الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

70 فلسطينية فى «مهمة وطنية»!

70 فلسطينية فى «مهمة وطنية»!
70 فلسطينية فى «مهمة وطنية»!


داخل غرفة صغيرة فى مقر اتحاد المرأة الفلسطينى يجلسن، سيدات تقدم ببعضهن السن، لكن الدأب والشغف وحب الحياة هو السمة الأساسية التى تجمع بينهن، يعتبرن أنفسهن فى مهمة وطنية مقدسة للحفاظ على ذاكرة الأمة، فى ظل استهدافها من قبل الاحتلال الإسرائيلى، جدران الغرفة تعكس حالة فريدة من الإبداع الذى يحمل مذاقا خاصا، فعليها توجد عشرات الصور للثوب الفلسطينى، كل منها يخص مدينة فلسطينية بعينها، تتمسك النساء بارتدائه فى المناسبات المتنوعة كى تعبر عن هويتها سواء داخل بلادها أو خارجها.
 
ضيق مساحة الغرفة يقابله رحابة شديدة فى العالم الذى تصنعه أنامل تلك السيدات، بالغرفة «فاترينات» شفافة ضخمة بها أدوات فلكلورية متنوعة من التراث الفلسطينى، واحدة تحتوى على أدوات الحياكة القديمة، وأخرى بها أوانى تستخدم فى الضيافة وبجوارها أكثر من 20 قطعة إكسسوار من الفضة، كل قطعة تنتمى إلى مدينة فلسطينية أيضاً، وثالثة خصصت لعدد من الأثواب قام بتصميمها وتطريزها جداتهن الفلسطينيات وتوارثتها الفتيات جيلا بعد جيل، وفى نهاية الغرفة علقت على الجدران صورة ضخمة تجمع الأثواب الفلسطينية التراثية.
بعد دقائق من تجولنا فى المعرض دخلت الفتيات، جلسن فى صمت وتوسطهن 5 من قائدات كتيبة التراث، «عبلة الدجاني» سيدة فى العقد السادس من العمر جلست على طاولة ضخمة، أمامها العديد من أدوات الحياكة، وألوان الخيوط المبهجة ما بين الأبيض والأحمر والأخضر والأصفر، اقتربت يدها بانسجام من أدوات الحياكة لتختار إحداها لتضيفها لقطعة ثوب من طراز فلكلورى فلسطينى، تعمل وبدقة تنتج تفاصيل واضحة فى التطريز على الثوب، ملامح الزمن لم تؤثر على إنتاج يدها رغم ملامح جسدها النحيل، توقفت للحظات عن العمل، لتلتفت إلى «دولاب» قريب منها به العديد من لفات الخيوط  الإضافية، قامت بوضعها بشكل مرتب على الطاولة فقد دقت الساعة العاشرة وهى أول الحضور من فريق وحدة التراث الخاصة باتحاد المرأة الفلسطينى الكائن فى شارع رمسيس.
بابتسامة هادئة قالت «50 سنة وأنا هون فى مصر أعمل فى الحياكة للحفاظ على تراث بلدى أحارب إسرائيل بأدواتى البسيطة، فإسرائيل أخذت أرضنا وتريد أن تستولى على تراثنا فقد سجلت الثوب الفلسطينى لبعض المدن باسمها كتراث فى الموسوعة العالمية»، ومن هنا معى كتيبة محاربين من القاهرة، الكتيبة النسائية من طراز خاص بينهن 20 سيدة كبار فى السن يجدن تصميم وتطريز الثوب الفلسطينى،  و50 فتاة أعمارهن متفاوتة يعملن فى التطريز فقط، جلست بجوارها بهدوء وهى تعمل فى صمت قبل حضور كتيبتها النسائية، ورصدت ملامح وحدة التراث الخاصة بالزى الفلسطينى.
التقطت «عبلة الدجاني» أطراف الحديث مرة أخرى فى اشتياق لبلدها قائلة، أنا من سكان «يافا» فى فلسطين وأقيم فى القاهرة منذ 50 عاما، وإحدى عضوات اتحاد المرأة أستطيع أن أقول أننى موجودة فى مهنة التطريز كقائدة منذ ذلك التوقيت بشكل متواصل، دورى الرئيسى أن أصمم، وأشرف على التطريز بالإضافة إلى التواصل مع الجالية الفلسطينية فى القاهرة للمشاركة فى فريق تصميم ملابس التراث.
