الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الدليل إلى عقل البيت الأبيض!

الدليل إلى عقل البيت الأبيض!
الدليل إلى عقل البيت الأبيض!


السياسة لا تنام فى أمريكا. هذه ليست حكمة بلاغية بقدر ما تُعبّر عن وضع فعلى قائم. «أمريكا دولة لا تنام فيها المناقشات السياسية»، قد تبدو خلاصة بديهية فى كتاب عاطف الغمرى الأخير «think tanks داخل البيت الأبيض» - كتاب الجمهورية - الذى يرصد عمليات صنع القرار السياسى من داخل مطبخ الإدارات الأمريكية المتعاقبة.

بحث الغمرى هذه المرّة معنى بتفصيل أدوار ما اصطلح على تسميته «بنوك الأفكار»، أو بيوت التفكير، ما عُرف عن مخازن المعلومات، مراكز البحوث والفكر السياسي، مصانع السياسة الأمريكية، وماكينة صناعة السياسة الخارجية، التى لعبت عبر التاريخ دور «حكومة الظل» فى الشئون الخارجية.
ما يُخرج هذه الحكمة من بداهتها أو يمنحها قدرًا من الجدّة محاولة المؤلف فى نهاية الكتاب، استقراء المستقبل الذى ينتظر أمريكا ويُزعزع مكانتها من حيث «القوّة الأوحد» والمهيمنة على الوضع الدولي.
هل أمريكا فى أزمة؟
أحد مقوّمات قوّة أمريكا فى السياسة الخارجية، وجود “التوافق” بين الأمريكيين. لكن ما جرى فى حملة ترامب وفى ردّ فعل النخبة والشارع الأمريكى قد أظهر انقسامات واضحة و«انفراط عقد التوافق».
يسأل المؤلف: هل يتمرّد الأمريكيون؟ لماذا صوّت أغلبية الجمهوريين لترامب رغم وجود تيّار كراهية له داخل الحزب الجمهوري؟!
ويُجيب بأن ظروف قفزة ترامب إلى الأمام تُشبه صعود هتلر للسلطة فى ألمانيا، فى فترة اضطراب اجتماعى ونفسي؛ يُشير تحليل الكاتب الصحافي. فقد حصد ترامب نتائج 11 سبتمبر، التى جعلت “خوفا كامنا فى نفوس الأمريكيين لم يبارحهم للآن”.
فوز وصعود ترامب كمرشح غير مألوف فى الحياة السياسية هو حصيلة “تمرّد داخلى عمره 30 عاما”. هذا التمرّد تقوده تيّارات تدعو لانتخاب أشخاص ليست لديهم خبرة بالسياسة the outsider من هم خارج المؤسسة السياسية والحزبية التقليدية. وما يواجهه الأمريكيون اليوم هو «انعدام المساواة بين الطبقات فى أمريكا».
أبناء الطبقة الوسطي، لم يعودوا يتلقّون الاهتمام المعتاد من النخبة. وكان من ثمرة الانتباه لهذا من قبل رجل الشارع الأمريكي؛ أن تعالت الأصوات فى أجواء انتخابات الرئاسة لعام 2016، بضرورة تغيير النظام الضريبى المنحاز للأغنياء. كل هذا لا يُقارن بوضع فقراء أمريكا، الذين يُقدّر عددهم إحصائيا بـ11 مليونا.
ما الذى يضمن لهذه الدولة العُظمى البقاء على خطٍ حسّاس من كل الأحداث فى الداخل والخارج، ويُحافظ على البقاء الأقوي؟ هو بيوت التفكير.
يُقدّر عدد بنوك الأفكار أو مراكز البحوث 4500 مركز بحوث حول العالم، فى أمريكا وحدها 2000 مركز، 100 فى العاصمة واشنطن، و50 مركزا منها هى الأكثر نفوذا.
