الجمعة 2 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

«الصحافة» أكبر من «مكتب إرشاد» المقطم

«الصحافة» أكبر من «مكتب إرشاد» المقطم
«الصحافة» أكبر من «مكتب إرشاد» المقطم




واجهت الصحافة المصرية على امتداد تاريخها مختلف أنواع التعسف والمطاردة والإغلاق والتكبيل بمختلف القوانين، وواجه أصحابها وكتابها السجن والتشريد منذ أن عرفوا أن دور القلم أن يكون تعبيرا عن موقف وليس مجرد «إعلام» بما يجرى من وقائع. والآن تخوض الصحافة المصرية إحدى معاركها الكبيرة فى وجه من يسعون لوأد حرية قامت لأجلها ثورة. فقد شاع الاحتجاج والغضب داخل الجماعة الصحفية حين شكل الإخوان المسلمون مؤخرا بواسطة مجلس الشورى لجنة تضع قيادات الصحف رهن اختيارهم بدعوى أن الصحافة القومية تتكبد الخسائر المالية. لكنهم يحاسبون الصحافة وخسائرها حين كانت الصحافة لزمن طويل مقيدة وكان لابد لها أن تخسر حينما أدرجت المنظمات الدولية مصر كإحدى أسوأ عشر دول تنتهك فيها حرية الإعلام.
 

 
 وتحتشد الجماعة الصحفية الآن للمطالبة برفع يد اللجنة سيئة الصيت عن اختيار قيادات الصحف، لأن الصحافة وكتابها قادرون بدون وصاية على تصحيح المسيرة التى شوهها قانون الطوارىء والقمع والمصادرة والترهيب. وفى إطار السعى للسيطرة على الصحافة تقدم الإخوان ببلاغ ضد صحيفة روز اليوسف بذريعة أنها نشرت ما يشوه صورة مرشد الجماعة، ورددت الجماعة فى ذلك السياق الحجج ذاتها التى كان يلوكها نظام مبارك بالتلويح بأن ماينشر يمس «الأمن القومى»! وقد علمتنا التجربة أن أكثر ما يحتاجه الأمن القومى هو تحديدا: حرية الصحافة والتعبير. ويقول الإخوان إنهم وضعوا معايير لاختيار القيادات الصحفية، بينما لم تكن المشكلة أبدا فى المعايير، بل فى القوى التى تختفى وراء المعايير، ذلك أن المعايير لم تكن أبدا هى المحددة، بل من يقفون خلفها، لكن الجماعة الصحفية قادرة على أن تقول للجميع ما قاله يعقوب صنوع عندما صدر قانون المطبوعات «اكسروا أقلامنا وسدوا أفواهنا فسوف نكسر أنف أظلم حكامنا»! وسوف تواصل الصحافة تاريخها الذى بدأته عام 1813 بصدور «الجورنال» بأمر من محمد على لحاجته إلى تقرير منتظم عن نشاط الدواوين التى أنشأها. وتحول «الجورنال» عام ?8281? إلى جريدة «الوقائع» التى قامت بالتعريف بأخبار الحكومة وبناء الجسور وترقيات الضباط، وحتى ذلك التاريخ كانت الصحافة مجرد نشرة حكومية تقتدى بما فعلته الحملة الفرنسية حين أصدرت جريدتين لجنودها فى القاهرة. وفقط عام 1481? بدأت الصحافة مسيرتها عندما وضع رفاعة الطهطاوى خطة جديدة للوقائع بإضافة أنباء العالم الخارجى ومقطوعات أدبية فقفزت الوقائع إلى مرحلة «الدور الإعلامى». ولم يكن ذلك يعنى أن الصحافة قد نضجت لتصبح صحافة «رأى وموقف». وفقط عام 1877 وعلى ألسنة نيران الحرب الروسية التركية عرفت الصحافة عندنا طريقها إلى «الرأى والموقف» لتغدو صحافة تثير الرأى العام وتؤلبه على النظام الحاكم وعلى إسماعيل باشا، وبدأ الضمير المصرى أولى معاركه فخاضت الصحف للمرة الأولى بعد ?56? عاما من نشأتها فى النقد السياسى الصريح وتبنى موقف وطنى.
 
 
 
ومنذ أن شعر الضمير الصحفى للمرة الأولى بطعم أن يكون له تأثير، وقدرة على التصدى للمظالم وتحريك الرأى العام تعرفت الصحافة إلى ذاتها وأدركت أن ما بين يديها ليس أقلاما لكن شيئا أخطر وأعلى شأنا، يمكن حتى من الإطاحة بالاستبداد والمستبدين، ووعت الجماعة الصحفية ما قاله فولتير ذات مرة:«وما على إذا لم يكن لى صولجان؟ أليس لى قلم؟». وولدت منذ ذلك الحين صحف لا حصر لها على هذا الدرب، تظهر، وتقول كلمتها فى وجه الدولة، وتغلق، وينفى أصحابها، بينما يحتفظ التاريخ بأوراقها بين يديه. وبالحرية التى انتزعها الكتاب وصفت إحدى الجرائد إسماعيل باشا بأقذع الألفاظ للمرة الأولى قائلة إنه «أنفق مائة ألف جنيه من دم الفلاح وأنه بمثل هذه التصرفات السيئة يفضى بالبلاد إلى الهاوية» وتأمر الحكومة بإغلاق الجريدة.
 

