زرع-حصد- رسم
منة حسام
لم تستطع أن تقف مكتوفة الأيدى وهى تلعن الظلام، ولم تستسلم لمظاهر القبح المتناثرة حولها، وإنما قررت أن تتغلب على تحديات الواقع المعيق، صنعت من المناظر المقبضة حولها معالم جمالية تدخل البهجة على قلوب الناظرين، لتثبت لكل من معها أنه رُغم كل التحديات «لسة فيه أمل».
لأن الفن هو أكثر الأشياء التى تؤثر إيجابيّا فى نفوسنا، قررت «مها زين» معلمة التربية الفنية بمدرسة المصرية الإعدادية بنات بمنطقة بالجيزة بالتعاون مع مديرة المدرسة التفكير خارج الصندوق ووضع لمساتها على أرجاء مدرسة متهالكة تشققت جدرانها مع مرور السنوات وأصبح اللون الرمادى هو الغالب على مبانيها وحوائطها، وبالفعل تعاون أبناء المدرسة ليعيدوا تجديد وتدوير المقاعد المتهالكة واستخدامها كأدوات للزينة ولتجميل مدرستهم.
تخرجت «مها زين» فى كلية التربية النوعية شعبة تربية فنية عام 1993، كانت من أوائل دفعتها غير أنها لم تتمكن من مزاولة عملها كمعيدة بالكلية، وذلك لاضطرارها للسفر مع زوجها خارج البلاد، واستمرت مغتربة لفترة دامت عشرين سنة، وعند عودتها مرة أخرى أتيحت لها فرصة العمل كمعلمة تربية فنية، وبدأت أول عام لها فى المدرسة الابتدائية، ثم انتقلت إلى مدرسة المصرية الإعدادية منذ خمسة أعوام.
فوجئت «مها» بأن مخصصات مادة التربية الفنية فى ميزانية المدرسة محدودة بالإضافة إلى وجود جزء عملى للمادة، فكان تفكيرها الدائم عن كيفية توفير مستلزماتها الفنية وعدم الاكتفاء بالجانب النظرى فقط فى الدراسة، وأنه لابُدّ من تنمية مهارات الطلاب الفنية والحركية والخيالية من خلال «حصة الرسم» بالإضافة إلى تنمية الجزء الإبداعى للطالب، لذا فقد قررت أن تبدأ بجعل الجزء العملى قائمًا على إعادة تدوير الموارد المتهالكة وتجديدها وإعادة استخدامها.
بدأت تطالب التلاميذ بجمع وإحضار أى موارد لم تعد قابلة للاستخدام من اكسسوارات أو عبوات بلاستيكية أو معدنية أو ملابس قديمة لتبدأ بوضع أفكار لإنتاج منتج جديد صالح للاستخدام، وبالفعل بدأت منذ يومها الأول ولم تقف قلة الميزانية كعائق أمام سعيها لابتكار وإبداع وتنفيذ أفكار جديدة، وحرصت مها زين على جعل غرفة التربية الفنية معرضًا دائمًا للمنتجات التى صنعتها الطالبات بأيديهن لتحفيزهن ولتشجيعهن.
تقول مُدرسة التربية الفنية التى أصبحت قريبة جدّا من قلوب تلميذاتها إن عددًا محدودًا من الطالبات ساعدنها فى إنجاز الكثير من مهامها، فالفصل يحتوى على 30 طالبة تقريبًا، وهى تحضر معهن حصتين فى الأسبوع، ولذلك بدأت فى تنمية مواهب الطالبات فبدأت بعمل «مجموعة الموهوبات» تضم صاحبات المهارات فى الأعمال الفنية، بالإضافة إلى مجموعة أخرى تدعى «مجموعة النشاط» ممن هن أقل موهبة ودورهن مساعدة زميلاتهن فى عمليات التلوين وإنجاز المهام المطلوبة.
تعقد «مها» اجتماعات منفصلة شهريّا لجماعة النشاط وجماعة الموهوبين لوضع خطة زمنية لتنفيذ الأعمال المطلوبة، وهى تهتم بجميع الطالبات لتطوير إبداعهن حتى إن لم يكن ذوات موهبة، وفى حصصها لا تتعامل مع تلميذاتها بالطريقة التقليدية ولكن تبدأ بتغيير شكل مقاعد الفصل من خلال تقسيم الطالبات إلى مجموعات كل منها مكونة من 5 أو 6 طالبات ولهن قائدة ويبدأن التدريب على متطلبات العمل الجماعى.
مبادرة إعادة تدوير واستخدام المقاعد بالنسبة لمها كانت مقدمة لترسيخ فكرة إعادة تدوير المنتجات كفكرة أساسية فى حياتهن، ولم تكن فى بادئ الأمر مبادرة إنما كانت مجرد فكرة لتزيين جدران المدرسة.
