السبت 18 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

البحث عن ثورة SEXY في مقاهي (بلجراد)!

البحث عن ثورة SEXY في مقاهي (بلجراد)!
البحث عن ثورة SEXY في مقاهي (بلجراد)!


فى خريف العام 1998م.. وعلى أحد مقاهى «بلجراد»، كان ثمة مجموعة من «الشباب الصربى» على وشك تمزيق «الدليل القديم» للعبة الترويج للديمقراطية(!)
حينذاك.. كان أن جلس وسط «المجموعة» شاب «طويل القامة»، «حاد الملامح»، يشرح باستفاضة لنحو 25 شابًا، وفتاة، ما هم مقدمون عليه خلال الفترة التالية (!).. كان هذا الشاب، وقتئذ، هو الناشط الصربى «سرديا بوبوفيتش» (Srdja Popovic)، الذى أصبح - فيما بعد - صاحب «البصمة الأشهر» على العديد من استراتيجيات «إسقاط»، و«تغيير الأنظمة» فى أوروبا، والشرق الأوسط.
لكن.. لم يكن من قبيل «المصادفة»، إذ ذاك - بأى حال من الأحوال - أن يحظى ذلك «الشاب» برعاية خاصة من قِبل «وزارة الخارجية الأمريكية»، إذ كانت استراتيجية تغيير أنظمة دول الاتحاد السوفيتى «السابق»- فيما بعد تفكك «الاتحاد» العام 1991م- ومحاولة تصعيد «أنظمة بديلة»؛ تمثل - فى مجملها - امتدادًا استراتيجيًّا جديدًا للولايات المتحدة الأمريكية (إلى جوار خصمها السابق).. فضلاً عن كونها إحدى نقاط الارتكاز «المرحلية» بالنسبة لسياسة «واشنطن» الخارجية.



وقتها.. كان الرئيس الصربى الأسبق «سلوبودان ميلوشيفيتش» (Slobodan milosevic)، لا يزال راسخًا بالسلطة لنحو 9 سنوات.. إذ قاد، خلال تلك السنوات، البلاد نحو أتون ثلاث حروب مختلفة.. وهو ما قاد - بدوره - «الاقتصاد الصربى» لمأزقٍ صعب، إذ خلال عقد من حكمه؛ تفتتت «يوجوسلافيا»، وانهار اقتصادُها.. وبعد أن وصل ناتجها القومى «الإجمالى» إلى 30 مليار دولار، ونصيب الفرد منه أكثر من 3000 دولار؛ هبط هذا الناتج إلى الثُلث.. وكذلك نصيب الفرد.
ومن ثمّ.. مثَّلت تلك الأوضاع المتدهورة «نقطة مفصلية»؛ لتحريك الشارع الصربى، إذ كانت «الساحة الداخلية» الصربية، تشهد - من بين ما تشهده وقتئذ - العديد من حالات المخاض السياسى.
فعندما قرر «ميلوشيفيتش» الدعوة للانتخابات العامة؛ لكى يُعبئ الشعبَ وراءَه - مرة أخرى - خلال المواجهة «المقبلة» فى البلقان حول «إقليم كوسوفا»؛ أُتيحت الفرصة للمعارضة؛ لكى تحاول - من جديد - خلق «الخيار البديل».. والتفّ ثمانية عشر حزبًا، وحركة سياسية حول رجل أكاديمى «خجول»، هو «فويسلاف كوشتونيتسا» (Vojislav Kostunica) - كان أستاذًا للعلوم السياسية، والقانون الدستورى بمعهد الفلسفة والفكر الاجتماعى - لكى يكون المرشح الرئاسى أمام «ميلوشيفيتش».
