتع ‏بصبر القناص، وعفوية الساحر»!‏

هذا خيال روائى يحاكى صورة «جيمس بوند» الجاسوس الماكر فائق الذكاء، الذى اخترعه ‏الكاتب البريطانى إيان فيلمنج فى رواية «كازينو رويال» عام 1953، ثم كتب عنه بعدها 11 ‏رواية متتالية، وختمها بـ«الرجل ذو المسدس الذهبى» فى عام 1965، كان عمر كوهين ‏وقتها أربع سنوات فقط!‏

واختراق إسرائيل لأمن بعض الدول، خاصة التى بها جاليات يهودية كبيرة أو صغيرة له ‏تاريخ قديم وتتسم بالسهولة، فالانتماء إلى إسرائيل غالب على عدد غير قليل من أعضاء هذه ‏الجاليات المتناثرة فى أكثر من مئة دولة، ينفذون ما يطلب منهم بدقة ومهارة متوارثة، حتى ‏فعلوها مع الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وإيران بها جالية تقدر بـ25 ألف يهودى، يعيش ‏أغلبهم فى طهران وشيراز وأصفهان.‏

أى كان الحصول على «تفاصيل» المشروع النووى الإيرانى أو معلومات عن تحركات قادة ‏الحرس الثورى فيغتالون فى طهران أو بغداد أو دمشق أمرًا ليس صعبًا، ويضرب كوهين ‏مثلا بعملية اغتيال قاسم سليمانى بغارة أمريكية فى بغداد، وكيف ذهب بنفسه إلى واشنطن ‏وأمدهم بمعلومات وفيرة جدًا عنه، فمنحوه ميدالية عرفان بالجميل.‏

لكن عملية اختراق حزب الله اللبنانى كانت أصعب نسبيًا، ولا أصدقه فى أن الموساد اخترق ‏الحزب أيام احتلال القوات الإسرائيلية جنوب لبنان، فسنوات المقاومة (1982-2000) ‏صنعت حزبًا صلبًا متماسكًا موحدًا له قضية وطنية ملحة وهى تحرير التراب اللبنانى، لكن ‏بعد إجبار إسرائيل على الخروج من الجنوب، انفتح المجال السياسى والاقتصادى على ‏مصراعيه أمام رجال الحزب، وصاروا بحكم السلاح الذى يملكونه أصحاب سطوة ونفوذ، ‏فتسلل إليهم فيروس المطامع والصراع على الثروة والسلطة، ليفتك بقيم الولاء للقضية، ومنا ‏هنا دخل الموساد إلى النفوس الأضعف، واخترق الحزب عرضًيا ورأسيًا، وهى ما تدل عليه ‏عملية انفجارات البيجر فى بضعة آلاف من أعضائه، واغتيال الكثير من قياداته بمن فيهم أمينه ‏العام الرمز حسن نصر الله.‏

 أين إذًا مصر من كل هذا؟

تسطع مصر دورًا وقيمة فى مواجهة خطة تهجير الفلسطينيين من غزة، ويوسى كوهين هو ‏صاحب الفكرة، بالرغم من انتهاء خدمته فى الموساد، وغلفها بإنسانية زائفة، أن تكون هجرة ‏مؤقتة حتى يمكن تقليل عدد الضحايا من المدنيين الذين يسقطون فى الحرب دون ذنب سوى ‏وجودهم فى أرض العمليات العسكرية، وقد وافق عليها مجلس الوزراء الإسرائيلى، وكلفه ‏بأن يتحرك إلى عدد من الدول العربية، ليقنعها بالقبول، وفعلا سافر إلى عدة عواصم، وعندما ‏أبدى عرب هذه العواصم تخوفهم من أن تكون الهجرة دائمة، كما لو أنهم موافقون على ‏هجرة مؤقتة، عرض عليهم أن يأتيهم بضمانات دولية مكتوبة من خمس دول هى:أمريكا ‏وبريطانيا والهند والصين واليابان، وبالفعل بدأ فى إجراء اتصالات بها للحصول على هذه ‏الضمانات، المدهش أن ثلاث دول من هذه الخمس كانت تؤيد إسرائيل فيما ترتكبه من جرائم ‏ضد الإنسانية فى غزة، وأتصور لو أن إسرائيل تراجعت عن وعدها وأغلقت أبواب العودة ‏فى وجه أهل غزة، فلن تفعل هذه الدول شيئا، وقد تقبل الأمر الواقع وتدافع عنه.‏

هنا ردت مصر بكل قوة وإصرار: لا.. وقال الرئيس عبدالفتاح السيسى إن التهجير خط ‏أحمر، لن تقبله مصر بأى حال من الأحوال. فصار تنفيذ الخطة مستحيلا!‏

وكلنا يتذكر حجم الضغوط التى تعرضت لها مصر طيلة عامين من الحرب، مكالمات كثيرة ‏من قادة دولة أجنبية مع الرئيس السيسى، وزيارات ولقاءات تطلب: هل يمكن لمصر أن تفتح ‏‏ سيناء أمام الفلسطينيين ليفروا من الجحيم الإسرائيلى مؤقتا؟!، سؤال مسموم منقوع فى قطرة ‏عسل! ‏

لم تبلع مصر خدعة يوسى كوهين، لأنها أدركت أن عبارة الترحيل المؤقت، تشبه الموت ‏السريرى، مجرد «تصريح» إلى الرحيل الدائم.

وظل الرد الحاسم مشهرًا: هذا يعنى تصفية القضية الفلسطينية، ولا يمكن أن نقبله!‏

ولهذا حين يذكر كوهين اسم مصر فى كتابه، تتغير لغة الحكى، فهو يعرف أن ما تتخذه ‏مصر من قرارات يرسم حدود طموح إسرائيل.‏

فى المقابل تتعامل إسرائيل مع بعض الدول العربية من منظورين، إما ساحات نفوذ لها، أو ‏شركاء مؤقتين فى علاقة قابلة للنمو. ‏

ويقول بالنص: مصر ليست دولة تُجر إلى هندسة إقليمية، بل هى دولة تحدد قراراتها إمكانية ‏تحقيق هذه الهندسة.‏

ولهذا حين حصلت إسرائيل على دعم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب حتى تبنى خطة تهجير ‏أهل غزة، وبناء ريفييرا فيها، لم تتقدم الفكرة خطوة واحدة إلى الأمام، بل العكس هو الذى ‏حدث، مصر أقنعته بالتخلى عنها تمامًا، والبحث فى بدائل إيقاف الحرب نهائيا.‏

باختصار وحسب اعترافات رئيس الموساد السابق، مصر هى التى أفشلت تهجير أهل غزة، ‏حافظت على القضية الفلسطينية من مؤامرة التصفية.‏