وهى تباشر الإشراف على الفتيات وتوجههن أثناء العمل أضافت: لا ينضم إلى الفريق أى شخص، إذ نحرص على ضم الفتيات اللائى يتميزين بحب الوطن فالدور الذى تقوم به كل واحدة منهن هنا داخل تلك الغرفة الصغيرة دور وطنى وسياسى بالأساس، وليس عملا فنيا فحسب، نحن نواجه الاحتلال فى بلادنا من خارج الحدود بالحفاظ على هويتنا فى ملابسنا التى نورثها لأبنائنا.
التاريخ الذى تمثله قصتنا مع الملابس، يعود للمرأة الكنعانية التى كانت تجلس فى هدوء لتلتقط كل شيء لتضع ملامحه بالتطريز على ملابسها، فكانت ترى القمر فتقوم بتطريزه باللون الأبيض فى شكل دائرى على ملابسها، وكذلك الزهور والطيور والأشجار، ومن هنا يعود أصول فن التطريز وشكل الثوب الفلسطينى الشعبى للكنعانيات.
أثناء الحديث جذبت «عبلة» ثوبًا فلسطينيًا بيدها لتشرح عليه بشكل عملى تفاصيل كلماتها، مؤكدة أن الثوب الفلسطينى مدون فى كتب التاريخ وهو أنواع، مثل «الثوب الفلاحي» تشتهر به مدينة بيت لحم وينتشر فى القرى الريفية فى فلسطين، يتميز بأنه خال من التطريز لكثرة الحركة والتفاعل، إلا أنه يأخذ رسومات من الخيوط البارزة للزهور الملونة والأشجار، فيما عرف الثوب الخاص بمدينة بئر السبع باللون الأحمر والبرتقالى والزخرفة، واللون الأحمر الصافى للعروس والأزرق فقط للأرملة، والمرأة التى طلقت وتزوجت مرة أخرى ترتدى الثوب الأحمر المطرز بالزهور بالإضافة إلى الزخرفة المتنوعة لأشكال الطبيعة.
مدينة رام الله تميزت أيضاً بثوب خاص بها، حيث اللون الأحمر القانى مزخرف ببعض الغرز السوداء فقط، أما ثوب بيت لحم فيتميز بغطاء الرأس الطويل المزخرف بقطع من العملة الصغيرة من الفضة والذهب ويكون لونا واحدا فقط للثوب وغالباً ما يكون أسود أو أحمر، أما ثوب مدينة نابلس المبهج فهو مجموعة متنوعة من الألوان والتطريز مصنوع من خيوط الكتان والحرير فى بعض الأحيان، ويأخذ اللون الأحمر والأخضر ويضاف له شال سادة.
وفى ثقة ارتفع صوت الدجانى قائلة، ثوب القدس يمثل عروبتنا وهو الثوب الأول فى عمليات التطريز، فهو مطعم بجميع التفاصيل السياسية التى مرت بها فلسطين فى التاريخ وتميز هذا الثوب بأنه ثوب تاريخى يتحدث عن أرضنا وله أهمية خاصة فتوجد به آيات قرآنية فى شكل كلمات صغيرة وشكل الصليب، بالإضافة إلى أن ألوانه داكنة تدل على ما تمر به القدس من حزن دائما حتى الآن، فكل شيء يعبر عن السياسة وحياتنا لا نخجل من إضافته لذلك الثوب وكأنه كتاب يدون عليه.
يأخذ ثوب الضفة الغربية لونا واحدا فقط وهو الأبيض الصافى وبه بعض مشغولات الخزف البسيطة، ومن بين الأثواب كلها أخذ ثوب العروس أكثر الأثواب الفلسطينية تطريزا وعملاً، وتحرص الفتيات على تطريزه لنفسها كنوع من السعادة أنها قامت بتصميمه بيدها وتستعين بخبرات الجدات والأمهات السابقات فى الأمر، وهو من الحرير الصافى ويضاف إليه قطع تسمى المشربية ومثلثات من الخيوط الملونة الزاهية.