وحتى ذلك الوقت.. كان الشارع اليوجوسلافى (الصربى) يرى أنّ «كوشتونيتسا» على موعد «قدرى» ومستقبل البلاد(!).. إذ راجت بين صفوفه العديد من الروايات، و«الحكايات»، التى تصب - فى مجملها - نحو ذلك الهدف (!)، إذ جاء الرجل من قرية «كوشتونيتسا» (قرية بالقرب من جبل سوفوبور فى صربيا).. وهى قرية، لطالما ردد أهلُها - وفقًا للروايات «المتداولة» - «نبوءة» تقول: إنه سيظهر رجل يحمل اسم القرية، وينقذ صربيا.
.. وعندما ظهر «فويسلاف كوشتونيتسا»؛ كان هو ذلك الرجل (!).. إلا أنّ «كوشتونيتسا»، الذى كان على موعد مع قدر «يوجوسلافيا»، لم يكن لديه طموح مبكر فى احتراف السياسة، بل اختار «دراسة القانون».. وعمل أستاذًا للقانون حتى طُرد من كلية الحقوق بـ«جامعة بلجراد»؛ لأنه لم يؤيد مشروع دستور 1974م.. فعمل بالمحاماة، حتى سمحت له السلطات بالتدريس فى «معهد الفلسفة والفكر الاجتماعى».
وكان عزوف «كوشتونيتسا» المبكر عن احتراف السياسة يرجع إلى رفضه الانضمام للحزب الشيوعى (كان الحزب - وقتئذ - هو المدخل الرئيس للنشاط السياسى).. إلا أنه بعد سقوط الشيوعية، وانهيار «الاتحاد السوفيتى»، قام بتأسيس الحزب الديمقراطى العام 1989م.. وعندما اختلف مع صديقه اللدود «زوران جينجش»، الذى كان نائبًا لرئيس الحزب (أصبح رئيسًا للحزب، ورئيسًا للحكومة الصربية بعد الإطاحة بـ«ميلوشيفيتش»)؛ خرج «كوشتونيتسا»؛ ليؤسس «حزب صربيا الديمقراطى» (Democratic Party of Serbia) العام 1992م.. ومن ثمَّ، أصبح «كوشتونيتسا» فى خريف العام 2000م، هو المرشح الرئاسى «التوافقى» لتحالف قوى المعارضة، إذ كانت تلك القوى - كما روّجت، حينئذ - تبحث عن مرشح لم تتلوّث سمعته بالارتباط بنظام «سلوبودان ميلوشيفيتش».. إلا أنه كان يتمنّع - حتى اللحظة الأخيرة - عن تلبية تلك الدعوة، وهو ما استدعى تدخلاً مباشرًا من صديقه «جينجش»؛ لإقناعه بضرورة دخول الانتخابات، إذ وصف «جينجش» ذلك الأمر بقوله: «إنها كانت أصعب مهمة فى حياتى».
■ ■ ■
فى سياق عمليات «المخاض الصربى» تلك.. كانت «الساحة الطلابية»، أيضًا، تشهد العديد من الأنشطة الاحتجاجية، إذ قاد الشاب الصربى «سرديا بوبوفيتش»، ورفاقه تلك الاحتجاجات لسنوات.. وكان من بين تلك الأنشطة السير لمدة 100 يوم «متتابعة»، فى صف واحد.. إلا أنّ تلك الجهود كافة؛ لم تُسفر عن شيءٍ يُذكر، حينئذ.. يقول «بوبوفيتش» نفسه: «لقد كنا، وقتئذ، فى الدرك الأسفل من الاكتئاب».
كان «بوبوفيتش»، ورفاقه قد أطلقوا على حركتهم الطلابية اسم «أوتبور» (Otpor)، وتعنى: «المقاومة» باللغة الصربية.. وعبر الدعمين: (المالى، والتقنى) من قِبل «الولايات المتحدة الأمريكية»؛ كان أن بدأت الحركة فى التمهيد للثورة (!)