 
وتنقب جريدة أخرى هى «مرآة الشرق» لمحررها إبراهيم اللقانى عن أسباب الفساد الذى تفشى فى مصر وتكتب صراحة أن السبب هم الحكام الذين «لايعرفون شرعا، ولايرضون قانونا، بل تعدوا الحدود وانتهكوا المحارم، وحاربوا العدل، فطغوا وبغوا، ونهبوا وسلبوا، وفتكوا وهتكوا وأفراد الرعية على مرأى منهم حفاة عراة يتضورون جوعا». وينشر أديب إسحق مقالاته النارية فى جريدة مصر التى أنشأها فأغلقتها الحكومة بعد ثلاثة أعداد ويكتب ضد قانون المطبوعات ويندد بالامتيازات الأجنبية قائلا «لا ريب فى أن امتياز بعض الناس عن بعض الناس فى وطن واحد يلحق بذلك الوطن الضرر العظيم حسا ومعنى.. وقد حان لهذه البلاد أن تنتعش من عثرتها».
 

 
ولم تحتمل الحكومة جرائد أديب إسحق لأنها جرائد موقف ورأى فأغلقتها ونفته إلى باريس فأصدر من هناك جريدة «مصر القاهرة» وكتب يقول فيها «سأكشف حقائق الأمور.. وأوضح معايب اللصوص الذين نسميهم اصطلاحا أولى الأمر، ومثالب الخونة الذين ندعوهم وهما أمناء الأمة.. وقصدى أن أثير بقية الحمية، وأرفع الغشاوة عن أعين الساذجين، ليعلم قومى أن لهم حقا مسلوبا فيلتمسوه، ومالا منهوبا فيطلبوه، وليستصغروا الأنفس والنفائس من أجل حقوقهم». وفى زمننا هذا لم يعد أحد يذكر أية حكومة تلك التى نفت أديب إسحق، ولا أى حاكم أغلق صحفه، لكن كلمات أديب إسحق مازالت حية. وعندما قرر السلطان عبد الحميد الثانى عزل إسماعيل باشا وتعيين توفيق كانت نذر الثورة العرابية تتجمع ومعها صحافة الموقف وخاصة جرائد عبد الله النديم «التبكيت والتنكيت» فى يونيه 1881 ثم «الطائف»، وجريدة «الأستاذ»، وفيها كلها حمل النديم على طغيان الحكام، ووصف حالة البؤس التى وصل إليها الفلاحون. وظهرت صحف يعقوب صنوع الساخرة فلاحقته السلطة هو الآخر. ومع هزيمة الثورة عطل الاحتلال البريطانى الصحف وقيدها، وفى عام ?3881? شنت جريدة المقطم حملة على أحمد عرابى مع صحف أخرى، واستمرت صحف أخرى تقاوم وتخوض معركة الحرية، ومع مقدمات ثورة 1919 تبلور على نحو نهائى الإدراك بأن الصحافة مهنة ذات رسالة، وبرزت فى ذلك السياق صحيفة اللواء التى أسسها الزعيم مصطفى كامل لتفتح النار على الاحتلال.
 

 
ويراد للصحافة الآن مع سيطرة الإخوان المسلمين على البرلمان- أن ترتد إلى الخلف وأن تصبح صحفا «نصفها للأمير ونصفها للجماهير» بنفس الذرائع القديمة المتهالكة حول «الأمن القومى» وماشابه. يريد الإخوان الآن بمختلف الحجج أن يضعوا الصحافة تحت تصرفهم لتعود إلى الزمن الذى حين منحت فيه الحكومة ترخيصا لسليم تقلا بإنشاء جريدة الأهرام اشترطت فى التصريح ألا يتعرض صاحبها «للدخول مطلقا فى المواد البولوتيقية»! وأن ترتد إلى ما قبل الزمن الذى كتب فيه أديب إسحق عام1879يقول «و اعجباه! أنا أمة عظيمة ولا قوة لنا، وأرضنا خصبة ولا نجد القوت، نشتغل ولا نجنى ثمرة الاجتهاد، ونؤدى الضرائب الباهظة فلا تعد كافية.. ونحن فى سلم خارجى وحرب داخلية، فمن هو ذلك العدو الخفى الذى يسلب أموالنا ويفسد أحوالنا؟ «يريد الإخوان أن يرتدوا بنا وبحرية التعبير إلى ماقبل مئة عام!!
 

 
وسوف تخوض الجماعة الصحفية هذه المعركة، كما خاضت معارك أخرى كثيرة من قبل، موقنة أن تاريخ الضمير المصرى محكوم بالصراع بين من يؤرقهم الخوف من الحرية ومن يؤرقهم الشوق إلى الحرية.