من هم العاملون فى الـthink tanks ؟
هم شاغلو مراكز قيادية فى عهود رؤساء انتهت ولايتهم. مستشارون سابقون للأمن القومي. وزراء خارجية ودفاع سابقون. خبراء وأكاديميون متخصصون فى قضايا السياسة الخارجية. يكتب عاطف الغمري: «الحاجز الفاصل بين هذه المراكز، والسلطة التنفيذية، وخاصة فى البيت الأبيض، هو باب دوّار، يدخلون ويخرجون منه».
اشتدّ نفوذ هذه المراكز مع سبعينيات القرن العشرين. لكن ماذا يدور داخل هذه المراكز؟ الإجابة عن هذا السؤال كانت حصيلته هذا الكتاب.
اضطلعت مراكز بحوث الـthink tanks  منذ الحرب الباردة بتفسير ومراقبة التغييرات فى العلاقة مع أمريكا، بدول كانت تربطها بها صداقات وتحالفات طويلة من عشرات السنين. من أجل هذا سعت الولايات المتحدة إلى إنشاء شبكات إقليمية ودولية من أجل تحسين صناعة القرار السياسي.
باعتبار «المعلومات رصيدًا استراتيجيًا»؛ يقوم 20 ألف مُحلّل مخابراتى بتقييم المشكلات المحتملة أو «التنبؤات الكبري». كانت بريطانيا الأولى بعد أمريكا فى توجيه الاهتمام بمراكز البحوث. تعود الموجة الأولى إلى القرن التاسع عشر، مع جيرمى بينتام وجون ستيوارت ميل فى إطار مؤسسة philosophic radicals  وقد أصدرا لهذا الغرض مجلة «ويستمنستر ريفيو».
سارت على الدرب، الجمعية الفابية، تأسست عام 1884، وضمّت جورج برنارد شو. بالنسبة إلى الموجات التى تلت ذلك من أنشطة مراكز البحوث يقول الغمرى أنها ظهرت كـ«نشاط أيديولوجي» موازٍ للنشاط الحكومي. ويُعتبر معهد آدم سميث، 1977 جزءا من الموجة الثالثة من هذه المراكز.
فى ألمانيا، التى عرفت مراكز الأبحاث حديثا، من مئة سنة فقط! فكانت مراكز البحوث فيها الأكثر ميلا إلى تأييد السياسات الرسمية على نقيض ما تدّعيه مراكز البحوث الأكاديمية من استقلاليّتها سياسيا. يقول الغمري: «يشمل عالم مراكز البحوث اليوم، مراكز تُمثّل جماعات مصالح، مرتبط بعضها بأحزاب سياسية».
هذا يقودنا إلى السؤال التالي: هل مراكز البحوث مستقلة عن الدولة وأجهزتها؟
نعرف فى الجزء من الكتاب المُخصّص للإجابة عن هذا السؤال، أن تفاصيل عدوان إسرائيل فى 1967 كانت متداولة فى أوراق أجهزة الدولة فى الولايات المتحدة والبيت الأبيض وقت إدارة ليندون جونسون. تسلّم جونسون من ريتشارد هيلمز مدير وكالة المخابرات المركزية وقتها ورقتين تتضمنان معلومات عن حالة التأهّب العسكرى فى مصر وحقيقة القدرات العسكرية لكل من العرب وإسرائيل.
كانت المخابرات المركزية قبل هذا الوقت قد شكّلت قوّة عمل خصوصا للنزاع العربى الإسرائيلى منذ بدايات عام 1967. الورقة الثانية التى أعدّها هيلمز هى ما تخص طبيعة عمل الـthink tanks  كان عنوانها «من الذى سينتصر».
نصّت الورقة على أن إسرائيل يمكن أن تدافع عن نفسها بنجاح فى مواجهة أى هجمات عربية، يكتب عاطف الغمري: «لم يكن رد الفعل الأمريكى لعدوان إسرائيل كمن تلبّسته المفاجأة، ولم يكن العدوان فى حد ذاته ردّا إسرائيليا على إجراءات حرب مصرية كما ادّعت، العملية بأكملها كانت خلاصة تفكير وبحوث وخطط ومداولات وأوراق، نفّذتها إسرائيل بعلم البيت الأبيض ومشاركته، ومتابعته سير الحرب يوما بيوم».
