طارق الشناوي
كلمة و 1 / 2..
بحب السيما.. أقصر طريق إلى الجنة
استطاع فيلم (بحب السيما) للراحل أسامة فوزى، أن يحتل مكانة استثنائية فى تاريخنا السينمائى، تم الإجماع عليه بتصويت ديموقراطى من عشرات من النقاد وصار يتربع على المركز الأول كأفضل فيلم فى ال25 عامًا الأخيرة، والغريب أن هذا الاستفتاء الذى أقيم بالشراكة بين مهرجان القاهرة السينمائى الدولى وجمعية النقاد الدولية، لا حس ولا خبر، المهرجان لم يعره اهتمامًا لائقًا، ولا جمعية النقاد، ولهذا وجدت أنه برغم صخب الأحداث الفنية والثقافية حولنا فإنه يستحق أن نستعيد معًا قراءته.
(كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة) هكذا قال الإمام النفرى، هذا هو مأزق فيلم «بحب السيما» تنهمر عليك المعانى، وتتضاءل أمامك الكلمات.
فما حدث لى بعد مشاهدة هذا الفيلم أننى أصبحت أكثر شفافية وقربًا إلى الله.. إنه فيلم يتجاوز فى تفاصيله المرئية والمسموعة كل المعانى الفكرية المنسوجة داخله، ويسمو على من يريد أن يقيده بدين أو مذهب لينطلق ويحلق بك بعيدًا، بعيدًا، كل العلاقات والشخصيات تحاول أن تعثر على صيغة للعلاقة مع الخالق، الكل مؤمن به، ولكن ما هو الطريق؟ هل نخشى من العقاب أم نترجى الثواب؟ هل الحرمان من ملذات الدنيا يعبر بنا إلى شاطئ الجنة، يجنبنا لهيب النار، ويقربنا من نعيم الجنة، الكل يحاول، إلا أن الطريق كان ولا يزال، لمن صدق، وليس لمن سبق.
شخصية الطفل (نعيم) هى الأكثر قربًا إلى الله لأنها بشفافية وبكارة عرفت أن الخلاص يتحقق بالحب الخالص، نصل إلى الله.. وأن عدالة السماء أكثر رحابة مما يعتقد البشر.
أنا لا أرتاح إلى تلك القراءة السريعة التى تقيد الفيلم فى إطار أنه يقدم الشخصيات القبطية أو برؤية أكثر اتساعًا المسيحية، تلك التقسيمة الهندسية، بين المسلمين والأقباط لا تعبر عن الروح الحقيقية للفيلم، ما رأيناهم فقط مصريون يعيشون فى المجتمع يخضعون للأعراف الاجتماعية التى توارثناها، وكل العلاقات بين الأب محمود حميدة وأبنائه، وبينه وبين الأم ليلى علوى حتى علاقتهم مع الله، لو أنك نزعت عنها بعض التفاصيل فى أسلوب العبادة، وليس الهدف من العبادة، لاكتشفت أن الدين هنا هو الدين فى المطلق، يحتمل أن يصبح كل الأديان.
حتى المرحلة الزمنية التى اختارها الكاتب هانى فوزى والمخرج أسامة فوزى وهى النصف الثانى من الستينيات فى القرن الماضى، تسمح لك بأن تضيف إليها سنوات لتصل بك إلى هذه اللحظة، أو تختصم منها سنوات لتعيش فى زمن أسبق.
الطفل نعيم الذى يؤدى دوره يوسف عثمان يحب السينما، السينما هى المعادل الموضوعى للحياة، والله خلق الإنسان لكى يعمر الأرض ويجمل الحياة، ولهذا كان الطفل فى الفيلم هو الراوى للأحداث سواء التى شاهدها، أو التى تخيل حدوثها، ويبدو حضور الطفل بوجهه البرىء برغم تلصصه على كل ما يجرى حوله، وبتلك الابتسامة التى تفتح القلب وتوقد الذهن، وكأنه يقول لنا دائمًا أن الدنيا أجمل، وأن سماحة الله أرحب، ولهذا عندما يموت جد الطفل الذى أدى دوره (رؤوف مصطفى) نجد أن الطفل يعيد فتح جهاز التليفزيون، ليتواصل ضحكه مع اسكتش كان يقدمه فى تلك السنوات (ثلاثى أضواء المسرح) سمير وجورج والضيف أحمد.
الطفل متيم بالحب لجده، لكن الموت هو مرحلة ثانية للإنسان يذهب جده الحبيب إليها والحياة مستمرة، فكان ينبغى أن يكمل الاسكتش الضاحك، الأب محمود حميدة، عليه أن يعيش كإنسان إلا أنه يحاول أن يعثر على أسلوب لا يتحمله كإنسان، وهو أن يغلق تمامًا باب السعادة الحسية بحجة أنها تتناقض مع السعادة الروحية، إلا عند بعض ضيقى الأفق. ولهذا كان السيناريو يحرص دائمًا على أن يقدمه لنا فى حرصه الزائد على فروض العبادة من صلاة وصيام، إلا أنه لا يلبث أن يتفوه بلفظ جارح، الإيمان الحقيقى لم يسكن قلبه، الشعائر الدينية المجردة لا تهذب الروح إذا لم يدعمها العمل والتفاعل مع الحياة والتسامح حتى مع هفوات البشر!
