الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

«قمة» المحبة والتاريخ

«قمة» المحبة والتاريخ
«قمة» المحبة والتاريخ


رغم الانتقادات الحادة التى يتعرض لها البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، بسبب مساعيه للتقارب بين الطوائف المسيحية الثلاث، فإنه يمضى فى طريقه بخطوات ثابتة ويرفض الخضوع لأى ضغوط ويؤكد أكثر من مرة أن أحدًا لا يخشى على الإيمان مثل بطريرك الكنيسة..
وفى هذا السياق أعلن البابا وبشكل تلقائى أنه سيلتقى البابا فرنسيس رأس الكنيسة الكاثوليكية فى الفاتيكان على هامش اللقاء المسكونى الذى دعا إليه بابا روما والمزمع عقده اليوم من أجل السلام فى الشرق الأوسط.
صمت البطريرك وعدم رغبته فى محاكمة أحد جعل بعض الأساقفة يتمادون فى الانتقادات ويفسرون هذا الصمت على أنه ضعف موقف؛ خاصة فى ظل ما يشيعه بعض الأساقفة الذين تنسموا رحيق الحرية بعد أن كان غير مسموح لأحد فيهم أن يعبر عن رأيه فى أى شىء؛ فقط كان عليهم الخضوع والطاعة لكلمة البابا شنودة وسكرتير المجمع فى ذلك الوقت الأنبا بيشوى، والذى كان يتعامل معهم بالحديد والنار!
ورغم أن مفهوم الوحدة الذى يدعو إليه رأسا كنيستى الإسكندرية والفاتيكان واضح جدًا، فإن الهجوم عليهما من جانب مسيحيى مصر لم يتوقف، فهما أكدا أن مفهوم الوحدة لا يعنى إطلاقًا ذوبان الاختلافات بينهم وإنما قائم على أساس المسيحية الأولى أى أن الأساس واحد وهو ما ذكر تفصيلا فى الوثيقة التى تم توقيعها فى القاهرة فى مايو الماضى، ورغم شرح سكرتير المجمع السابق الأنبا رافائيل حقيقة المفهوم الذى تتحدث عنه الوثيقة فإن هذا لم يجعل أحدًا يتوقف عن الهجوم الشرس على البابا.
وتأكيدًا على المفهوم الصحيح الذى يسعى إليه رؤساء الكنائس، أعلن بابا روما وهو يدعو رؤساء الكنائس لهذا اليوم قائلا: «على جميع الكنائس أن تتّحد وأن تعمل معاً لأجل السلام؛ الالتزام لأجل السلام هو أمر جدّى، بل هو وصيّة الله القائلة بالسلام والأخوّة والبشرية المتّحدة».
وحتى يهدأ الجميع انتقد بابا روما تعبير «التبشير الحماسى»،  قائلا إنه يجب محوه من القاموس؛ لا يمكن للمسكونية أن تتعايش مع التبشير الحماسي؛ علينا أن نكون منفتحين على الآخرين، ولا يمكننا أن نمارس التبشير الحماسى أو الإقناع مع الأرثوذكس مثلاً. إنّهم إخوتنا وأخواتنا، وهم تلاميذ للمسيح، لكن بسبب أحداث تاريخية معقّدة، أصبحنا هكذا. نحن جميعاً نؤمن بالأب والابن والروح القدس، ونؤمن بالعذراء والدة الإله.. ليس علينا أن ندين، بل فلنصلِّ لبعضنا البعض، ولنمشِ معاً، ولنقم بأعمال الخير معاً عندما يكون الأمر ممكناً فهذه هى المسكونية.
والحقيقة الواضحة للدارسين الذين يقفون حراسًا للإيمان أن مساعى البابوات للوحدة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة على مر التاريخ، بل كانت هناك محاولات كثيرة، حيث بذل الكرسى الرسولى جهدًا كبيرًا فى سبيل تحقيق الاتحاد بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وكانت البداية فى المجمع المسكونى الفلورنتينى والذى يعد أول مساع رسمية كاثوليكية قام بها البطاركة الرومانيون لتحقيق الوحدة المنشودة (١٤٣٨م -١٤٤٥م).
مرت مفاوضات الوحدة بمنعطفات تاريخية كثيرة، وفى 12 فبراير 1988م اتفقت الكنيستان الكاثوليكية والقبطية الأرثوذكسية على صيغة مشتركة إلا أنهم قاموا بتغيير الصيغة مرة أخرى، مما ترتب عليه قطيعة أخرى دامت حتى قام البابا تواضروس بزيارة الفاتيكان فى ٢٠١٢ عقب اعتلائه كرسى مارمرقس ليبدأ من جديد محاولة التقرب والوحدة.
ما يفعله البابا تواضروس ليس بغريب عن مساعى الكنيسة أو محاولة منه لكثلكة الأرثوذكسية، وإنما هى خطوات جديدة فى طريق سلكه أسلافه من البطاركة الراحلين، ولكن يبقى السؤال الآن: لماذا الوحدة والسعى الدائم لها وما النفع الذى سيعود على الكنيسة من تحقيقها؟
يقول القس لوقا راضى كاهن بكنيسة ماريوحنا المعمدان القوصية أسيوط: إن الوحدة بين الكنائس قائمة، حيث كان العالم كله كنيسة واحدة قبل مجمع خلقدونية المشئوم الذى أعقبه انفصال كنائس الغرب عن الشرق، وفى القرن السادس عشر جاء البروتستانت لإعلان انشقاق آخر، ولذلك حتى يتم إعلان الوحدة أرى أننا يجب أن نعود إلى ما قبل مجمع خلقدونية فى إعلان إيماننا الواضح.