ووفقًا لما كشفه، فى حينه، «بول مكارثى» (Paul B. McCarthy) أحد قيادات «الوقفية» أو الصندوق الوطنى للديمقراطية (NED)؛ فإن «الأموال الأمريكية» بدأت تتدفق على «أوتبور»- بشكلٍ متتابع - منذ آب/ أغسطس من العام 1999م، (فضلاً عن نحو 3 ملايين من الدولارات، تم إنفاقها على الحركة، منذ أيلول/ سبتمبر من العام 1998م)، إذ كانت «أوتبور» هى المتلقى الأكبر لأموال «المساعدات الأمريكية» من بين فصائل «المعارضة الصربية»، التى شاركت فى الإطاحة بـ«ميلوشيفيتش» (أى: الثمانية عشر حزبًا، الأخرى).
وأوضح «مكارثى»؛ أن «التمويلات» كانت تُضخ عبر «حسابات خارجية» للحركة.. بشكل متزامن، مع اللقاءات التى كان يعقدها «بنفسه» مع قيادات الحركة بـ«بودجوريتسا» (Podgorica)، عاصمة «الجبل الأسود» (Montenegro)، وفى كلٍّ من: «بودابيست» (Budapest)، و«سيجيد» (Szeged) بـ«المجر».
وفيما أوضح مدير المساعدات «دونالد بريسلى» (Donald L. Pressley)، أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)؛ ضخّت وحدها، لدعم الاحتجاجات ضد «ميلوشيفيتش»، نحو 25 مليونًا من الدولارات؛ كان أن ذهبت التقديرات الأمريكية (الرسمية) إلى أنّ إجمالى ما تم إنفاقه داخل «صربيا»؛ للإطاحة بـ«ميلوشيفيتش»، يُقدّر بنحو 41 مليونًا من الدولارات.
يقول «دونالد بريسلى»، أيضًا: إنّ «مئات الآلاف» الأخرى مُنحت للحركة (بشكل مباشر)؛ لتوفير الأدوات اللازمة للعملية الاحتجاجية، مثل: الـ«تى - شيرتات» (T-shirts)، والملصقات (stickers).. بينما كشف «دانيل كالينجيرت» (Daniel Calingaert) أحد مسئولى «المعهد الجمهورى الدولى» (فى سياق حديثه عما كان شاهدًا عليه، بنفسه)، عن أن معهده (IRI) منح «أوتبور» نحو 1.8 مليون دولار، خلال الفترة نفسها.
ورغم أنه (أى: كالينجيرت) التقى بنفسه وعدد من قيادات الحركة (نحو من 7 إلى 10 مرات) فى «المجر»، و«مونتينيجرو» (الجبل الأسود)، ابتداءً من تشرين الأول/ أكتوبر من العام 1999م؛ فإن منظمته لم تكتفِ بذلك.. إذ استضافت نحو 20 من نشطاء الحركة (كان على رأسهم: «سرديا بوبوفيتش») داخل فندق «هيلتون بودابيست» (Budapest Hilton) باهظ التكاليف، خلال الفترة من 31 آذار/ مارس إلى 3 نيسان/ أبريل من العام 2000م؛ لتدريبهم على «تكتيكات التغيير الأمريكية».. إذ كان «الدعم التكتيكى» (على حد توصيفه) مهمًّا بقدر أهمية «الدعم المالى» للحركة(!).. وبيَّنَ «كالينجيرت» أن «قيادات أوتبور» التقوا خلال تلك الفترة والجنرال «روبيرت هيلفى» (Robert Helvey) - أحد جنرالات الجيش الأمريكى «المتقاعدين»- للتعرف على تطبيقات «مقاومة اللاعنف».
■ ■ ■
كانت «العقبة الأولى» أمام نشطاء «أوتبور» (والأكثر صعوبة، أيضًا)؛ هى كيف سيتمكنون من تغيير قناعات، وسلوكيات المواطنين فى «بلجراد»؟، إذ كانوا على قناعة - وفقًا لاستطلاعات رأى تم إجراؤها، حينئذ - بأنّ أغلب المواطنين - فى ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية، والأمنية - غير راضين عن استمرار «ميلوشيفيتش» فى موقعه.. لكنهم، يعتقدون - أيضًا - أنّ الإطاحة به ضرب من ضروب المستحيل، وأن مجرّد المحاولة أمرٌ شديد الخطورة؛ خصوصًا فى ظل ضعف «الأحزاب السياسية» القائمة.
