الثلاثاء 12 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الأكل الحرام على موائد الأقباط!

الأكل الحرام على موائد الأقباط!
الأكل الحرام على موائد الأقباط!


مبدئيا، لا يخلو هذا الموضوع من طرافة، رغم مداخله الشائكة والخلافية.
رحلةٌ داخل المطبخ القبطى بكل خصوصيته، نقترب فيها من صورة حيّة لمحتويات أصناف ووجبات الأطباق فى البيوت القبطية «المحفوفة بالأسرار»، والتخفيّ أحيانا.
الأكثر من ذلك؛ وصفات «مُجرّبة» للمأكولات والمشروبات القبطية فى المناسبات الدينية. فى كل هذا، عمد صاحب الرحلة إلى «الفكاهة» فى عرض وجهات نظره ورؤيته، بأسلوب ينطوى على مستويات أدبية متعدّدة.
يتأمّل شارل عقل، كاتب وسيناريست شاب، «عاما كاملا فى المطبخ القبطى». يمرّ على أيام الفرح والحزن والتقشّف و«الرفاع» والمواسم والأعياد. بوصفه قبطى هجر كل مظاهر الدين، وأبرزها الصيام، يُحاول التحرّر من الإرث الذى أصبح ثقيلا مع الوقت.
بحسب عقل:لا المسيحية الآن أصبحت ما كانت عليه، أو ما يجب أن تكون عليه، بينما المسيحيون فى الشرق يتخلّون، أو يتخفّفون شيئا فشيئا من ملامح ورموز تعاليمهم، التى يختبرها الشاب هنا فى المطبخ والأكل.
بلا إنكار مُتحذلق لما فى بعض هذه التصوّرات والدلالات المسيحية للطعام من «سذاجة»، يلج عقل بعمق، من دون أى حساسية أو تحسّب، إلى صميم المشهد القبطى وممارساته المتناقضة، التقشّف وإخماد شهوات الجسد فى الصيام، فى مقابل الإسراف فى إعداد الموائد والأصناف، حتى الصيامى منها.
حياة دأبت على الانغلاق، يُرفع عنها الغطاء، وتُفتح الأبواب المغلقة، فى مرّة من المرّات التى تُعدّ نادرة. ربما يُعبّر شارل عن رؤية جيل جديد يتمرّد على الموروث، وربما تُثير تأمّلاته الصادمة هنا حفيظة المُسلم والمسيحى على السواء. لكنها على أية حال؛ مُحاولة فريدة لم يجانب صاحبها الإمتاع.

 الأقباط المتأسلمون
تتغيّر قناعة القبطى بسهولة ولين. هذا ما نفهمه من دراسة «شارل عقل»، بكثير من الصرامة الصادمة، للمسلم قبل المسيحى.
من بين ما يتعرّض له فى هذا التحليل، أن المسيحيين فى مصر، الأرثوذكس بالتحديد، وبكثير من الشعائرية والتمسّك بطقوس العبادة، ينظرون لأنفسهم نظرة تقييم إسلامية. نتيجة المجاورة التاريخية والجغرافية لسنوات طويلة مع المسلمين فى منطقة الشرق الأوسط، يجد فى ذلك تفسيرا لانشغال المسيحى فى مصر بمبدأ النديّة والمنافسة؛ فهو يبرهن دائما على تديّنه بأنه ليس أقل من المسلم، ويتمادى انسياقه - المسيحى المصرى - فى هذه «المزايدة» حتى ضمّ إلى قائمة الفروض والمحظورات، الخمر والخنزير.
علاقة القبطى بالخمور خلال العقود الأخيرة، يرى شارل أنها «أصبحت على مشارف انهيار حتمي».
من هنا تأتى أحكامه القاسية من قبيل: الهوية القبطية المسيحية رمادية، متماهية، متواضعة، منطوية، تنزع إلى عدم الصخب أو الاختلاف الظاهر الذى يجلب المساءلة والمشاكل. وبشكل تعويضى، تضمن الشخصية القبطية بقاءها بالتواؤم مع احتياجات كل مرحلة، إما بالتضاد أو الحذف أو الزيادة، على حسب كل قضية.