ويضيف راضى قائلا: إن إعلان الوحدة يأتى من إعلان إيماننا بالحياة الأبدية وإعلان الملكوت الأبدى أن الوحدة تأتى من الاتفاق الإيمانى من خلال الحوار اللاهوتى الساعى بأمانة إلى إتمام مشيئة قلب الله ليكون الجميع واحدًا، وأكد أن الوحدة لن تتحقق بالبيانات والمجاملات وإن كانت مطلوبة، ولكنها لابد أن تفعل بالحوارات اللاهوتية لإعلان الاتفاق أولا فى الإيمان ومن ثم تطبيق الإيمان.
أما المفكر القبطى كمال زاخر فيؤكد أنه من يتتبع البدايات يلتفت إلى أن بذرة الانشقاق لم تكن منحصرة فى اختلافات الرؤى اللاهوتية وما أنتجته من جدالات ومصادمات وتبادل الاتهامات بالهرطقة، والانحراف عن الإيمان بحسب المسيح والإنجيل، إذ بينما يتجادلون كانت السياسة تزحف مستندة إلى سلطان الإمبراطور لتقود معادلة الصراع، بل تجلس على رأس مائدة المفاوضات المجمعية، بداية من الدعوة للمجمع المسكونى الأول نيقية 325 وقد تولاها الإمبراطور قسطنطين، ووضع أمام المجتمعين صولجان الحكم وسيفه، وكانت الرسالة واضحة وقاطعة.
وأضاف أنه كانت هناك محاولة مصرية وقتها فى رسالة قادمة من الصحراء الشرقية من كهوف البحر الأحمر يحملها القديس أنطونيوس أب الرهبان إلى البطريرك  التاريخى البابا إثناسيوس الرسولى من الناسك بولا، أن ينزع البطريرك عنه حُلة الإمبراطور، التى أهداها له قبلاً، ويستبدلها بثوب بولا الخشن، ليدرك البابا أن الكنيسة لا تدار بآليات السياسة، بل بمعطيات التجرد والترك.
لكن الأمور سارت فى اتجاه مغاير، وانتقلت بروتوكولات القصر إلى فضاء الكنيسة، حتى فى التقسيم الرعوى، فى الغرب كما فى الشرق، الذى جاء محاكياً للإدارة الإمبراطورية، ويصير للأسقف كرسي مستنسخ من كرسى الإمبراطور، وثياب تنقل عن ملابسه وعصا تشبه صولجانه، وألقاب تحاكى ألقابه، ولم نعدم الوسيلة لتعميدها وتقنينها وإسنادها إلى تأويلات تجد فى النصوص ما يقننها بقراءتنا.
وأضاف أنه لم يكن مجرد صراع لاهوتى بحصر المعنى فقد زاحمته صراعات إثنية وثقافية وسياسية، وتحكمت فيه نزعات ترتيب الأولويات، وكانت موروثات ثقافات ما قبل المسيحية غير بعيدة، حتى يأتى مجمع خلقيدونية، 451، ليغرس بذور الانقسام.
وأوضح زاخر أن الفترة الأخيرة شهدت سعياً حثيثاً نحو مراجعة الواقع المسيحى المسكونى، منها تأسيس كيانات مسكونية وإقليمية فى هذا الاتجاه، أبرزها مجلس الكنائس العالمى ومجلس كنائس الشرق الأوسط وعلى المستوى المحلى مجلس كنائس مصر.
كما تشهد العلاقات البينية سعياً حثيثاً للبابا تواضروس الثانى لمد جسور التواصل بشكل معمق مع كنائس السريان وأنطاكية والأرمن، وكان أبرزها حضوره مؤخراً اجتماع رؤساء الكنائس الشرقية، الذى عقد بلبنان يونيو  2018 وضم مع قداسته البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثانى بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، والكاثوليكوس أرام الأول كاثوليكوس الأرمن لبيت كيليكيا الكبير، وتناولوا العديد من القضايا الملحة تصدرتها قضية الوجود المسيحى فى الشرق الأوسط وما يتهدد من مخاطر وتحديات، وكذلك الوضع المتأزم فى الكنيسة السريانية الأرثوذكسية بالهند.
وأوضح زاخر أننا أمام نقلة موضوعية على الأرض باتجاه المقاربة بين الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، تبدأ فى الدائرة الطبيعية، فى داخل البيت، حيث اتساع قاعدة الاتفاق، ولا تقفز فوق المراحل، بما يؤسس للانتقال إلى مقاربة أوسع مع العائلة الأرثوذكسية الثانية، وبالضرورة ستواجه باستنفار صقور الأصولية اليمينية المدرسية، ومعارضتهم عند العائلتين، الأمر الذى يستوجب مبادرة من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بتنظيم فعاليات أكاديمية تتولى التأسيس الفكرى اللاهوتى الجاد للدخول فى جولة المقاربات الأوسع، تضم الباحثين والدارسين المتخصصين فى مراكز الدراسات الآبائية واللاهوتية، ودعوة نظرائهم المتواجدين داخل منظومة الرهبنة ودوائر الإكليروس، وعلماء الخارج فى المراكز والجامعات ذات الصلة، للمشاركة بأبحاثهم ورؤاهم، ودعوتهم إلى المشاركة فى ورش عمل متخصصة تنظمها الكنيسة.
وفى النهاية يبقى السؤال: إذا كانت خطوات البابا تواضروس وبابا روما تكملة لمسيرة قديمة فلماذا كل هذا الهجوم غير المبرر؛ هل هو نتيجة طبيعية لكبت بعض رجال الإكليروس الكبار أم أن هناك من يسعى عن قصد لتشويه صورة الكنيسة بصفة عامة والبابا بصفة خاصة؟...