إلا أنّ الرهان الأساسى لمؤسسى «أوتبور» كان على فئة الشباب.. إذ باتت لديهم قناعة بأن تلك الفئة يُمكن أن تشارك سياسيًّا، إذا ما نجحوا فى إقناعهم بأن ما يفعلونه «أمر بُطوليّ»، وأنهم جزءٌ من عملٍ كبير.
يقول «ماروفيتش» (Marovic)، أحد قادة «أوتبور»: لقد كانت ثورة «ما بعد الحداثة».. إنّ «منتجنا»، هو أسلوب حياة (Our product is a lifestyle).. فقد كُنّا نحاول أن نجعل السياسة «مثيرة» (sexy).. فعلى العكس مما يفعله السياسيون «التقليديون» ممن يلقون خطبهم أمام مؤيديهم؛ اختارت «أوتبور» أن تكون القيادة جماعية، وبلا خُطبٍ على الإطلاق.. فإذا كانت «المنظمة» (الحركة) قد استوحت إلهامها من كل من: «غاندى»، و«مارتن لوثر كينج»؛ فإنها قد اتخذت - أيضًا - العِظة من شركة «كوكا كولا» (Coca - Cola)، إذ كانت رسالتها «بسيطة»، و«مؤثرة»، فضلاً عن أنها علامة تجارية قوية.. لذلك كان شعار «أوتبور» (القبضة المضمومة، ذات اللونين: الأبيض والأسمر) مصادرة ساخرة وتهكمية لرمز «الثوار الصرب» (القبضة الحمراء)، خلال الحرب العالمية الثانية، بشكلٍ خاص، و«الحركات الشيوعية» فى كل مكان، بشكلٍ عام.
ابتعدت «أوتبور»- جزئيًّا، بدافع الضرورة - عن «تكتيكات المعارضة التقليدية»، فضلاً عن تجمُّعاتها، ومسيراتها.. إذ لم يكن لديها، حتى ذلك الوقت، العدد الكافى لتحقيق ذلك الغرض.. واعتمدت - بدلاً من الخطب السياسية، والكلام المنمق - على تكتيك «مسرح الشارع» (street theater)، المبنى على «السخرية» من تصرفات الحكومة (وقائد الدولة)؛ لجعلها تبدو كما لو أنها «سخيفة المضمون».. وهى تحركات حظيت - فى حينه - بدعم واهتمام «وسائل إعلام المعارضة» كافة، إذ كانت «عملية السخرية» تلك هدفًا دائمًا لتكتيكات الحركة؛ لكسر «الصورة الذهنية» عن القادة السياسيين أمام «الرأى العام» الصربى.
وكانت الحيلة «الأشهر» التى لجأ إليها أعضاء الحركة، وقتئذ، هى وضع صورة «ميلوشيفيتش» فوق برميل نفط داخل أحد الشوارع المزدحمة، ومطالبة المارة بوضع «عملة معدنية»؛ لكى يحظوا بشرف ضرب «ميلوشيفيتش» بمضرب.. وهو ما سبَّب أزمة حقيقية للحكومة الصربية، فى حينه.. إذ لو تركت الأمر من دون تدخُّل؛ فسوف تبدو وكأنها ضعيفة.. لكنها عندما قررت التدخل، والدفع بـ«قوات الشرطة» إلى حيث يتواجد أعضاء الحركة؛ لاذ جميعهم بالفرار (!).. وفى اليوم التالي؛ عرضت «وسائل إعلام المعارضة» صورًا لقوات الشرطة؛ وهى تلقى القبض على البرميل، وتضعه داخل إحدى الشاحنات (!).. ومن ثمَّ؛ أصبحت تلك «المُزحة» حديث الشارع الصربى، فيما بعد، إذ بدأ فى الانتباه للحركة، وأعضائها (!)