مكان العبادة سواء أكان كنيسة كما هو فى هذا الفيلم، أو جامعًا، هو فى النهاية تجمع للبشر، لا يمكن للأسوار التى تحيط مكان العبادة أن تعزله عن الحياة، ولهذا كما تظهر شرور البشر خارج الكنيسة نراها أيضًا فى صحن الكنيسة.
إننا بصدد شخصيات إنسانية بلا أوراق (سوليفان)، هو لا يستدعى شخصيات متعارف عليها من الأرشيف حتى لو كان أرشيفه الخاص، سيناريو هانى فوزى لا تستطيع أن تضعه داخل قاعدة محددة، فن الحبكة الدرامية وتتابع الأحداث، الكاتب هنا يمتلك مساحات من الحرية فى التعبير فهو لا يشعرك أنك أمام عمل مصنوع وفقًا لخط تقليدى له بداية ووسط ونهاية، أنه يتعمق فى الفكرة يحفر فى أعماقها يغوص فى تفاصيلها، ولهذا فى كل مشهد يدهشنا هذا الحضور المكثف لفكرة الفيلم وهى العلاقة مع الله، وفى نفس الوقت تلك البساطة فى الحوار أو التعليق حتى قفشات الطفل فى عتابه مع الله تمنح الفيلم عمقًا روحيًا!
محمود حميدة تبدأ علاقته العميقة مع الإيمان عندما يتحرر من الصرامة الظاهرية، وكأنها ثوب مفروض عليه ارتداؤه، عند تشابكه مع الحياة، ولكنه يتحرر من هذا القيد، ويطلق العنان لمشاعره العميقة والصادقة، مع زوجته وابنه، تحرر حميدة من القيود وبعدها تحرر من الحياة نفسها، عاش الحياة كما يريدها لنا الله، ولكن ليلى علوى لأنها فى النهاية مكبلة اجتماعيًا فإن قيدها لم يكن بسبب الزوج.. المجتمع نفسه بكل أطيافه هو الذى يحيل حياة الناس إلى جحيم، ولهذا يبدو أنها حملت الشعلة بعد الأب واستمرت، بل أمعنت فى القسوة.
إننا أمام حالة من الوهج الإبداعى على مستوى أداء الممثلين لاشك أن ليلى علوى تصل بهذا الدور إلى الذروة. فنحن أمام ممثلة من الطراز النادر، وكأنها كانت تنتظر هذا الدور طوال ٢٠ عامًا هو عمرها الفنى.. محمود حميدة بتلك النظرة الثابتة التى تخفى دائمًا ضعفًا ما.. إنها نظرة صارمة تخشى أن يفتضح أمرها، ولهذا تزداد صرامة وقسوة وكلما حدث ذلك تستطيع أن تلمح شلال الضعف الذى يكمن خلفها.. أداء يصل إلى تخوم الأستاذية.
منة شلبى فى دور شقيقة ليلى علوى نعيش معها نشوة من التلقائية، عايدة عبدالعزيز فى دور أم ليلى علوى بسمة صاخبة، أحمد كمال ممثل عتويل ورؤوف مصطفى أبو ليلى علوى لا أنسى له مشهده مع حفيده عندما يبدأ فى تفنيط أوراق الكوتشينة العارية على صدره، ينقلب فى لحظة من الغضب إلى الرضا، الوجه الجديد «إدوارد» فى دور خطيب «منة»، أعتقد أن هذا الدور الصغير سوف يفتح له آفاقًا قادمة، ويطل علينا الطفل يوسف عثمان بهذا الحضور الأخّاذ، ولا شك أن المخرج أسامة فوزى هو الذى اختار، وهو الذى وجهه، وهو الذى استخدم المونتاج ببراعة لتظل براءة عيون الطفل التى تجمع بين الدهشة والبسمة هى شاهد الإثبات على أحداث هذا الفيلم، ولا يمكن أن أنسى الراوى شريف منير بهذا الأداء الصوتى الذى لايزال منتميًا إلى عالم الطفولة والبراءة.. بالفيلم عناصر تميزت وأبدعت الإشراف الفنى لصلاح مرعى لأن الفيلم هو حالة مرئية بقدر ما هو حالة فكرية، فكان ينبغى أن يضبط هذا الترمومتر المرئى صلاح مرعى.. وأمامنا إبداع خاص أيضًا من مدير التصوير طارق التلمسانى ومونتاج خالد مرعى وموسيقى خالد شكرى. إنها التفاصيل الدقيقة التى تنتج إبداعًا خاصًا.. من خلال المخرج أسامة فوزى الذى قدم أحد أهم الأفلام الاستثنائية فى تاريخنا السينمائى.
نعم كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، ولكنى خرجت من دار العرض وأنا أشد إيمانًا وحبًا لله الذى وسعت رحمته كل شىء، بينما ضاقت عقول وأفكار البعض عن استيعاب كل شىء!
ملحوظة: هذا المقال كتبته قبل 21 عامًا على صفحات مجلة (روزاليوسف)، أعدت نشره كما هو، وسوف تلمح فى الفقرة قبل الأخيرة (بحب السيما أحد أ هم الأفلام الاستثنائية فى تاريخنا السينمائي)، وهو بالطبع ما أكده الاستفتاء الذى صعد بالفيلم لتلك المكانة الاستثنائية!