طلبت مها زين من مديرة المدرسة «سوسن يوسف» الموافقة على فكرتها لتجديد المقاعد القديمة وجعلها فكرة للتزيين وبالفعل وافقت المديرة ولكن لم يكن هنالك ميزانية، فاتفقت المديرة والمعلمة على تحمل النفقات على نفقاتهما الخاصة وبالفعل اشترت «ألوان بلاستيكية للدهان» وسارعت بعرض الفكرة على مجموعة الموهوبات وأيضًا مجموعة النشاط لكى يبدأن بتنفيذ الفكرة.
فى أول السنة الدراسية جددت الإدارة المقاعد القديمة واستحدثت مقاعد جديدة، ولكن هنالك بعض المقاعد التى لا تصلح للتجديد فطلبت مها زين من المديرة أن تأخذ هذه المقاعد وتبدأ بالرسم عليها وتعليقها على جدران المدرسة لتزيينها، وبالفعل بدأت الطالبات ومعهن مها زين بوضع قطع من المقاعد ورحن يرسمن عليها.
اختارت مها الوجوه والماسكات الإفريقية حتى لا تقيد الفتيات بتصميم معين أو شكل معين، وتقول إنها دائمًا ما تترك المجال لخيالهن وإبداعهن، وإنها لو أجبرتهن على شكل معين يعد هذا مقدمة لقتل إبداعهن وخيالهن وهذا ما ترفضه، بالإضافة إلى أن الوجوه الإفريقية فكرة تتماشى مع نوعية الخشب ومع اللوف والجريد.
استمرت الطالبات ومعهن مها زين لمدة أسبوع كامل فى الرسم والتلوين فى وقت «الفسحة أو الحصص الاحتياطى» أو فى حصة الرسم لينتهين من 12 قطعة خشبية، وقد شارك فى هذه المبادرة 17 طالبة جميعهن بالمرحلة الإعدادية، وقد لقيت أعمالهن إقبالًا بالترحيب من الجميع بالإضافة إلى أن هنالك الكثير من موجهى مادة التربية الفنية والإدارات التعليمة طالبوا بتعميم هذه المبادرة على جميع أنحاء المدارس.
بالنسبة لمها كانت مكافأتها الحقيقية عندما رأت ناتج عمل طالباتها وروح التعاون والعمل الجماعى بينهن، وهو ما انعكس فى حرصهن على نظافة المكان والانتماء لمدرستهن بالإضافة إلى الفخر بناتج عملهن وأنهن أثرن فى محيطهن وساعدن على تزيين المدرسة.
«ساندى»- إحدى الطالبات اللاتى شاركن فى مبادرة إعادة التدوير، بالصف الثانى الإعدادى- قالت «فى البداية مكنتش بعرف أرسم وكانت هوايتى إللى بحبها هى التلوين، بس ميس مها كانت دايمًا بتشجعنا على الرسم وفعلا لقيت إن عندى موهبة الرسم وشاركت معاهم إحنا لنلون الديسكات عشان لازم أبين موهبتى وإبداعى للناس».
«فابرونيا أيوب»- طالبة بالصف الإعدادى- شاركت أيضًا فى إعادة تدوير وتزيين المقاعد المشاركة فى جماعة الموهوبات، قالت «ميس مها اختارت المميزات مننا فى الرسم وقالت لنا على فكرتها وهى الرسم على الخشب.. فى البداية إحنا مكناش فاهمين هنعمل إيه فبدأنا نرسم على الخشب بالرصاص الأول وبعد ما ميس مها جابت الألوان بدأنا نخلط الألوان الأساسية ونطلع ألوان فرعية وابتدينا نلون، واتفاجئنا بأن شكل الخشب طلع حلو جدّا وكل الناس انبهرت بيه».
أضافت فابرونيا بأنها شعرت بالفخر عندما استطاعت مع زميلاتها تحويل مقاعد مهملة مليئة بالأتربة إلى قطع خشبية فنية مليئة بالألوان المبهجة يستطيع الجميع الاستفادة بها.
الرسم كان بالنسبة لـ«ماريا كمال» شيئًا فى غاية الصعوبة، ولكن عندما كانت بالصف الأول الإعدادى بدأت معلمتها بتوجيهها ومساعدتها واستطاعت ماريا إخراج موهبتها، وقالت: «ميس مها حببتنى فى الرسم وخلتنى أطلّع الموهبة إللى عمرى ما عرفت أطلعها قبل كده».. وأتمت ماريا قائلة «ميس مها كانت دايمًا بتساعدنا وبتشرف علينا ومبتفرقش ما بينا، كنا كلنا واحد وإيد واحدة».>