.. وهو ما شجّع «أوتبور» - بدلاً من تجنب القبض على أعضائها - على مواصلة استفزاز الحكومة الصربية، واستخدام «عمليات الاعتقال» التالية لتلك الاستفزازات، فى الترويج للحركة بشكل أكبر.
وعندما كان يتم القبض على أى عضو من أعضاء الحركة؛ كانت تدفع «أوتبور» بالعديد من الحشود المؤيدة لها؛ لخلق حالة من الصخب خارج أقسام الشرطة.. حتى إذا ما تم الإفراج عن أحدهم؛ وجد فى استقباله العديد من «صحفيى المعارضة»، وحشود الأصدقاء (!)
.. وتدريجيًّا، بدأ العديد من الشباب فى التنافس على تصدر «المشهد الثورى»، إذ إنّ القبض على أى منهم؛ كان يجعله أقرب إلى نجم من نجوم الروك (a rock star).. وبعد عامين على تأسيسها؛ وصل مؤيدو «أوتبور» لنحو 70 ألفًا، كان أغلبهم ينظر لنفسه كـ«بطل قومى».
يقول «جيمس أوبراين» (James  OصBrien)، مبعوث «إدارة كلينتون» الخاص لدول منطقة البلقان: أكثر ما فعلوه أنهم دفعوا «الصرب»، الذين كانوا يعتقدون أن النظام لا يُقهر؛ لأن يؤمنوا بأن التغيير يمكن أن يأتى.
وبحلول الوقت الذى دعا خلاله «ميلوشيفيتش» لإعادة انتخابه رئيسًا لـ«يوجوسلافيا» (أى: فى أيلول/ سبتمبر من العام 2000م)، نظّمت «أوتبور» حملة احتجاجية «طويلة الأمد»، أدت إلى تآكل شعبية الرئيس الصربى «الأسبق» بشكل أكبر، وتوحيد المعارضة خلف «فويسلاف كوشتونيتسا».. وعندما رفض «ميلوشيفيتش» الاعتراف بالهزيمة أمام مرشح المعارضة؛ كانت حملات «أوتبور» حاسمة فى إقناع «قوات الأمن الصربية» بتحدى أوامر «ميلوشيفيتش»، والتخلى عنه.. وهو ما دفع «الرئيس المحاصر»؛ للاستقالة فى 7 تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه.
.. وبعد أن حدث ما لم يكن يتصوره الشباب الصربي؛ كانت «الخطوة التالية»؛ هى البحث عن كيفية تصديره للآخرين (!).. وفى غضون بضعة أشهر من الإطاحة بـ«ميلوشيفيتش»؛ بدأ قادة «أوتبور» فى مد جسور التواصل مع من اصطلح على تسميتهم بـ«نشطاء الديمقراطية» فى البلدان الأخرى؛ لاستنساخ «التجربة الصربية».. ومن ثمَّ، توجه «سلوبودان ديينوفيتش» (Slobodan Djinovic) - أحد مؤسسى «أوتبور» الأصليين - نحو «روسيا البيضاء» (Belarus)؛ لعقد لقاءٍ «سريّ» مع إحدى الحركات الطلابية هناك.. إلا أنَّ هذا الأمر تم اختراقه مُبكرًا، وانهارت «الحركة الوليدة» فى نهاية المطاف.. لكن كان الحظ هو حليف «ديينوفيتش» (1)، فيما بعد، داخل «جورجيا»؛ حيث أسس عدد من الشباب هناك (العام 2002م) حركة جديدة تحت مُسمى «كمارا» (Kmara).. وتعنى: «كفاية»(!)
