الثلاثاء 7 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

سيناريست «حرَفى» فتَنَتْه الواقعية

سيناريست «حرَفى» فتَنَتْه الواقعية
سيناريست «حرَفى» فتَنَتْه الواقعية


وليد الخشاب
صورة الروائى الكبير نجيب محفوظ كما نعرفها اليوم قد ترسخت فى الربع الأخير من القرن العشرين وبدايات القرن الحالى: صورته كواحد من أهم الروائيين العرب، بل وشيخ الرواية العربية فى حياته. وقد تكرست هذه المنزلة بفضل الاعتراف العالمى بمحفوظ، الذى بلغ أقصى مداه بحصول صاحب «الثلاثية» على جائزة نوبل فى الآداب عام 1988.
انعكس هذا التكريس على المجتمعات العربية، لا سيما فى مصر، حيث تركز الاحتفاء بمحفوظ على الإقرار بتفرد موهبته الروائية وعلى عبقريته فى تصوير الواقع المصرى وفى إضفاء روح ملحمية أو صوفية أو شعرية على سرده. وبهذا، صار معتادًا أن نقرأ أن محفوظ رائد الرواية العربية.
لكن صورة نجيب محفوظ لم تكن دائمًا مرتبطة بكونه روائيًا عظيمًا. ولم يكن ينظر إليه دائمًا على أنه أعظم روائى مصرى فى عصره بلا منازع - وإن كان يستحق هذا اللقب فى تقديرى. يكفينا أن نتذكر أن الصحافة بين الستينيات والثمانينيات كانت عادة ما تشير إلى الثلاثى نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبدالقدوس بوصفهم أهم الروائيين المصريين. ربما اعتبرنا أن مكانة محفوظ قد ترسخت لأن عمره قد امتد لعقود بعد وفاة إحسان وإدريس، أو لأنه قد حصل على نوبل، أو لأن الحضور الصحفى لكل من إحسان وإدريس كان يرفع من أسهمهما الأدبية طيلة ممارستهما للكتابة فى الصحف اليومية، ثم ما لبثت قيمة هذه الأسهم أن اتخذت مكانًا طبيعيًا فى الميزان النقدى الذى رجح كفة محفوظ عن جدارة. المؤكد هو أن صورة محفوظ كروائى لا مثيل له لم تكن لها الغلبة قبل الثمانينيات. وأزعم أن لذلك صلة قوية بعلاقته بالسينما، تمامًا كما أن المكانة الرمزية لإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس كانت فى جزء منها مبنية على حضورهما كمؤلفين لقصص سينمائية.
إن سيناريوهات نجيب محفوظ ومعالجاته السينمائية لقصص الغير من الأمور المسكوت عنها اليوم فى الكتابة عن صاحب ملحمة «الحرافيش»، رغم أن نشاط محفوظ كسيناريست، وكاتب معالجات لقصص الأفلام، وكمقتبس وممصر للقصص السينمائية من الطراز الأول، لعب دورًا أساسيًا فى شهرة «الأستاذ» وفى احتفاء الصحافة المعاصرة له بين الخمسينيات والسبعينيات. بل وأزعم أن تفوق شهرة ومكانة محفوظ على إحسان وإدريس لم تقتصر على اهتمام النقاد والأكاديميين بأعمال محفوظ الأدبية أكثر من أعمال زميليه. بل هى تعود كذلك لتفوق محفوظ عليهما فى الحقل السينمائى، لأنه امتاز عليهما بنشاطه الكبير كسيناريست، بالإضافة لكونه مثلهما روائيًا تتمع أعماله بقيمة كبيرة فى سوق القصص السينمائية.
منذ اقتصر الحديث عن مساهمة نجيب محفوظ الثقافية على دوره كأديب، توارى الوعى بدوره كـ«حرفى» من أمهر صانعى الأفلام فى مجال الكتابة السينمائية من أوائل الخمسينيات إلى أوائل السبعينيات. وصار النقاد والصحفيون يشيرون بإيجاز إلى نشاطه السينمائى باعتباره ورشة تدرب فيها الكاتب الكبير على حرفة السيناريو، على يد المخرج الواقعى الكبير صلاح أبو سيف. ثم يضيفون بإيجاز أشد أن تلك المرحلة قد شهدت تجلى موهبته فى بناء المشهد وكشفت عن شغفه بالواقعية، حيث تواكب بناء صورة محفوظ كرائد للواقعية الروائية مع بناء صورة أبو سيف كرائد للواقعية السينمائية.