مثال آخر. حرب العراق 2003 كانت فكرة وضعها فى خطة تفصيلية عام 1992 مركز مشروع القرن الأمريكى the project for new american Contury، كانت فكرة ديك تشينى عندما كان وزيرا للدفاع فى حكومة بوش الأب وبعد عشر سنوات عرض نفس الخطة على بوش الابن وكان تشينى نائبا للرئيس. وهى نفس الخطة التى نُفّذت بغزو العراق عام 2003 .
كامب ديفيد نفسها، كانت فكرة من معهد بروكنجز من قبل تولى كارتر الحكم، لجأت إليها بعد تأزّم الوضع بين مصر وإسرائيل خصوصا بعد حرب 1973.
قطر تشترى ضمير أمريكا
فى عام 2012 تم توقيع اتفاق بين معهد بروكنجز والحكومة القطرية، وكان من بين أعضاء المجلس الاستشارى للمعهد - الذى يتمتع اليوم بفرع كبير وفخيم فى الدوحة - رئيس وزراء قطر وقتئذ حمد بن جاسم.
فى 2014 طالب الكونجرس بضرورة الامتناع عن تلقى أموال كمنح من حكومات أجنبية، خصوصا من قطر، التى لها علاقات مع منظمات وجماعات متطرفة وتقدم لها تمويلا. من المفترض أن تكون مراكز الأبحاث مصادر مستقلة للمعلومات، وأن توصياتها السياسية معبرة عن المصالح الوطنية. لكن واقع الأمر شيءٌ آخر.
وكانت حكومة قطر فى عام 2013 قد قدّمت التزاما بالإسهام بمنحة 14 مليون دولار لمعهد بروكنجز خلال أربع سنوات. ومن المعروف أن التمويل يهدف إلى التلاعب بتقارير هذه المراكز، «ربما لن تحصل على قصة مزوّرة، لكنك لن تحصل على الحقيقة كاملة».
المحافظون الجدد الذين قوت شوكتهم فى عهد بوش الابن باعتبار كونهم خبراء سابقين بمراكز البحوث اعتلوا منبر «القوّة الذكية». تلك القوة كما يقدم المؤلف تعريفا لها فى كتابه هى التى تُتيح اللجوء إلى التدخّلات العسكرية من خلال الاستناد إلى معنى دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان وتقوية المجتمع المدني.
فى أعقاب حرب أكتوبر 1973 اجتمع أقطاب جماعة المحافظين الجدد مع شخصيات معروف مناصرتها لإسرائيل، واتفقوا على تأسيس مركز بحوث مهمّته تقديم رؤية تمزج بين الأمن القومى الأمريكى وأمن إسرائيل، هذا المركز هو المعروف على نطاق واسع لليوم باسم «المعهد اليهودى لشئون الأمن القومي».
يُعرّفنا الغمرى على وضع المركز من الداخل، وقد تركّزت برامج هذا المركز على التوسّع عسكريا وتسليحيا، وتقديم مُساعدات تتضمّن تقديم السلاح لتركيا، وتأييد الجناح اليمنى فى إسرائيل.
أدلّة المؤامرة على العالم العربي.. بالوثائق، يبرز كعنوان فى إحدى صفحات الكتاب الأخيرة، نقرأ فيها عن «التدمير الخلاق» وغيرها من العناوين الكٌبرى التى يُسطّرها شريط الأخبار على الشاشات، من تلك التى اعتدناها. لا شيء جديد، أمريكا تتعامل مع الشرق الأوسط بمبدأ «كلهم عرب» يقول الغمري. ويبقى كتابه عن مراكز البحوث الأمريكية كسابقيه، جهد بحثى وخبراتى مفيد لقارئ مبتدئ أو طالب مهموم بالسياسة الدولية. 