وبدلاً من الانتقال إلى «جورجيا» - هذه المرة - بدأ «ديينوفيتش»، وقادة «أوتبور» الآخرون، فى استضافة طلاب «حركة كمارا» داخل صربيا، إذ نجحت الحركة - عبر الدعم التقنى، والتكتيكى لـ«أوتبور» - فى الإطاحة بـ«إدوارد شيفاردنادزه» (Eduard Shevardnadze) - شغل منصب «رئيس جورجيا» منذ العام 1995م - بعد الانتخابات التى تم إجراؤها فى تشرين الثانى / نوفمبر من العام 2003م، فيما أصبح يعرف باسم «الثورة القرمزية»، أو «ثورة الزهور» (the Rose Revolution).. إذ كانت الأحداث داخل «جورجيا» قد أخذت فى التصاعد - بشكل تدريجى - وقتئذ، بفضل عمليات الدعم «التكتيكى» من حركة «أوتبور».. وعندما وصلت «سخونة الأحداث» إلى ذروتها؛ كان أن اقتحمت «المعارضة الجورجية» مبنى البرلمان، أثناء إلقاء الرئيس لكلمته (!).. ويُقال إن عددًا من المتظاهرين كانوا يحملون بين أيديهم باقات من الزهور أثناء عملية الاقتحام تلك (!).. وهو ما دفع «الرئيس الجورجى» للهرب من البرلمان، والتخلى عن موقعه.
كما انعكست تكتيكات «أوتبور» أيضًا - بعد عام تقريبًا من أحداث جورجيا - على جُل المشاهد التى شهدتها  «الثورة البرتقالية» (The Orange Revolution) فى «أوكرانيا»، حيث قضى «نشطاء أوتبور» شهورًا فى تقديم النصيحة، والمشورة لشباب حركة «بورا» (Pora)، وتعنى: «حان الوقت» (Itصs Time).
وفيما تم تقدير حجم «الأموال الأمريكية» التى تم ضخها داخل «أوكرانيا»، وقتئذ، بنحو 14 مليونًا من الدولارات، بشكل مبدئي؛ ذهبت التقديرات «النهائية» إلى أن «إدارة بوش» (الابن) أنفقت ما يقرب من 65 مليونًا من الدولارات خلال العامين «التمهيديين» للثورة الأوكرانية، بالتعاون مع شركائها الغربيين، مثل: بريطانيا، وكندا، والنرويج، والدنمارك، والسويد، وسويسرا.. إذ سرعان ما لجأت «المنظمات غير الحكومية» (الغربية)، و«منظمات المجتمع المدنى» التابعة لها؛ إلى ضخ تمويلاتها الضخمة، فى أعقاب انهيار «الاتحاد السوفيتى»؛ دعمًا لميزانيات، وتدريبات، و«تكتيكات» العديد من «المنظمات»، و«الحركات الاحتجاجية» داخل «جمهوريات الاتحاد» السابقة؛ لتغيير أنظمة تلك الجمهوريات الحاكمة،. بدءًا من «صربيا»، وحتى «قيرغيزستان» (Kyrgyzstan) العام 2005م.
.. وهو دورٌ لعبت خلاله المؤسسات «الخاصة» مثل: معهد المجتمع المفتوح (Open Society Institute)، الذى يديره الملياردير اليهودى المعروف «جورج سورس» (George Soros)، دورًا محوريًّا (جنبًا إلى جنب) مع حكومات الدول الغربية.
■ ■ ■
ووفقًا للعديد من المراقبين «الغربيين»؛ فإن «نقطة التحول» الأكثر سخونة فى مسار الحركة؛ كانت خلال الرحلة «التدريبية» التى قام بها عدد من نشطائها إلى «جنوب إفريقيا»؛ لدعم نشطاء «زيمبابوى» العام 2003م.. إذ قرر كلٌ من: «سلوبودان ديينوفيتش»، و«سرديا بوبوفيتش» (مؤسسا أوتبور)، خلال تلك الرحلة، وضع حجر الأساس لمركز «كانفاس» (CANVAS)، أو «المركز التطبيقى لحركات اللا عنف والاستراتيجيات» (Center for Applied Nonviolent Action and Strategies)؛ ليُدربا - من خلاله - على طريقة «أوتبور» نشطاء الحركات الاحتجاجية بـ«46 دولة» مختلفة.