أزعم أن احتفاء الصحافة بمحفوظ فى بداياته الأدبية لم يكن بسبب تميز رواياته الواقعية فقط، على الأقل منذ «القاهرة الجديدة» (1945)، ولكن كذلك بسبب الجاذبية الجماهيرية لنشاطه كسينارسيت فى الخمسينيات، علمًا بأن أول سيناريو كتبه كان لفيلم «المنتقم» (1947) من إخراج صلاح أبوسيف. ففى الخمسينيات وحدها، كتب محفوظ السيناريو لما يزيد على خمسة عشر فيلمًا. بل وكتب لبعضها المعالجة السينمائية أو قام بالتمصير أو كليهما، حتى إنه كان أحيانًا يكتب ثلاثة أو أربعة أفلام فى السنة الواحدة. على سبيل المثال، فى عام 1958 كتب محفوظ سيناريو الأفلام التالية: «مجرم فى إجازة» و«ساحر النساء» و«الهاربة» و«جميلة بوحريد»، والفيلم الأخير قد شارك أكثر من كاتب فى وضع السيناريو له ثم تعديله، وكان محفوظ واحدًا منهم. وفى العام التالى 1959، كتب محفوظ سيناريوهات: «إحنا التلامذة» و«أنا حرة» و«الله أكبر».
إن تأمل نشاط محفوظ السينمائى، خلافًا لإبداعه الأدبى يلفت النظر لعدة ظواهر ومسائل:
أولًا: أن محفوظ لم يقتصر على كتابة الأفلام الواقعية عبر تعاونه الطويل مع صلاح أبوسيف (أو مع نيازى مصطفى فى فيلم «فتوات الحسينية»)، فقد تعاون كثيرًا مع حسام الدين مصطفى كسيناريست ومع يوسف شاهين ككاتب معالجات سينمائية. لكن الخطاب الصحفى والنقدى «محا» تعاون محفوظ مع شاهين، رغم حصوله على اعتراف عالمى بفنه كمخرج. ولعل السر فى ذلك أن صورة شاهين كمخرج «تغريبى» سادت على الساحة منذ السبعينيات، فى الفترة نفسها التى تسيدتها صورة محفوظ ككاتب واقعى، مما دعا إلى فض التناقض بين العملاقين بالسكوت عن التعاون بينهما. لعل هناك سبب ثانٍ لهذا «الصمت»، وهو أن دور محفوظ فى صناعة أفلام شاهين بسيط، مقارنة بدور المخرج نفسه. فمحفوظ مجرد واحد من عدة كتاب سيناريو شاركوا جميعًا فى كتابة فيلمى «جميلة» و«الناصر صلاح الدين» من إخراج شاهين. أما عن فيلم «الاختيار»، تذكر التيترات أن محفوظ هو مؤلف القصة، إلا أنه فى الواقع مجرد مقتبس، وكاتب المعالجة السينمائية. ربما كان هناك حرج من تذكرة القرّاء والمشاهدين بأن الكاتب العربى الوحيد الحاصل على نوبل قد لعب دورًا غير رئيسى فى عملية صناعة أفلام المخرج العربى الوحيد الحاصل على جائزة من مهرجان كان عن مجمل أعماله.
بمنطق مشابه، نفهم السر فى الصمت حيال التعاون بين محفوظ والمخرج حسام الدين مصطفى لأنه اشتهر بالأفلام التجارية التى يغلب عليها نوعًا «الأكشن» أو «الغموض». أخرج مصطفى أفلامًا مقتبسة عن قصص أو روايات لمحفوظ مثل «الطريق» (1964) و»وكالة البلح» (1982) و«الحرافيش» (1986). لكن بالإضافة إلى ذلك، فقد كتب محفوظ سيناريو الميلودراما التاريخية «الله أكبر» (1959)، وتذكر التيترات أنه صاحب القصة فى فيلمى «ذات الوجهين» (1973) و«توحيدة» (1976) وجميعها من إخراج حسام الدين مصطفى. تذكير الجمهور بالتعاون بين محفوظ كسيناريست وحسام الدين مصطفى كمخرج يشوش على صورة الأديب الذى يكتب أدبًا رفيعًا يسمو على المنتجات التجارية. لهذا أزعم أن ذلك التعاون قد تم دفعه إلى بئر النسيان.