 الخنزير والخمور: الأقباط بين الحرام والحلال
يُخبرنا شارل، دونما تخلٍّ عن سخريته الصادمة كالمعتاد، عن الصورة التى تتراءى للمُسلم، إذا فكّر فيما قد يُعبّر عنه عنوان مثل (المطبخ القبطي). يتخيّل على الفور وأولا مأدبة حصرية من لحم الخنزير بمختلف أنواعه، المقدّد والمطبوخ والمُدخن والمخلل والمشوى والمسلوق والطاجن مع البطاطس، مصحوبا بكوب البيرة. لهذا الاختزال فى نظره مبرّره فى المجتمع «الشرق أوسطي».
تقف المسيحية من مُحرّمات ومحظورات الطعام موقفا سلبيا. عن طريق اعتناء يسوع فى رواية متى بالطهارة الروحانية أكثر من الجسدية. لكن فى نفس الوقت، لم تتخذ المسيحية تجاه الخنزير مثلا موقفا ترويجيا كما قد يظن المسلم، ولكن كان موقفها على النقيض متأرجحًا ما بين السلبى عدم المكترث، والمُستاء، فإن لم تُذكر مقولة واحدة ذات دلالة واضحة تنهى عن أكل الخنزير، لم يُعامل الخنزير فى المقابل بكثير من الحفاوة أيضا.
مع الخمور، جاء التعامل بمزيد من الحساسية. فى الإسلام شُرب الخمر غير محبّذ، «إلا أنه لم يكن جرمًا هائلًا كذلك»، يُعقّب شارل. اليوم؛ وصل الأمر إلى ذروة الانحدار، حين استلزم فتوى شرعية لتقييم دواء به نسبة من الكحول! وفى المسيحية، ربما جاء الحذر من الخمر، نتيجة طبيعية للتعاليم التى تدعو لتجنّب الفرح الزائد والسعادة الزائلة، وتُحذّر من الإفراط فى الخمر فى المقابل، باعتبارها جميعا مدارج تقود إلى الخطيئة.
«هانج أوفر تاريخى طويل». هذا ما حدث لعلاقة القبطى بالخمر، بحسب وصف شارل عقل. اختار الأقباط قطع علاقتهم الرسمية بالخمور، التى امتدت لقرون، بينما ظلّت الخمر مختالة أمامه دائما، موجودة فى كتبه ومخيّلته وتاريخه وفى أحد بوفيهات السفرة، برّاقة وشهوانية، يشعر بوجودها ولكن لا يظفر بها.
 العشاء الأخير.. تلفيق أم  قداس
مازال «النبيذ» مُحتفظا بمكانه الخاص فى المنزل القبطى والموائد القبطية. لكن تعرّض هو الآخر لانحرافات أساليب التعايش والتحايل على التعاليم الدينية وأوضاع العيش فى مصر. تقول التجربة القبطية أن تفسيرا ومَخرجا شعائريا أصبغه القبطى على مشهد العشاء الأخير، ليواجه به المجتمع باستهلاكه للخمر!
ما تُدافع عنه رؤية شارل أن تناول الخمور متأصّل فى المسيحية بلا أى مجال للشك، ويصل وضوح هذا التأصّل ذروته فى مشهد العشاء الأخير. فى سهرة عيد الفصح، ليلة واحدة قبل تقديم يسوع للمحاكمة بتهمة تهديد الأمن العام وترويع المواطنين؛ يختار يسوع أن يُنهى رسالته كما بدأها بمشهد اجتماعى ترفيهى، يأكل فيه ويشرب مع أصدقائه ومريديه للمرّة الأخيرة، وما حدث؛ هو أن لجأ «المسيحى العربي» إلى تبرير ذلك المشهد لمواءمة المجتمع، ودحض تُهم التحريض على تناول الخمر الموجودة فى النصوص، وفى نفس الوقت الحفاظ على هذا التقليد حسب الوصيّة، فجعل منه بحسب وصف عقل «تمثيلية شعائرية ماسخة» خالية من الإنسانية، يقصد تحويلها إلى طقس «التناول» اليوم.
تذهب شطحات شارل إلى الأبعد. يتمنّى تغيير شكل وطقس القداس الإلهى المسيحى بالكامل ليناسب الفهم العصرى، ويتخلى عن شعائره بما فيها من صرامة وجدية غير إنسانية من وجهة نظره.
لا ينتهى هزل شارل عقل الجديّ حين يُطالب بـ«الدعوة إلى تأسيس بروتوكولات مجلس الخمر».