أثناء الحديث قاطعتنا السيدة النشيطة الشهيرة فى الاتحاد بعملها القوى داخل الجالية فى القاهرة «آمال الأغا» قائلة: «يا بنات بدنا نخلص أكبر عدد ممكن من الأثواب فسوف نشارك فى معرضنا الخيرى بملابسنا ليرى العالم تراثنا من أم الدنيا»، وهنا شاركتنا الحديث، قائلة أنا نائب رئيس اتحاد المرأة الفلسطينية فى القاهرة ومن أبناء نابلس فى فلسطين، لى دور أيضاً فى وحدة التراث فهو يمثلنى، وما جعلنا نتهافت على حفظ تراثنا أننا تفاجأنا فى السنوات الأخيرة أن الاحتلال قام بتسجيل بعض الأثواب القديمة التى تخص جداتنا بأسمائهم كتراث خاص بهم فى الموسوعة العالمية، والأمر كان كارثيا ومرفوضا، وثرنا ضده كنساء، لذلك نقوم بعمل معارض دورية فى جميع دول العالم من خلال الجاليات الفلسطينية لنشر ثقافة ملابسنا والتأكيد على هويتنا.
نحن نعلم سر النكهة الخاصة بالثوب، الاكسسوار الملحقة به، مثل «المنديل» المزخرف بالزهور من الخيوط، وهناك مدن تستخدم طرحة كبيرة تغطى المرأة بها رأسها من خامة الحرير فى الصيف والصوف فى الشتاء، بالإضافة إلى أن البعض يستخدم «ملاية» سوداء مزخرفة باللون الأحمر، تضيفها المرأة إلى ملابسها وتم تطويرها حاليا إلى شكل جاكيت فضفاض طويل من خامة الحرير والصوف.
واختتمت الأغا كلماتها قائلة: المرأة لها دور كبير لن يتوقف والمهنة نعلمها للبنات الصغار فى العمر من 13 عاما إلى سن الـ30 تصبح قائدات، فالأعمار متنوعة ويصل عمر السيدات اللاتى يتمسكن بالعمل داخل وحدة التراث إلى عمر الـ70.
نادية محمد، إحدى سيدات وحدة التراث من القدس، أوضحت: شاركنا منذ أيام فى معرض خيرى ضخم بمشغولاتنا ويقبل علينا جميع الجنسيات للشراء وفى المقدمة المرأة الفلسطينية، ولم تقدم وحدة التراث الملابس فقط، بل أنشأنا مطبخا خاصا بمأكولاتنا الفلسطينية التى نتعلمها جيلا بعد جيل، ودورنا أن نورث حكايتنا القديمة للفتيات فلا نريد أن تخف رايتنا نحن لنا دور.
وحدة الحفاظ على التراث أبوابها مفتوحة من العاشرة صباحاً حتى العاشرة مساءً، الجميع يعمل بدأب وتستطيع إنتاج ألف ثوب فلسطينى مشغول بشكل يدوى مبهر كل عام، وفى الاحتفالات والمعارض تشارك النساء كل سيدة بثوب مدينتها فى فلسطين وكأنها تتحدث عن نفسها وهى صامتة.
تشجع القيادات الفلسطينية فى القاهرة، وكذلك السفارة السيدات للإبقاء على دورهن ويصفونه بالوطنى، فأدوات الحياكة موجودة فى كل منزل فلسطينى بالقاهرة، الأم تجلس مع بناتها بشكل يومى لتعليمهن، ولكل سيدة هنا فى وحدة التراث راتب شهرى فهو عمل رسمى لكن بطعم حب الوطن فالقائدات ثابتات لكن الفتيات الجدد يعاملن حسب إنتاجهن اليومى.
بين الحضور كانت فتاة صغيرة لم تتجاوز الـ8 سنوات من منطقة بئر السبع فى فلسطين، «زينة وسيم» تقول: أحضر مع والدتى لأشاركها الوقت وأتعلم منها، بعد إتمام دراستى اليومية تكون قبلتى وحدة التراث، وأحلم بعد أن أتم عمر الـ25 بعد انتهاء دراستى بأن أفتح مشغلا للمشغولات اليدوية الفلسطينية لحفظ تراثنا وهو مشروع مربح أيضاً، وعشرات السيدات قمن به.
هيا فاضل، فتاة ثلاثينية من أبناء الضفة الغربية، قالت: الثوب الفلسطينى مهنة النساء فى القاهرة، والأمر لا يتعارض مع كونها تعمل فى مهنة أخرى فهو هواية داخلية قد تستثمرها ويكون لها دور وطنى من خلالها، لذلك تشارك الفتيات فى تنظيم المعارض المتنوعة كنوع من المهرجان، ونقدم من خلال معارضنا الأغانى الفلسطينية القديمة والفلكلور ونحرص على التواصل الدائم