الثلاثاء 7 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

نعيق فى الميدان

نعيق فى الميدان
نعيق فى الميدان


عادل عصمت
 
تنشغل هذه الزاوية التى تستحدثها «روزاليوسف» بصوت الروائى أو المبدع نفسه. صُورة مقرّبة ولصيقة أكثر للعمل. صحيح من الهُراء أن يشرح كاتب عمله، هذا تبسيط مُخلّ. لكن الفكرة هنا تُركّز على ما يمكن تسميته بـ«كواليس الكتابة»، أحيانا هناك ما يودّ الكاتب قوله خارج عمله عن عمله. شهادة ذاتية، إنسانية أكثر، يصف فيها الكاتب رحلته الشخصية فى عمل ما، منذ كان فكرة برقت فى ذهنه وخياله وحتى مراحل البحث والكتابة إلى خروجها للنور فى كتاب. رحلة تحفظ بصمات الظرف التاريخى والاجتماعى والسياسى والإنسانى والشخصى والإبداعى الذى صدر فى أعقابه هذا العمل الأدبى.
وفى السطور التالية عادل عصمت يحدثنا عن مشهد مجموعات الشباب أصحاب الـ«تى شيرتات» السوداء الذى تحول إلى رواية «صوت الغراب».

فى ديسمبر من عام 2005، كنت أكتب مقالا لمجلة «أمكنة»، أخذ بعد ذلك عنوان: «تحديد إقامة» عن الشباب الذين يغرقون على شواطئ ليبيا، أثناء محاولتهم عبور البحر المتوسط فى طريقهم إلى أوروبا. المقال كان تأملا فى خبر نشرته جريدة الأهرام فى مارس من نفس العام. أظن أنها كانت بداية تلك الموجة من الصراع بين الرغبة فى نيل المستقبل أو الموت فى جوف البحر التى لم تتوقف حتى الآن، واستدعى ذلك اهتمامى بفكرة «المستقبل»، «الحبس».
فى طريقى إلى عملى ومشاويرى فى مدينتى والعودة ليلا من السهر مع بعض الأصدقاء، أمرّ بمجموعات من الشباب اتخذوا من التقاء عدد من الشوارع فى شرق مدينة طنطا مكانا لهم. يجلسون على سور «المركز الطبى» وعلى حافة المكان الذى كان قديما «جمعية تعاونية» على طراز الستينيات، أو على ناصية شارع قطينى. مركز هذا التجمع كشك أمام عمارة ضخمة يُشاع أنه يبيع المخدرات.
ذات ليلة كنت عائدا متأخرا، من سهرى مع بعض الأصدقاء. لاحظت مجموعة صغيرة من الشباب يرتدون جميعا «تى شيرتات» سوداء يقفون فى ظل ذلك الكشك. كان الصمت يغلق المكان؛ فالمدينة تُصبح فى ليل الشتاء جرداء. ما إن عبرتُ الميدان حتى سمعت نعيق غراب، تلاه نعيق آخر وآخر. توقفتُ مكانى واستدرت لأتبيّن المشهد. لا أحد يضحك، لا أحد يُعلّق بكلمة أستشفّ منها حقيقة ما يحدث، حتى من كان منهم يجلس بعيدا على سياج سور المركز الطبى انتبهوا لكنهم عادوا لأحاديثهم «عادى». استمر الصوت يلاحقنى بتنويعاته المختلفة حتى عبرتُ شارع الحلو فى طريقى إلى بيتى.
تعلّقت هذه اللحظة بخواطرى على أنها «رمز» لا أتمكّن من فهم دلالته. كنت أعرف قصة الميدان وتحوّلاته، فقد كان طريقى إلى مدرستى لما كنت صبيا فى المدرسة الإعدادية فى بداية السبعينيات، ثم عملت فى نفس المدرسة أمين مكتبة فى التسعينيات، ووقتها كان أحد أصدقائى يملك محلا للألبان أمام المركز الطبى وكنت أسهر هناك مرّة أو مرتين فى الأسبوع حتى توفى صديقى مريضا بالقلب وأجّر إخوته المحل صيدلية مازالت قائمة. أعرف الميدان من أيام ما كان مكانا مظلما حتى بدأت تحوّلات التسعينيات تجرى فيه عندما سكنه هؤلاء الشباب بالليل، وراقبت بدهشة ما قد حدث فى سنوات قليلة، فقد افتتحت - بعد أن أفرغت شقق الطابق الأرضى من سكانها - محلات للأطعمة والأحذية والملابس والإكسسوارات. كلما شاهدت مجموعات الشباب تلتمّ فى الليل وتتبدد بالنهار، تذكّرت نعيقهم فى الميدان، وبدأت أتحرّى المعنى الاجتماعى لعيشهم بالليل يرتدى بعضهم الملابس السوداء ذات الجمجمة والعظمتين، وفكرت أكتب مقالا عن تحوّلات المدينة لمجلة «أمكنة»، لكنى لم أتمكن من تفسير نعيقهم، وربطه بانغلاق الحدود وغياب الأمل فى التحقق، حتى جاءت أحداث عام 2011 وفكّرت فى ذلك الشخص الملتبس الهوية، الذى يتصرّف كإنسان لكنه يدرك أن كائنًا آخر يتشكّل فى كيانه، وبالتدريج يتعرّف على ذاته كغراب ينعق فى الميدان؛ يرفض نظام الحياة وعلاقاتها الراسخة، لكنه لا يملك ما يقيمه بديلا لها، وأدركت أن ذلك يمثل المناخ الشعورى لما يحدث حولى من اضطراب سياسى واجتماعى.
الأمر صعب أن تفكر فى كتابة قصة خيالية على أنها نسيج واقعى، دون أن تأخذ نبرة الفانتازيا.  قضيت عاما كاملا أتتبّع سيرة ذلك الغراب الذى يقود جوقة الميدان فى النعيق، حتى أنهيت العمل فى مارس 2013، وحتى الآن يدهشنى كيف تحوّل هذا المشهد إلى رواية «صوت الغراب»؛ كيف شكلت العمليات الداخلية للعقل عُشّا له من نتف متناثرة من التأملات وحوادث لم يكن لها علاقة ببعضها وقت حدوثها.>