 رمضان قبطى: روائح الدونيّة
يذهب شارل بالهزل بعيدا عندما يُقدّم ما أسماه «قراءة فى ساندويتشات الأقباط المدرسية فى شهر رمضان». يحدث تغيير شبه كامل للنظام الغذائى لدى العائلة المسيحية فى شهر رمضان. يمتلئ المنزل القبطى حينها بنفس الأصناف المتوفرة فى السوق بالضبط كما تنتشر فى أى عائلة مسلمة، «التخفيضات لا دين لها».
لكن أمرا أقوى وأكثر ضغطا من التخفيضات يواجهه القبطى فى رمضان. هو ذلك الإحساس بالذنب حين يُبالغ فى استهلاك الكنافة والقطايف وسائر المنتجات الرمضانية، ذنب ناتج عن إحساس المسيحيين بالندية - بالرغم من قلّتهم العددية - ومقارنتهم الدائمة بين تأثّرهم بالنظام الغذائى الإسلامى وتأثير نظامهم على العائلة المسلمة. فمن المعروف أنه لا تتأثّر العائلة المسلمة كثيرا - إذا انعكس الوضع - بالاعتبارات الغذائية المسيحية، «نتيجة لعدم ظهورها فى الفضاء العام بنفس القدر من الوضوح واللجاجة» يكتب شارل.
هكذا تُغلّف المطبخ القبطى روائح الشعور بالدونية والاضطهاد والتقيّد أو التخلّى عن الهوية القبطية.
 فول الدير العظيم
تتعدّى تأمّلات كاتبنا فى المطبخ القبطى المنزلى، والأكل البيتى، إلى «أطباق الأديرة»، «طبق فول دير ماريمينا» على سبيل المثال الذى يقول عنه أنه أشهر الوجبات الغذائية «سوءا» ويعرفها كل قبطى فى مصر. لا يُخفّف عقل من صداميّته حين يتحدّث عن «مَضيَفة الدير» و«كانتين الكنائس». هذا النوع من المطبخ القبطى - كما يذهب - إذا أَعدّ بعض الساندويتشات الطازجة (غير المُعلّبة ولا سابقة الإعداد) وهو أمر تُوفّره الأديرة والكنائس الكبرى، كدير ماريمينا، «سوف تختبر عندها، «أوسخ» طبق فول قد تتذوّقه فى حياتك».
طبق الفول فى صيام المسيحيين «صفعة تأديبية» يقول شارل. ويمضى مستفيضا: الفول القبطى تهذيب وإصلاح، تقشّف وتألم، جلد للذات وازدراء للملذّات. هو طبق بائس يسد جوعا ولا يحتفى بالحواس.
 التحايل على الدين فى البيتزا الصيامى
الكنائس، مجتمع عمرانى متكامل، ما يُحيط الكنائس من مظاهر حياة كاملة، وحركة بيع وشراء، يتولاها شارل عقل أيضا بالنقد الجارح النافذ، يقول عن المجتمع الخارجى المُحيط بالكنيسة «المستوطنات المسيحية المحيطة» و«مجتمعات ثانوية طفيليّة». بجانب الكنيسة نجد مثلا، مصوّر ورق الكنيسة، ونجّار الكنيسة وحلاّق الكنيسة، وسمسار الكنيسة، ومحمصة لب الكنيسة، ومحل مورتاديلة الكنيسة. المُزحة لشارل طبعا.
وفى باب المخبوزات، وبين مبالغات التقشّف والإفراط توجد منطقة رمادية واسعة. فى هذه المنطقة تقع إحدى أهم سياسات المطبخ القبطى فى الطهو، يُسمّها شارل، بلا هروب من إضافاته وتعليقاته الهزلية، «سياسة عدم الانحياز».
كانت النتيجة أن ظهرت «نسخ صيامى لمعظم المأكولات»؛ المخبوزات باستخدام الزيت النباتى، الكريمر (مبيّض القهوة)، الذى ظهر بوصفه «طفرة» أوائل التسعينيات، ووصلت المبالغات فى نظره إلى الجبن الصيامى والمايونيز الصيامى، يقول: «أصبح لكل عالم المأكولات الفطارى الجذّابة، قرين سفلى، نسخة قبطية باهتة منها، وأصبحت جميع المأكولات عُرضة للتشوّه القبطي».