وكانت تلك المؤسسة الجديدة تطويرًا مباشرًا لتكتيكات «أوتبور»، التى استمدت أفكارها - من حيث الأصل - من أفكار الأكاديمى الأمريكى «جين شارب» (Gene Sharp) عن حركات اللا عنف.. إلا أنهما (أى: ديينوفيتش، وبوبوفيتش) عملا - بالتعاون مع رفقائهما الآخرين - على تطويرها، والإضافة إليها من واقع خبرتهم «جميعًا» فى الإطاحة بالرئيس الصربى «الأسبق».
ففى ذلك الوقت (أى: توقيت تأسيس «كانفاس»).. كان «بوبوفيتش» عضوًا بالبرلمان الصربى، لكنه استقال، فيما بعد، العام 2004م، مُفضّلاً العمل كمدربٍ على صناعة الثورات (!).. كما كان «ديينوفيتش» هو أول مؤسس لخدمة الإنترنت الهوائى فى صربيا (wireless Internet service) العام 2000م.
وفى أعقاب تدشين «كانفاس» (2)؛ مدَّ المركز جسور التواصل والتنسيق مع كلٍّ من: «منظمة الأمن والتعاون فى أوروبا»، و«برنامج الأمم المتحدة الإنمائى»، ومنظمة (Humanity in Action) الدولية.. إلى جانب مؤسسة «ألبرت أينشتاين» (Albert Einstein Institution)، ومؤسسة «فريدم هاوس» (Freedom House) الأمريكية - إحدى الأذرع التى تحركها «الأجهزة الاستخباراتية» فى واشنطن (إذ كانت «فريدم هاوس» أيضًا؛ إحدى المؤسسات التى تعاونت معها الحركة (تمويليًّا) - فضلاً عن بقية فصائل «المعارضة الصربية» - فيما قبل الإطاحة بـ«سلوبودان ميلوشيفيتش»).. إلى جانب المعهد الجمهورى الدولى (IRI)، الذى يضم العديد من «صقور» واشنطن، ومسئوليها الأمنيين.
ووفقًا للمراقبين أنفسهم؛ كانت «أوتبور» - على غرار المعارضة الصربية، كلها! - تحصل على أموالها من «الحكومة الأمريكية»، ثم تُكذِّب هذا الأمر (!).. وعندما خرجت «القصة الحقيقية» للنور، بعد سقوط «ميلوشيفيتش»؛ استقال العديد من أعضاء الحركة (أى: حركة «أوتبور»)؛ لشعورهم بالخيانة.
لكن.. سواء أكان شعور أعضاء «أوتبور» بالخيانة «متأخرًا»، أم فى وقته؛ فإن «المركز» الذى تم تأسيسه على أنقاض الحركة؛ كان صاحب بصمة «بارزة» فى تمهيد الأرض داخل بلدان «الشرق الأوسط»؛ لاستقبال أكثر المشروعات الأمريكية إثارة للجدل.. ونقصد بذلك: «مشروع الشرق الأوسط الكبير»، أو «المُوسَّع» (!)
هوامش:
(1)- يقود «ديينوفيتشش حاليًّا أكبر شركة خاصة للاتصالات وخدمات الإنترنت بصربيا، إذ تتكفل تلك الشركة، تقريبًا، بنصف نفقات «ورش العمل»، و«التدريبات»، التى يشرف عليها مركز «كانفاس».
(2)- يصف عدد من الخبراء «الجيو - سياسيين» بالولايات المتحدة الأمريكية؛ مركز «كانفاس» بأنه: «معهد المخابرات المركزية للانقلابات» (CIA Coup-College)..■