ثانيًا: إن احتفاء السوق السينمائية بروايات محفوظ لم يحدث إلا فى الستينيات عندما بدأت تحويل تلك الروايات إلى أفلام ناجحة بين الجماهير والنقاد، بينما كانت الشهرة السينمائية التى يتمتع بها الكاتب الكبير فى الخمسينيات معتمدة على حرفيته وسرعته فى إنجاز سيناريوهات كثيرًا ما كانت مبنية على قصص وروايات لغيره. ولعل تعاونه مع إحسان عبدالقدوس خير مثال على هذا، حيث كتب محفوظ سيناريو أو معالجات سينمائية لعدة أفلام مقتبسة عن روايات وقصص لإحسان مثل سيناريو «الطريق المسدود» و«أنا حرة» ومعالجة «بئر الحرمان» و«إمبراطورية ميم». ما نسيناه اليوم أن الأديب الأكثر جماهيرية وجاذبية للسوق السينمائية فى الخمسينيات كان إحسان عبدالقدوس، وأن محفوظ فى السينما وقتها كان السيناريست الحرفى المشهور بقدرته الفائقة على اقتباس قصص الآخرين. أما شهرة محفوظ الفائقة كروائى يتخاطف المنتجون أعماله، فلم تترسخ إلا فى السبعينيات (وقد توقف محفوظ عن كتابة السيناريو فى ذلك الوقت) بعد أن شهدت الستينيات نشاطًا محمومًا فى اقتباس رواياته للشاشة، بدأ باقتباس صلاح أبو سيف لروايته «بداية ونهاية» عام 1960.
ثالثًا: أن محفوظ لم يكن فقط كاتبًا يستمد مادة سيناريوهاته من الواقع المصرى، أو من قصص لكتاب مصريين، بل كان أيضًا مقتبسًا ممصرًا لقصص غربية. وتتجلى براعته هنا فى قدرته على تحويل مواد سردية سياقها الاجتماعى والتاريخى أجنبى إلى أفلام تبدو مقنعة فى انغماسها فى السياق المصرى. أول تجاربه كسيناريست فى فيلم «المنتقم» هو اقتباس وتحديث لرواية «الكونت دى مونت كريستو» للكاتب الفرنسى ألكسندر دوماس، ولعله اقتباس لفيلم مبنى على الرواية. لكن واحدة من درر الواقعية المصرية: «لك يوم يا ظالم» هى اقتباس وتمصير بديع لرواية «تيريز راكان» للكاتب الفرنسى الكبير إيميل زولا. نقل محفوظ أجواء المدينة الفرنسية الصغيرة إلى القاهرة الفاطمية وجعل المكان المحورى حمامًا شعبيًا لا فندقًا. واستطاع بذلك أن يمنح القصة نكهة شعبية شديدة المصرية، رغم غرابة الفكرة الأساسية الشيكسبيرية فى الرواية على المتخيل المصرى. فمحور الرواية هو شعور عشيقين بالذنب بعد قتل زوج المرأة، يصل إلى درجة الهلوسة والجنون.
إن تأمل أعمال نجيب محفوظ كسيناريست يلقى ضوءًا على جوانب منسية فى تصورنا عنه اليوم. ويسمح بنقد صورته كمجرد أديب معنى بالأعمال رفيعة المستوى، فيكشف جانبًا معنيًا بالفنون الجماهيرية كالسينما، وبالتسلية كغاية من غايات الفن. كما يدقق تصورنا عن محفوظ بوصفه علمًا من أعلام الواقعية وحدها، وكاتبًا أصيلًا لا ينشغل إلا بالواقع المصرى، ليظهر لنا البعد الحداثى المنفتح على الغرب والمفتون بروايات بل وبأفلام أوروبية وأمريكية اقتبسها للشاشة المصرية.>